الشارع المغاربي – وليد أحمد الفرشيشي: “إنّ تغييرا واحدًا يفتحُ المجال لتغييرات أخرى“، هكذا تحدّث المعلمُّ نيكولا مكيافيللي في كتابه “الأمير” وهكذا فعلَ محمد عبوّ لتثبيت حزبه “التيّار الديمقراطي” كقوّة صاعدة في المشهد السياسي التونسي.
وإذا كانت السياسةُ لا تحتملُ المفاهيم الأخلاقيّة، كي لا نقول “طوباويّةِ” المواقف ومثاليّتها التي عادة ما تجعلُ الأخلاقيّ الذي يمارسُ يحلّقُ وحدهُ خارج أسراب جوارح السياسة، فإنّ محمد عبوّ نجحَ في “أخلقةِ” مسارهِ ومسار حزبهِ بل وتحويلِ “المسألة” الأخلاقيّة إلى “براند” أو “علامة” خاصة بحزب التيّار الديمقراطي، الذي صعّدتهُ الانتخابات البلديّة الأخيرة إلى الموقعِ الرّابعِ في ترتيب الأحزاب السياسية المسيطرة على المشهد، في الوقت الذي تشيرُ فيه التوقعات إلى قدرة هذا الحزب على تسجيل نتائج مفاجئة في المواعيد الانتخابيّة القادمة.
التغيير…وصناعة الفرصة… !
هنا من المهمّ الإشارة إلى أنّ أيّ تغيير في رؤية شخصٍ ما للأمورِ يحتاجُ جرعة مركّزة من الجرأة والصدقِ أيضًا،تلك الجرأة التي يغلّفها الهدوء وذلك الصدقِ الذي تغذيه الصّلابة. وهو ما توفّر في محمّد عبّو، المناضل الشرس ضد ديكتاتورية بن علي، قبل أن توفّر له ثورة 14 جانفي 2011، ومن ثمة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، فرصة التموقعِ كنائبٍ عن جهة نابل أوّلاً، ثمّ وزيرًا لدى رئيس الحكومة التونسية مكلف بالإصلاح الإداري في حكومة حمادي الجبالي، قبل أن يستقيل بعد خمسة أشهر من هذا المنصب، استقالة بررها هو بصلاحياته المحدودة التي لا تسمح له بمحاربة الفساد، في الوقت الذي يعرفُ فيه الجميع أنّ الجبالي وفريقُ مستشاريه لم يكونوا ليسمحوا له بالاقتراب من هذه الملفات أبدًا.
وإذا كانت الاستقالة الأولى من الحكومة هي أولى علامات التغيير، إلاّ أن استقالته الثانية من حزبه السابق، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية في 14 مارس 2013، شكّلت المنعرج الحقيقي في مسار محمّد عبوّ، خاصة وهو يوجّه رسالته الشهيرة إلى منظوري حزبهِ السّابق والتي كشفَ فيها بالتدقيق حجم التجاوزات التي باتت تنخرُ حزبه السابق بل ومؤسسة رئاسة الجمهورية التي يشغلها رفيق الدرب السابق محمد المنصف المرزوقي.
لقد كان هذا منعرجا حقيقيّا في مسارِ الرّجل الذي حوّل محاربة الفساد إلى قضيّة حياة أو موتٍ بالنسبة إليهِ، كاشفًا بطريقة ما، حقيقة أنّ من أتت بهم الثورة إلى الحكم أداروا ظهورهم لها، لينطلقَ في مغامرتهِ أو الفرصة التي ستقودهُ فيما بعد إلى مفاجأة الجميع، وهي تأسيسه لحزب إجتماعي ديمقراطي، هو حزب التيار الديمقراطي، أو حزب “البيسكلات“.
