الشارع المغاربي-عواطف البلدي: عاش “التوانسة” كما شعوب العالم بأسره في التاريخ جوائح وأوبئة مرعبة أتت على الحرث والنسل، وغيّرت من التركيبة السكّانية ونمط الحياة والسلوك والقيم. الأوبئة العظيمة هي كما الحروب الكبرى منعرج في التاريخ تأفل معها دول وجماعات وتبرز قوى وأمم أخرى. نفتح في “الشارع المغاربي” صفحات القرن 19 من تاريخنا الوطني ونكشف صحبة مؤرّخين مختصين ما خفي من آلام الناس ومقاومتهم للجوائح التي كانت عنوانا حزينا للنصف الثاني من ذلك القرن.
في توصيف مختزل ومعبّر لحال تونس خلال العشريات الأخيرة من القرن 19 كتب أحمد بن أبي الضياف في “إتحاف أهل الزمان” : “وكانت تونس مرعى السّوائم ومبيت الوحوش”. وهو وصف دقيق يكشف حالة الفراغ البشري وانتشار الحيوانات المتوحّشة والسّائبة واقترابها من مراكز الحضر. وقد صارت تونس على هذه الحال المرعبة بعد جائحة الكوليرا وانتشار الجدري في كل مناطق البلاد في ظلّ الأميّة والفقر المدقع وانعدام شبه كلّي للمرافق الصحّية.
مناخات القرن التاسع عشر في تونس ( في النصف الثاني خاصّة) تحيلك على فيلم رعب بعد أن عاش التونسيون في القرن 18 حربا أهلية مدمّرة (الفتنة الباشية الحسينية) وأوبئة ومجاعات وجفاف. نفتح اليوم ملفّ “أوبئة القرن 19” لنرصد ما حصل من مآس ونعاين طرق التصدّي وكيفية مقاومة التونسيين رغم قلّة ذات اليد حينها.
“لا مفرّ من القدر”
يقول أحمد بن أبي الضياف في كتابه “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان (ج 3، ص 165 – 167): ” وفي شوال من السنة 1233 (أوت 1818 م) وقع في الحاضرة طاعون، وأول من نبه له حكيم من مسلمة الإفرنج اسمه رجب الطبيب. ولما أخبر الباي بذلك أمر بضربه وسجنه كالمجرمين، فامتُحن بسبب علمه. و لم يلبث أن فشا خَطبُه (يقصد الطاعون) ومات به من أعيان أهل العلم ووصل عدد الموتى به في الحاضرة الى أكثر من الألف في بعض الأيام، و دام نحو العامين (…) وافترق الناس في هذا الطاعون إلى قسمين، قسم يرى الاحتفاظ وعدم الخُلطة بالعمل المسمى بالكارنتينة (الحجر الصحي = la quarantaine) وربّما ساعدته بعض ظواهر من الشرع، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: “لا عدوى ولا طيرة” و”فر من المجذوم فرارك من الأسد”، أي لا عدوى مؤثّرة، نفى تأثيرها فبقي أصلها، مع دليل التجربة، فإنّ غالب من تحفّظ حفظه الله… وعلى هذا جماعة كشيخنا… محمد بيرم [الثالث] وقسم لا يرى هذا الاحتفاظ ويرى التسليم لمجاري القدر ومن المقدور لا يغني الحذر، كشيخنا…محمّد بن سليمان المنّاعي… وألّف كلّ منهما رسالة حافلة في الاستدلال على رأيه بالنصوص الفقهيّة… ومن القسم الثاني أبو عبد الله حسين باي، فقد كان يسخر من أصحاب الكرنتينة ويقول لهم: “لا مفرّ من القدر”، ويدور أزقّة الحاضرة وحارة اليهود، لكثرة المرض بها. وقوّى بذلك قلوب سكّان البلاد … وهذا الطاعون هو أوّل التراجع الذي وقع في هذه الإيالة بعد وفاة المرحوم أبي محمّد حمّودة باشا، لأنّه نقص من الإيالة قدر النصف، وبقيت اغلب المزارع معطّلة لا أنيس بها… والجدير بالذكر أن الجالية الأوروبية المقيمة في تونس لم يصبها منه ضرر يذكر، فقد اعتصمت بالقنصليات وطبقت قواعد صحية صارمة منعت عنها العدوى”.
