الشارع المغاربي: لاَ مِرَاءَ في أنّ الوضع في تونس دقيق للغاية ولا شكّ أيضا في أنّ الوعْي به متفاوت ولم يتجاوز اللفظي فقط، وذلك لأنّ الذي يحدث هذه الأيّام يُنْبئ بأنّنا قادمون على عشرية قاسية جدّا ومفتوحة على كلّ الاحتمالات، بينما الإنكار هو سيّد الموقف، سيّان إن كان هروبا إلى الأمام أو تبنّيا لسياسة النعامة، في الأثناء، ننتظر معجزة لن تأتي، في ظلّ الظروف الحالية، لإنقاذ الاقتصاد التونسي من الانهيار ومن ثمّة الدولة من الإفلاس!
من الواضح، أنّ العامل السياسي يتحمّل مسؤولية ترنّح الاقتصاد التونسي الواهن خلال العشرية التي مرّت، وحتى إن تنصّل البعض حتى لا أقول الكلّ من تحمّل هذه المسؤولية التي أدّت إلى شبه الكارثة الاقتصادية والمالية التي نعيشها، فإنّ الوقائع كافية بدحض كلّ ذلك، ومن الجليّ أيضا أنّ العامل الاقتصادي هو المحدّد شبه الأوحد للوضع السياسي ومآلاته خلال هذه العشرية، ولن يكون ثمّة استقرار سياسي دون إيقاف نزيف انهيار الاقتصاد وتحسّن كلّ المؤشرات تدريجيا.
ما عدا ذلك، يمكن اعتبار “متغيّرات” صائفة 2021 تأجيلا للسقوط المدوّي وترحيلا زمنيا مؤقتا له، الأمر الذي لا نرجوه حقيقةً!
وذلك، لأنّ الوجوه التي تعارض كلّ ما انبثق عن 25 جويلية الفارط، لم تستوعب، ولن تستوعب أبدا، أنّها قد انتهت ولم يعد لها مكان بين التونسيين، ولم تدرك، ولن تدرك أنّ كلّ ما تخطّط له إنّما هو العبث ذاته، ولن يمنعها من مصيرها المحتوم المتمثل في اضمحلالها سياسيا، وهي لم تَعِ، ولن تَعِيَ أنّ العَدَم ينتظرها في آخر الطريق، وأنّ عقارب الساعة لن ترجع أبدا إلى الوراء حتى وإن استنهضت هيئة مَا من رمادها !
أَنَّى لها أن تفهم أنّ التونسيين يحمّلونها كلّ المسؤولية عمّا أسميته سابقا: “عشرية الخراب”، وأنّها تتحمّل فعلا هذا الوزْر تاريخيا حتّى وإن أنكرت كما هو حاصل الآن، ولن تفهم أبدا أنّه لا يمكنها تحمّل عبء معارضة ما بعد 25 جويلية بينما هي من تسبّبت فيه أصلا، بل وكان ذلك بمثابة صفّارة النهاية التي طال انتظارها، لذلك، لم تكن ولن تكون أبدا قادرة على تعبئة التونسيين إلى صفّها إلاّ من بقي على جَهَالَة، وذلك، لأنّ التونسيين، إلاّ مَنْ هُمْ على ضَلالة، قد “تَقَيَّئُوهم”.
وقد أدّى هذا الإنكار إلى التوهّم بأنّ أفضل خطّة “للإطاحة” بما سمّوه هم لوحدهم دون غيرهم بـ:”الانقلاب” و”الخروج عن الشرعية”، إنّما بالتنادي إلى الرجوع إلى “أصْل دَاءِ” العشرية التي مرّت والرجوع خاصّة إلى وضعية ما قبل 25 جويلية، أي، وببساطة شديدة، رجوعهم هم، على بكرة أبيهم، متصدّرين للمشهد ومتبجّحين بالخراب الذي أوقعوا فيه التونسيين ومُبَشِرِينهم بما بعد الخراب خلال هذه العشرية..
وهنا مُنْتهى الوهم الذي يعيشونه والسراب الذي يحلمون به في أضْغَاثهم، صحيحٌ أنّ هناك البعض منهم مدرك لـ”تقيّئ” التونسيين لهم، لكنّه مستعدّ أن يجثم على صدورهم ولو بدبّابة من الخارج كما يفعل الآن، والبعض الآخر مدرك لذلك، لكن ليس له من خيار إلاّ الإنكار، والبعض من هذا البعض يتنطّع في التوهّم بأنّ الخلاص هو مجسّده!
