الشارع المغاربي-توفيق السالمي:الحقيقة أن حصول حزب سياسي في تونس باسم الحشد الشعبي على الترخيص القانوني كان أمرا مفاجئا غريبا بل ومفزعا. فالاسم يستدعي كل المتخيل العراقي المرتبط بهذه التسمية وكذلك المتخيل الأفغاني بل والمتخيل الألماني في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وكل سياقاتها الفكرية والسياسية والجغراسياسية. وحتى نفهم أسباب الغرابة والمفاجأة علينا وضع خصائص الحشد الشعبي العراقي أمام القارئ في تونس لتطابق التسميتين وبناء المقارنة بين طالبان الأفغانية وكتائب العاصفة الهتلرية لاحقا ثم ربط التسمية بالرؤية السياسية للسلطة السياسية الجديدة في تونس بعد 25 جويلية أي سلطة قيس سعيد.
أول خصائص هذا الحشد في العراق أنه إطار نشأ على قاعدة فتوى صدرت في النجف وكربلاء هي فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الشيعي علي السيستاني في مواجهة تنظيم داعش. لقد كان تبرير الفتوى وغايتها هو حماية العراق من أن يضيع لصالح داعش.
السمة الثانية للحشد الشعبي العراقي أنه تنظيم شعبي مسلح يعمل تحت إمرة الحكومة العراقية. فإذا كان للحكومة جيشها وأمنها المسلح والمدرب والمنظم فإن هذا التنظيم هو في الواقع ذراعها السياسي الذي يمارس السياسة بوسائل غير سياسية.
وما يؤكد قولنا السابق أن مكونات الحشد الشعبي العراقي الأساسية هي كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وقوات الشهيد الصدر… فهي كتائب دينية سياسية وتم تسليحها لغايات قتالية خصوصية على ما يبدو.
السمة الثالثة لهذا الحشد أنه بعد مصادقة الحكومة والبرلمان صار جزءا من المنتمين للقوات المسلحة يحصل على رواتب من الدولة بلغت حد مساواتها برواتب الأمنيين.
فهذا التنظيم المسمى حشدا شعبيا هو إنتاج عراقي ناتج عن الصراع المركب في العراق والفسيفياء السياسية والعرقية فيه. فالشيعة يصارعون على أكثر من واجهة: السنة والأكراد والسعودية والأتراك والعلمانيين … ولذلك لجؤوا إلى الفتوى وأموال الدولة للدفاع عن سلطاتهم ومواقعهم في العراق وهي مواقع إيرانية أساسا. فهذا التنظيم سياسي بجوهر غير سياسي هو الدين من جهة والدولة من جهة أخرى.
فما الذي يدعو إلى تأسيس حزب باسم الحشد الشعبي في تونس ؟ وهل يمكن الحديث عن هذا الحزب النسخة دون تذكّر الأصل؟
السلطة السياسية الجديدة في تونس ليست بلا شك تلك التي في العراق ولكن المشترك بينهما غير قليل فهي على الأقل في مواجهة مركبة هي الأخرى.
تحدّث قيس سعيد منذ ظهوره عن نهاية عصر الوسيط أي نهاية الأحزاب. وقد عمل منذ زمان على تبخيس الأحزاب وإبعاد رموزها عن المشهد السياسي ورفض محاورتها والاقتراب منها. والمعلوم بداهة أن العمل السياسي لا يكون بغير الأحزاب. فلم تخترع البشرية بعد صيغة جديدة بدل صيغ الدولة والحزب سوى الصيغ الفاشية العنيفة. وتُبنى الأحزاب عادة على مشاريع مجتمعية فكرية وسياسية واقتصادية. ويبدو أن السلطة السياسية الجديدة تحتاج إلى سند شعبي دون أن تتورط في تصور مجتمعي معين أو ربما هي تخفي مشروعها الحقيقي وهو ما قد يفسر هذا الموقف الغريب من رئيس دولة هو في الأصل أستاذ جامعي. فهل ينبئ الحشد الشعبي بحقيبة مشروع السلطة الجديدة في تونس؟
إن تأسيس حشد شعبي مع ما قد يحمل من انتظارات داخل المجتمع التونسي يجعل الأمر مثيرا ومخيفا حقا. فالتونسي الذي يعاني اجتماعيا يجد نفسه أمام إمكان أن يكون مسلحا وصاحب مرتّب وسلطة فعلية لن يتردد في الانخراط في هذا الحشد. فاستعمال تسمية الحشد الشعبي يستدعي بالضرورة خصائص النسخة الأصلية العراقية وإن بنسبة. ولذلك فإن إيهام التونسيين بإمكان الحصول على سلاح ومرتّب داخل هذا الحزب سيجعله الحزب الأكثر شعبية في البلاد والحزب الأقوى حتى وإن لم يحصل كل منخرط فيه على سلاح أو مال أو جاه.
كما أن هذه التسمية ستعيد الشيعة الذين غادروا تونس منذ قرون إليها. فهذا الحشد شيعي وصدريّ بفتوى شيعية. ولا شك أن وحدة تونس الاجتماعية وغياب الطائفية أمران مقلقان ومتعبان للمفكرين الاستراتيجين الغربيبن الذين يريدون دوما انقسامات مذهبية ودينية تسهل على مجتمعاتهم السيطرة على مجتمعاتنا. ولذلك فإن هذا التنظيم سيحمل بالضرورة المتخيل الشيعي بما يقسم المجتمع في تونس على أساس عقائدي لعله يخفي الصراعات الحقيقية.