لم يكن الأمر هيّن على شيوخ وفقهاء الدين انذاك بعد رفض اغلبهم قرار “الكرنتينة” وإغلاق المساجد والأسواق والمدارس القرآنية ومقامات الاولياء على غرار الشيخ ابراهيم الرياحي والشيخ المنّاعي، ظنّا منهم ان هذا سيؤثّر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية انذاك… يقول الباحث في التاريخ عادل دبّوب في مقارنته بين أوبئة القرن التاسع عشر بتونس ووباء كورونا المستفحل اليوم بشتّى بلدان العالم ومن بينها تونس ان “الحجر الصحّي ليس جديد حيث كان يطبّق بجزيرة زمبرة خاصة على الحجيج العائدين من مكة المصابين بمرض “الهواء الاصفر” (الكوليرا) وكانت الدولة آنذاك قد عزلتهم في جزيرة زمبرة 40 يوما وتحدث عن الأوبئة الأخرى كالجدري.. وقد حاول خير الدين التونسي حماية البلاد من الأوبئة خاصة على مستوى الموانئ الكبرى كميناء حلق الوادي” مشيرا إلى أن “الوباء تسرّب عبر المناطق الحدودية كالجزائر نظرا للعلاقات القبلية والمصاهرة بين التونسيين والجزائريين انذاك ولذلك اغلب الاوبئة كانت تصل الينا عن طريق البلدان المجاورة”.
وأوضح دبّوب ان أوبئة عدة استفحلت بتونس في القرن الماضي كالكوليرا والطاعون والجدري وهو اخطر الأوبئة ومن أكثرها تأثيرا على البلاد والعباد آنذاك..”. مضيفا “كان للمستعمر الفرنسي آنذاك دور في الحد من تفشي الوباء خاصة في ما يتعلّق بحمّى “العفن” (التيفوس) وخصصت له جانبا من الأبحاث وذلك بعد إحداث معهد باستور وقد توصّل كل من ارنست كونساي وشارل نيكول الى ان حشرة “القمل” هي المتسببة في نقل العدوى من جسم لآخر.. وللتذكير فإن شارل نيكول حاز على جائزة نوبل للطب بفضل ابحاثه في تونس وتلاقيحه ضد حمى العفن.. “
وأردف دبّوب “ابن أبي ضياف قال في كتابه “مات الثلثان وبقي الثلث” نظرا لأن سنوات المجاعة وتحديدا 1867 ارتبطت بالأوبئة والعكس بالعكس ويسمّى ايضا بعام “بوبرّاك” نظرا لأن الرضع المولودون بتلك لسنة بسبب المجاعة كانوا “جلد على العظام” لا يقدرون على الوقوف أو المشي و”بِرْكُو” في العام الاول من ميلادهم بسبب نقص الاغذية والاوبئة” مشيرا الى ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 والقمع الذي طالها بعد ذلك والى الظروف الاقتصادية والجفاف ونقص الانتاج وهروب بعض السكان من اراضيهم”.
وتحدّث دبّوب عن مسألة رفض الاهالي التلاقيح من الناحية الدينية لأنهم يعتبرون ان اجسادهم عبارة عن اجسام نظيفة وان التلاقيح ستدنسها وانها مخالفة للدين لانهم يرون ان الله خلق الانسان في صورته ولا يمكن له المساس بها بالتلقيح.. متابعا “وجد المستعمر صعوبة في اقناع الاهالي بضرورة التلقيح وقد فرضت تونس اول تلقيح اجباري سنة 1922 ضد الجدري”.
وقال دبّوب “البكتيريا او هذه الفيروسات كالكوليرا والطاعون وغيرهما لا تستقر في تونس وانما هي تدخل البلاد فتقتل من تقتل ثم تزول مع الوقت”.. مضيفا “هذا لا يعني ان تونس استثناء ولكنها تميزت على مستوى التلاقيح لأن المستعمر فرضه حفاظا على رعاياه ولا ننسى عدد المستشفيات التي وجدت وعدد الأطباء الفرنسين.. “.
وأردف “وباء الطاعون سنة 1930 كان الاكثر انتشارا فقد دخل عن طريق الجرذان القادمة على متن السفن البحرية وقد اصابت “الدويريّة” لأنهم يشتغلون حمّالة” بالميناء وكانوا يسكنون مع بعضهم وكان عددهم قرابة 1000 شخص (عرش واحد) قريبا من نهج الباشا .. فتفطن اليهم ارنست كونساي الذي كان طبيبا بلَديا انذاك وأذِن باخلاء السجن المدني بتونس وحجزهم هناك… ومن المفارقات ان كونساي توفي بعد سنة ونيف جرّاء هذا الوباء وتم دفنه بالرابطة مثل شارل نيكول الذي دفن بمعهد باستور.. مضيفا “فاق عدد الوفيات 40 ألف شخص رغم ان فرنسا تعمّدت اخفاء عدد الضحايا الحقيقي لانها تعتبر ذلك وصمة عار وضرب لمشروعية وجودها بالبلاد التونسية”.