في الأثناء، اتفقوا على هدف واحد وهو تطبيق خطّة “تَتْفِيه” رئيس الجمهورية و”ترْذِيلِه” والحطّ من رمْزيته الاعتبارية، مستغلّين في ذلك الأخطاء التي ارتكبها، وكم هي كثيرة! وإظهاره أنّه هو المشكل الأوحد وليسوا هم، وأنّ الخراب الذي تعيشه تونس حاليا سببه إجراءات قيس سعيد وليسوا هم، وإن ثمّة “انقلاب” فهو قيس سعيّد شخصيا، لذلك، عليه أن يتوارى عن الأنظار إمّا طوعا أو قسْرا، هذا هو أساس الدعاية التي تقوم بها حركة النهضة ومن تَبِعَها وَوَالاَهَا بإحْسانٍ أو بانْتِهازيةٍ.
لكن، الذي فات كلّ هؤلاء أنّه في حالة ما إذا تمكّنوا من “طرد” قيس سعيّد من الحكم، وهو أمر يدركون جيّدا أنّهم لن يحققونه بهذه الطرق التي ينعتونها بـ:” الديموقراطية” و”الاحتجاج السلمي”..، فإنّهم سيجدون أنفسهم وجها لوجه مع أغلب التونسيين الذين “تقيّئوهم” والذين “منعهم” قيس سعيّد بقراراته ليل 25 جويلية 2021 من أن يهاجموا منازلهم وكلّ ما يرمز إليهم فيحرقون وحتى يسحلون…
فقيس سعيّد هو الذي “أنقذهم” من مصيرهم المحتوم بالنظر إلى شدّة الحقد والكره المنصبّ ضدّهم، ولكنّ جلّهم إلى الآن ما زال يواصل إنكار هذه الحقيقة، والواضح أنّه لا حلّ لهم إلاّ كذلك وإلاّ فأيّ هدف لوجودهم؟ وأيّ معنى لما اعتقدوه؟
والواقع، أنّ العدوّ الحقيقي لرئيس الجمهورية هو قيس سعيّد نفسه، وذلك لأنّه يعتقد أنّ لديه “مبايعة شعبية” تخوّل له كلّ التوجّه الذي قام به منذ 25 جويلية إلى الآن، لكن، ربّما لا يتصوّر رئيس الجمهورية أنّ ذات هذا الشعب الذي يؤيّده هو نفسه الذي انتفض ضدّ الحبيب بورقيبة، وما أدراك من هو الحبيب بورقيبة! وذلك في آخر سنة 1983 وبداية 1984، وهلّل لمن أزاحه من الحكم في نوفمبر 1987 وهو ذاته من انتشى لمّا تمّ إنهاء نظام بن علي في 2011.
فمن الضروري أن تكون هذه “المزاجية” التونسية المتقلّبة في الحُسْبَان، فدونها لا يمكن اسْتقراء ما هو آتٍ، وخاصّة التنبّه إلى أنّ “البطون المتضوّرة” و”الأفواه الجائعة” لا تهتمّ أصلا بأيّ نظام سياسي ستُحكم أو ثمّة فساد ما أو تطهير للقضاء، فالذي يهمّها هو تحسّن الوضع الاقتصادي والمقدرة الشرائية.
وفي حالة عدم تحسّن المؤشرات الاقتصادية والمالية والمعاشية، فإنّ هذه المجموعات لن تنتظر كثيرا ولن تُمهل، ومن الواضح أنّ حركة النهضة تعوّل على هذا العامل، أي “التهرئة” التدريجية لنظام قيس سعيّد كي تنقضّ على الحكم من جديد، مستغلّة أيّ فَلَتَان مَا يحدث في تونس كالذي وقع سنة 2011، لذلك، هي تقوم منذ مدّة وإلى الآن بتهيئة النفوس له من خلال استهداف الرمزية الاعتبارية لرئيس الجمهورية ومحاولة إصابتها في مَقْتَلٍ، تمهيدا لما هو آت!
لكن، هل أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد لديه الوعي بهذا أم لا؟ تَخْمِيننا هو النفي! حتى وإن قابل هذه الأيّام الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل وذاب التوتر العلني بينهما على الأقلّ، وذلك لأنّ رئيس الجمهورية لديه الاعتقاد، على الأرجح، بأنّه لا يحتاج إلى تشكيل جبهة تحالف مادامت هناك مبايعة شعبية له، وربّما، من هنا نفهم لماذا لم يمدّ يده إلى “حلفائه الموضوعيين”؟ فكان أن باتت سهام خصومه مُحْتدّة ضدّه مُظْهرة إيّاه في مظهر الحاكم بأمره المتفرّد بالحكم والمنقلب على الدستور والشرعية والديمقراطية، وقد تمكّنت هذه الدعاية بالذات من اختراق الدوائر الغربية المتنفذة خاصّة وأنّ الإشارات من قصر قرطاج تعطي الانطباع بذلك!