فهل تحتاج السلطة السياسية الجديدة في تونس إلى حزب من هذا النوع؟
لا شك أن السلطة الجديدة في تونس ستعلن أن لا علاقة لها بهذا الحزب وأن مؤسسيه هم المسؤولون عن توجهاته وأفكاره. ولكن أي إنكار من هذا النوع لن يفيد كثيرا لأن حاجة السلطة الجديدة إلى حزب أمر لا شك فيه. تماما كحاجتها لجيش وقوة أمنية ومنظومة بنكية وتجارية وغيرها. ووجود رابط بين السلطة الجديدة وهذا النوع من التنظيمات يثير القلق. إن رابطا ما بين الطبيعيتين قائم. طبيعة السلطة الجديدة في تونس وطبيعة الحشد الشعبي. سلطة لا تحب الأحزاب ولكنها تحتاجها وتنظيم يشبه الأحزاب ولكنه ليس حزبا.
وما يشاع عن أن قيس سعيد يرفض الأحزاب تأسيسا وعملا وما تؤكده الوقائع يثبت فعلا أن جدارا عاليا يفصل بين الحزب كآلية سياسية لإدارة الشأن العام وبين رئيس الدولة. ونظرا للضرورة الملحة الآن وخاصة في المستقبل إن اشتد الصراع بين السلطة والشعب لكيان سياسي شعبي ولكنه ليس حزبا يمرّر سياسة الدولة والرئيس بين الناس ويدافع عنها فإن ذلك يجعل تنظيما مثل الحشد الشعبي سواء هذا الذي تحصل على التأشيرة أو غيره أمرا ضروريا. ومن هنا يصبح الحديث عن هذا الحزب ذا مشروعية ويصبح التنبيه إلى خطورته واجبا. وبعيدا عن منطق الاتهامات المجانية لقيس سعيد بالولاء الخفي لإيران التي لا حجة لي عليها فإن الضرورة السياسية هي التي قد تدفع نحو هذا الخيار حسب ما هو متوفر من معطيات آنية ربما تغيرت بعد حين. وإذا اندفعت البلاد نحو سياسة الفتاوى ونحو عسكرة السياسة بواسطة الفيالق والعصائب المنظمة سواء حصلت على مرتبات أم لم تحصل فإننا قد نجد أنفسنا أمام مشهد مريع يعيد إلى الأذهان لا الحشد الشعبي العراقي فقط بل و”كتائب العاصفة” الجناح شبه العسكري للحزب النازي الهتلري (SA) أصحاب القمصان البنية والتي ساهمت في صعود هتلر والنازية والتي تخصصت في مهاجمة الأعداء السياسيين لهتلر وخاصة اليهود والشيوعيين والرأسماليين. وحتى إن افترضنا وهو ما أرجحه شخصيا غياب هذه النهايات المأساوية في ذهن من يفكر سياسيا داخل السلطة الجديدة فإن منطق الواقع الموضوعي سيدفع بالبلاد نحو هذه النهايات. فالتحكم في كل حركة مهما بدت ضعيفة في البداية يصبح أمرا عصيبا بعدما تستقل بذاتها وتنشئ في داخلها هياكلها الداخلية وترتبط بالمحيط الذي توجد فيه بقوانين التأثير والتأثر. فالإرهاب مثلا الذي خُلق ذات يوم لمواجهة الشيوعية في أفغانستان امتلك نفسه وبنى برامجه وتصوراته وخرج من عقاله وضرب برجي منهاتن في نيويورك في النهاية.
إن فكرة الحشد الشعبي فكرة خطيرة قد يستسهل أمرها من يريد أن يزرعها في تونس لاستغلالها سياسيا لأنها ستكون مفيدة على المدى القصير ولكنها ستكون مدمرة لا للبلاد الآن فقط بل ولأجيال عديدة في المستقبل تماما مثلما تم التلاعب ذات يوم بالبرامج التعليمية لأسباب سياسية فإذا الكارثة تمتد من السبعينات إلى اليوم وإذا التلاميذ الذين كانوا يحسنون العربية والفرنسية والرياضيات وسائر المعارف لا يحسنون حتى الكلام الآن. إن ذهاب الرئيس قيس سعيد قريبا أو بعد حين آت بلا شك. فالرجل لن يستمر رئيسا طوال الدهر. ولكن تنظيما مثل هذا قد لا يتردد عن الالتفاف على السلطة حتى بقوة السلاح.. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن طالبان الأفغانية نشأت ضمن سياقات مشابهة وذهب الذين خططوا واستفادوا في ذلك وماتوا وشبعوا موتا واستمرت طالبان وشبعت أفغانستان حروبا وتخلفا. ولكل ذلك أجدني متحمسا كل الحماس لكي أطلب سحب ترخيص هذا الحزب فورا وإسكات كل الغربان التي قد لا ترى حتى أبعد من أعينها.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 ماي 2022