وفي حديثه عن مخلفات وبعض اسباب هذه الاوبئة قال دبّوب “هناك مراسلات لقْيّاد من جهة الوطن القبلي الى الباي تؤكد ان هناك عدد من الاهالي لجؤوا بسبب الأوبئة والجوع الى اكل لحوم بعضهم وتحديدا في الفترة الممتدة بين 1864 و 1867 او اما يسمى بعام بوبرّاك.. واضطروا لأكل الجيفة ولحوم الكلاب والقطط واي حيوان يسير امامهم وجميع انواع النباتات البرّية كالخبّيزة والتلّاغيدة ” مضيفا “سنة 1861 لم يتجاوز عدد التونسيين المليون مقارنة بالقرن الثامن عشر الذي بلغ فيه عددهم مليونين ونصف ساكن.. وبعد انتشار الاوبئة تقلّص عدد التوانسة وارتفع في ما بعد نسبيا ليصل الى حوالي مليون و100 ألف وفق احصائيات المستعمر الفرنسي اثر انتصاب الحماية”.
ومن بين الطرائف التي ذكرها دبّوب قال “فرّ الشيخ ابراهيم الرياحي الى بستانه بجهة سليمان خوفا من الاصابة بالعدوى ولأنه كان من بين رجالات الدين المعارضين للتلقيح ولقرار الحجر الصحي. كما لم تكن هناك سياسة صحية واضحة فقط تم احداث مستشفى عزيزة عثمانة سنة 1879 سنتين قبل انتصاب الحماية بعد ذلك بنى الفرنسيون مستشفى شارل نيكول الذي كان يسمى بالمستشفى الفرنسي والمستشفى الايطالي بناه المستعمر الايطالي الذي احتله الفرنسيون في الحرب العالمية الثانية وسمّي انذاك hôpital de la Libération وبعد الاستقلال دعا الطاهر بن عمار بورقيبة الى تغيير اسمه بمستشفى “الحبيب ثامر”..
“الكرنتينة” بين الطب والدين!
ويقول المؤرّخ حسين بوجرّة المختص في تاريخ الاوبئة بدوره “مع منتصف القرن الرابع عشر عرفت المجتمعات البشرية كارثة ديمغرافية لم تعرف لها مثيل سابقا، بحكم فداحة الخسائر البشرية، فقد مثلت ما بين نصف سكان المعمورة وثلثيها. وهي تندرج في إطار ما سمّي بعودة وباء الطاعون، الذي بعد أن اختفى تماما طيلة سبعة قرون رجع بكلّ قوّة منطلقا من بلاد الهند ليشمل كافة بلاد العالم متبعا خاصة المسالك والطرق البحرية ومتّخذا من السفن البحرية ملاذا له، بالإضافة للقوافل والطرّق البرّية” مضيفا “أمّا عن طريقة انتقاله بالعدوى فقد كانت بالاحتكاك بين المصابين به والأصحّاء خاصة عن طريق الملامسة واستنشاق الهواء والرّذاذ واعتماد ملابس المطاعين سواء قبل وفاتهم أو بعد وفاتهم. في حين أنّ أطبّاء ذلك العصر كانوا يؤمنون بأنّ انتقاله كان عن طريق الهواء المتأتّي من الرّوائح الكريهة ومن الجثث المتكدسة، بالإضافة لحركات الكواكب.. ومنذ ذلك التاريخ مثّل الطاعون ظاهرة دورية “تعود كل اثني عشر سنة أو خمسة عشر سنة إذا صدّقنا الوزان الفاسي المسمّى بـ” ليون الإفريقي” بعد أن أسره القراصنة البنادقة”.