ماذا فعلت الدرّاجة بالشاحنات الثقيلة؟
ولعلّ في اختيار “الدرّاجة” شعارَا مرئيّا للحزبِ ما يغنينا عن قول الكثيرِ بخصوصِ الفلسفة التي تأسّس عليها الحزبِ، فلسفة جمع حولها محمّد عبوّ نخبة سياسيّة “شابّة” شاركته وتشاركهُ نفس الرؤية بوعيٍ والتزامٍ كاملين. وفي الوقت الذي كانت فيه شاحنات “التوافق” الثقيلة تغلقُ الطريقَ على بقيّة الأحزاب الباحثة عن التموقعِ سواءً على يسارها أو يمينها، فرادى أو على شكل تكتّلات حزبيّة، تمكنّت “الدرّاجة” من إيجادِ الثغرة وتحقيقِ “المجاوزة الممنوعة” في عرف “شيخي” المشهد السياسي، اللذين اطمئنّا إلى عجز بقية “القوى السياسية” على تحقيق أيّ اختراقٍ لهيمنتهما على الحياة السياسية أو إحداثٍ تغيير يحوّلُ وجهة الحراك السياسي نحو بدائل جادّة و“أخلاقيّة” بالمعنى الحرفيّ للكلمة.
هنا عالجَ محمّد عبوّ جميع أورام المشهدِ السياسيِ مطبّقًا وصفتهُ أوّلاً داخل حزبهِ، من خلال نبذ “الشخصنة” “والزعيم الخارق” والتخلّي عن رئاسة الحزب في أوّل مؤتمرٍ للحزبِ، مؤتمرٌ كان ديمقراطيّا بامتياز، ليحظى بمقعدٍ ضمن مجلسه الوطني. هذه الخطوة الأولى في عمليّة التثبيت الديمقراطيّ تلتها خطوات أخرى، وهي تركيز مؤسسات ديمقراطية داخل الحزبِ، حيث لا مجال للرأي الواحدِ وللخطابِ الواحد والرؤية الواحدة. على مستوى المضامين، تمايزَ مؤسّس التيّار ورفاقهِ عن شركاء الأمس من “الثوريين” الذين ذاقوا لذّتي “السلطة” و“الرفاه المالي“، ونعني تحديدًا حركة النهضة، بخطابٍ ثوريّ محيّن بمعنى ذلك الخطاب المبنيّ على قراءة واقعيّة وبراغماتيّة للواقع دون سقوط في فخّ التشنّج والمغامرات غير المقبولة أو التصريحات المستهجنة، محوّلاً قضية الفساد إلى قضيّة مركزيّة مستعينًا في ذلك بالأدلّة والوثائقِ ولسان السيّدة سامية عبوّ التي استعدت عليها “ثنائيّ التوافق” إلى درجات تخصيص صفحات “فايسبوكية” بأسرها للنيلِ منها ومن حزبها.
وإذا ما اقترن التيّارُ الديمقراطي عادةً بالزوج “عبوّ“، فإنّ ذلك كان بسبب التركيز الإعلامي المفرط على هذا الثنائي، وهذا ما سمحَ لبقيّة القياداتِ بتحقيقِ جملة من “الانتصارات” داخل الأوساط الشبابيّة، تلك الأوساط التي أصابتها عفونة المشهد بحالة من النفور التام قبل أن تجد ضالتها في خطاب التيار، وهو خطاب إجتماعي ديمقراطي وسطيّ ولكن بأولويات واضحة كمكافحة الفساد، رأس كل الشرور، وكسر خطاب “الهيمنة” واسقاطاتهِ الكارثية على المشهد السياسي، والتصدّي لكلّ ما من شأنهِ الإضرار بقوت التونسيّ ومقدرته الشرائية وفضح الفاسدين المتقوقعين داخلَ حكومة “الوحدة الوطنية” وغيرها من الإحداثيات التي جعلت من هكذا خطابٍ أكثرَ إقناعا ومن ثمّة جذبًا لجزء من التونسيين، وأغلبهم من الشباب الجامعيّ.
وإذا كانت الانتخابات البلدية الأخيرة موقعت التيار الديمقراطيّ كرابع قوة سياسية في البلاد، فإنّ أغلبَ التحاليل والقراءات تشيرُ صراحة إلى قدرة هذا الحزب، الذي يسقط في فخ المال السياسي ولا يمتلكُ قنوات إعلامية ولا لوبيات خارجية نافذة ولا علاقات مع سفراء الدول الكبرى، على إحداث المفاجأة في المواعيد الانتخابية القادمة.
من يعرفُ حقيقة ما الذي سيكونه المشهد بعد سنة من الآن؟ ألم نقل في البداية إنّ تغييرًا واحدًا يفتحُ المجال لتغييرات أخرى …