وذات الاعتقاد لديه هو الذي جعل من رئيس الجمهورية يلوح منذ الأيّام الأولى لـ25 جويلية وإلى الآن بمظهر الغامض والمتردّد، والذي يهدّد دون أن ينفّذ، والذي يتوعّد لفظيا الفاسدين والمجرمين في حق الدولة والشعب، وحتى الذين يقع اعتقالهم أو التحفظ عليهم، سرعان ما يطلق سراح أغلبهم بل ويغادرون الحدود بكلّ حرّية.
لكلّ هذا، اعتقد خصومه بالذات أنّه يسهل عليهم استهدافه حصْريا من خلال التقاط كلّ “عثراته” بغاية تلبيسه كلّ شرور الدنيا وإنهاك رمزيته إلى الأبد، وقد مكّنهم رئيس الجمهورية من ذلك طيلة هذه الفترة إثر “إصراره” على أن يبقى بمفرده دون حزام مساند له، فانفرط عقد من يسانده خاصّة مع توقر الشعور للجميع بأنّه ماض قدما في مشروعه السياسي الذي لم يفصح كلّيا عنه.
ممّا تقدّم، علينا أن نؤكّد مرّة أخرى أنّ العامل الاقتصادي هو المحدّد في قدرة قيس سعيّد على إنقاذ الدولة وهيبتها من كلّ معاول الهدم التي بثتها حركة النهضة خاصّة من أجل اجتثاث الدولة الوطنية وإحلال مشروعها، وهذا العامل هو المحدّد أيضا في مدى قدرة هذه الحركة على استغلاله من أجل إنهاك قيس سعيّد واستغلال الانفجار الاجتماعي الحتمي للانقضاض على الحكم من جديد والانتقام من كلّ من تعتبرهم أعداءها!
وعلينا أن نؤكّد أخيرا أنّه لا يمكن أن يستقرّ الوضع في تونس حتى يتمّ فتح الملفات حقيقةً ومعرفة مآلاتها إلى الآخر: إنّها ملفّات من يقف وراء خطط استهداف أسس الدولة الوطنية في مرحلة أولى ثمّ الانقضاض عليها والاستخْراب قصد استحثاث تغيير صبغتها، وملفّات من أدخل الإرهاب إلى تونس وحماه ورعاه حتى ترعرع وارتكب جرائمه بحق التونسيين، وملفّات التسفير والاغتيالات السياسية، وملفات من أوْهن المالية العمومية واستنزف الموارد المالية والقروض ومن خرّب دعائم الاقتصاد التونسي والمالية وأفلس العديد من المؤسّسات…حتى أوصل البلاد إلى هذه الحافة.
ما عدا ذلك، ستكون هذه العشرية أسوأ من سابقتها، وما عدا ذلك فلا حياد مع من خرّب الوطن واستخْرب الدولة وفقّر التونسيين وجوّعهم ويَتّم أبناءهم وثَكّل نساءهم ونَكّل برجالهم، ثمّ يخرج علينا البعض يطلب منّا أن نلتزم بالحياد! فأيّ معنى للحياد مع الذين لا يشبهوننا ولا نشبههم؟ أيّ معنى للحياد مع الذين تربطهم بطاقة تعريف وطنية لا غير بوطن اسمه تونس؟ فإذا كان الإصداع بهذا الموقف والمطالبة بفتح الملفات والمحاسبة العادلة يعدّه طابورهم الخامس استئصالا؟ فمرحبا بالاستئصال وفق القانون والعدل إذا كان ثمنه إنقاذ تونس!
في الأثناء، تمرّ الذكرى السبعون لملحمة سطّرها التونسيون بدمائهم وتضحياتهم واصطفافهم وراء قيادتهم الوطنية لمدّة ناهزت السنتين والنصف في صمت مطبق، إنّها ذكرى الثورة التونسية الوحيدة في تاريخ تونس المعاصر يوم 18 جانفي 1952 والتي أجبر فيها التونسيون فرنسا على الاعتراف بسيادتهم على أرضهم، ثورة يجهل الكثير حتى لا أقول الجميع البطولات التي قام بها الأجداد والآباء طيلة هذه الفترة، والوثائق الأرشيفية تثبت ذلك ولكن، في هذا “التعتيم” أكثر من دليل على مدى قدرة معاول الهدم على تخريب هذه الدولة الوطنية وسط تواطؤ البعض وجهل البعض الآخر…!
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جانفي 2022