وتابع بوجرّة “منذ القرن الرابع عشر وأمام عجز العلم والفكر الطبّي عن تشخيص هذا الوباء وعلى تحديد الوسائل الكفيلة بالحدّ من انتشاره وعلى اكتشاف المصل أو اللّقاح الذي يسمح بالتصدّي له، راجت النظرة الدينية التي اعتبرته نقمة إلهية مسلّطة على البشر سواء في الفكر المسيحي أو في الفكر الإسلامي: الأول نسبه لسهام رئيس الرّماة بالجيش الروماني والثاني إلى طعن الجنّ”. قائلا “لكن في المقابل، وقع التأكيد على ظاهرة العدوى وعلى عبثية أي مجهود لمواجهة وباء الطاعون لدى أصحاب الاتجاه الديني المتشدّد، وهو الاتجاه الذي فرض نفسه وكانت له الغلبة على حساب الاتجاه الديني القائم على محاولة الجمع والتوفيق بين الفكر الطبي العلمي والفكر الديني.. في حين أنّ الفكر المسيحي ولئن أخذ بنظرية النقمة الإلهية، فهو لم يقل بنفي آلية العدوى كما لم يحكم على كافة الجهود الرّامية لمواجهة العدوى بالعبث”.
على المستوى الطبي قال بوجرّة “رغم الدعوات إلى تجنّب محاولة التصدّي للطاعون، فقد تميّز الثنائي الأندلسي ابن خاتمة وابن الخطيب بوضعهما الإصبع على ضرورة مقاومة العدوى رحمة بالمسلمين الذين لم يصابوا بعد وعملا بالقاعدة التي تنصّ على ألآّ تلقوا بأنفسكم للتهلكة، في حين أن ابن الخطيب اعتمد في حجاجه على ما أفضت إليه المعرفة القائمة على الطريقة التجريبية، فقد قال في رسالته مقنعة السائل عن المرض الهائل” فإن قيل كيف نسلّم دعوى العدوى وقد ورد الشرع بنفي ذلك، قلنا وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء”…
وأشار الباحث الى الاستثناء التونسي في مجال مقاومة العدوى الوبائية على صعيدين نظري وواقعي قائلا “على الصعيد النظري، هناك خاصة رسالة بيرم الثاني (المتوفّى سنة 1831) صاحب خطة شيخ الإسلام، تحت عنوان “حسن النّبأ في جواز التحفظ من الوباء”، التي ارتبطت بطاعون 1818 الذي خلاله حسب اين أبي الضياف “افترق اناس إلى قسمين: قسم يرى الاحتفاظ وعدم الخلطة.. وقسم لا يرى هذا الاحتفاظ ويرى التسليم إلى مجاري القدر”. وقد كان على رأس القسم الأول الحنفي بيرم الثاني الذي فقد زوجته وأولاده الخمسة في طاعون 1784، والذي تميّز بإعادة الاعتبار لابن خاتمة الأندلسي ولنظريته في وجوبية التحرّز من الوباء ومواجهة العدوى”..
وتابع بو جرّة “أما على صعيد الواقع، فهناك خاصة وأساسا سياسة حمودة باشا الحسيني القائمة على اتباع التحرز والكرنتينة ( الحجر الصحي المضروب على المصابين بالطاعون الذي كان يدوم أربعين يوما..) التي جعلت من تونس استثناء في مجال مقاومة العدوى الوبائية”
مجلس صحي وفرق مختصّة
من جهته اعتبر المؤرخ محمد فوزي المستغانمي مسألة “الطواعين او الاوبئة ظاهرة دورية خلال الفترة الحديثة رغم غيابها النسبي خلال القرن 18 ” قائلا “عادت في اواخره وبدايات القرن 19 لتظهر أصناف جديدة منها أساسا الكوليرا التي عرفت بـ”الهواء الأصفر” أو “الهيضة” أو “بو شلال” أو “بو قليب”. واصطلحت على تسميتها الوثائق الأرشيفية بـ”مرض الوقت” باعتبار انه صنف جديد غير معروف وضع في خانة الأوبئة لسرعة انتشاره وفتكه بالبشر. ينتقل بصفة مباشرة عن طريق ملامسة الشخص المصاب أو بصفة غير مباشرة عن طريق تناول الأغذية وشرب المياه الملوثة. ويكون اكثر فتكا للفئات الفقيرة لضعف المناعة لديها وهو من الاوبئة المجسدة للعولمة الوبائية على غرار العولمة الاقتصادية والثقافة وغيرها”.
وتابع ” كان أول ظهور للوباء بآسيا ثم انتشر في شكل موجات اجتاحت البلاد التونسية أول مرة سنة 1836 وقدر عدد الموتى بحوالي 1200 ثم ثانية سنة 1849-1850 وثالثة سنة 1856 والأكثر أهمية موجة 1867 التي خلفت حوالي 25 ألف ضحية لحوالي مليون ونصف ساكن في ثمانينات القرن 19 وكانت معدلات الوفاة بين 6و8% عموما لكنها تفاوتت حسب الجهات. ففي مدينة قابس مثلا قدرت بحوالي 22% (2000 ضحية لحوالي 9000 ساكن)” مضيفا “تعتبر موجة 1867 الأكثر تأثيرا لتزامنها مع الوضعية الصعبة التي كانت تعيشها البلاد وسياسة الانتقام التي مارسها الباي ضد الرعية بعد ثورة علي بن غذاهم (1864) حيث بلغ به الأمر إلى إعدام العادل باي وثلة من كبار جنرالاته مثل إسماعيل السني والجنرال رشيد أصهار البايات”.
وأوضح المستغانمي انه في اطار تحديث التعامل مع الاوبئة والطواعين أسست الدولة تحت ضغط الاوروبيين “المجلس الصحي” لفرض الحجر الصحي “الكرنتينة” وذلك يوم 24 أكتوبر سنة 1835. واتخذت (الدولة) في ستينات القرن إجراءات جديدة أمنية لمحاصرة المناطق الموبوءة ومنع الخروج منها أو الدخول إليها وتشكّلت في الغرض فرق مختصة تحت نظر رئيس الضبطية التي كانت تقوم بدوريات تحدد الخطورة ومرفقة بأطباء منتدبين للغرض وتقدم تقارير يوميا حول الأوضاع في المدينة والربضين وتحدد عدد الموتى وأسماءهم وسبب الوفاة وتنعت من مات منهم “مات بمرض الوقت” أو “مات بالجدري” أو غيرها من الأمراض”. مضيفا “تعتبر وثائق الضبطية (البوليس) من أهم مصادر دراسة الظاهرة التي عكست كذلك التصورات السائدة حيث كان أول المستهدفين بالتفتيش هم اليهود باعتبار الإرث الثقافي الذي يربط بينهم وبين كل سوء يصيب المسلمين. كما تبين دراسة هذا الوباء التخبط الذي كانت عليه الدولة وعلى رأسها الباي وكذلك المجتمع بنخبتيه الدينية أو السياسية..
وتابع المستغانمي ” تراوحت المواقف بين ضرورة التحفظ أو الاستسلام، فالاستسلام مرتبط بمسألة الإيمان بالقضاء والقدر وأنصاره يشككون في درجة إيمان من ينادي بالتحفظ والاحتماء بالمحاجر الصحية وفي هذا الصدد ينقل لنا أحمد بن أبي الضياف استياء وغضب رجال الدين من التحفظ المبالغ فيه من قبل أحمد باي فيقولون” إن التحفظ بالكرنتينة لم يكن في الملة الإسلامية، وهي اختراع الأمم الإفرنجية”. واكتفت هذه الفئة الاجتماعية بالصلاة والدعاء مثلما حصل أيام موجة الكوليرا زمن أحمد باي (1837-1855) حيث أمر باجتماع 40 شريفا في جامع الزيتونة لقراءة سورة يس والدعاء بهدف التخفيف من شدّة هذا المرض”، قائلا “في المقابل يذكر لنا عدم استقرار أحمد باي في مكان واحد تحفظا وخوفا من الكوليرا حيث يقول “وارتحل الباي إلى بستان وزيره أبي النخبة مصطفى خزنه دار المعروف بقرطاجنة…ثم انتقل من قرطاجنة إلى المحمدية… ثم وقع بها المرض فرجع إلى باردو، فوقع به المرض، فانتقل إلى غار الملح ، فوقع بها المرض…، فرجع إلى المحمدية واستقر بها، ثم رجع إلى قرطاجنة ثانيا”.
يقول المؤرخ فوزي المستغانمي “كانت لهذا الوباء تأثيرات اقتصادية واجتماعية وخيمة لاسيما انه تزامن مع إفلاس الدولة التي أصبحت عاجزة كليا عن تسديد ديونها للدائنين الأوروبيين نتيجة لا فقط الانهيار الديمغرافي وإنما الإنهاك الذي أصاب التونسيين تلك السنة 1867 التي نعتها ابن أبي الضياف بالسنة الشهباء ورسخت في الذاكرة الجماعية باسم عام “بوبرّاك” لان البلاد في نظرهم بركت نهائيا حيث فرض عليها الكومسيون المالي 1869 الممهد للاستعمار” .