الشارع المغاربي: بدا لي الاستاذ قيس سعيد، عند متابعتي نتائج الانتخابات الرئاسية، كأنه صاروخ عابر للقارات يفجّر تفجيرا كل الحدود والحواجز التي تعترض سبيله… صاروخ أطلقته صيحات وأوجاع ثلاثة ملايين من التونسيات والتونسيين ملّوا وكرهوا السيستام système، يعني كامل المنظومة السياسية الماسكة بشؤون البلاد من 2014 الى اليوم، بأحزابها ومعارضتها ودستورها وقانونها الانتخابي وبرلمانها ووجوه سئموا من كذبها ونفاقها وفسادها وسياحتها، مع احترامي طبعا لمن هم جديرون بالاحترام… اخترق الرئيس الجديد جميع الاحزاب والتيارات الفكرية في البلاد دون استثناء من أقصى اليسار (الوطد) إلى أقصى اليمين (إئتلاف الكرامة)، على سبيل المثال ما يقارب نصف ناخبي حزب “تحيا تونس” فضّلوا قيس سعيد على منافسه في اتجاه معاكس للاعتقاد السائد بأن جموع الحداثيين سيلتفون حول مرشح “قلب تونس” لاتقاء شرور “السلفي قيس سعيد”.
واضح اذن أن الرئيس الجديد فاز بارادة شعبية قوية وحتى جبّارة -ضعفا تقريبا حصيلة المرحوم الباجي سنة 2014 – إرادة شعبية انتفضت عبر الصناديق على منظومة فاسدة وفاشلة ورفعت الى سدة الحكم رجلا غريبا عنها ثائرا عليها يجسم في قيمه الشخصية وأفكاره السياسية ما تاق إليه التونسيون منذ 9 سنين ولم يتحقق، بل تحقق عكس ذلك: دمقرطة الفساد وقضاء متعدد الهندسة وافلات من العقاب واتساع رقعة البطالة والفقر وحتى الجوع وفوق كل ذلك انسداد مخيف للافق.
عندما أتحدث عن ارادة الشعب الجبارة فذلك ليس من باب المزايدة الكلامية الخالية من مضمون وقائعي بل لأن ما حدث يوم 13 أكتوبر هو كذلك. عشرات الالاف وربما مئات الالاف من الشباب المثقف حشدوا طاقاتهم وروّضوا عجائب آلات الانترنات الرهيبة لفرض قيس سعيد على المكونات السياسية التقليدية، طبقا لما نظّر اليه الرجل في خطبه طيلة سنين من أن الحقبة التاريخية المبنية على سلطان الاحزاب ولّت وانقرضت وأن توجيه الجماهير لن يكون مستقبلا عن طريقها بل عن طريق قوّتهم الارادية مؤطّرة ذاتها بذاتها “بفضل وسائل التواصل التكنولوجية الحديثة” مثلما عبّر عن ذلك قيس سعيد في حديثه الشهير لـ «الشارع المغاربي» في 11 جوان 2019، وما حدث في بلادنا نهار أول أمس فيه ما يثمّن نسبيا صحّة هذه النظرية…
“سلفي وعصفور الغنوشي النادر” قيس سعيد؟ كلاّ ! أعرفه شخصيا وتحدثنا بعمق واذا ألزمت نفسي بتعريف هويته السياسية فلن أتردد في وصفه بـ”الوطني المحافظ” والتونسي حتى النخاع، والتونسي كشأن الاغلبية منّا يخيط في فضائه الفكري نسيجا من الميولات والمعتقدات التي تبدو متضاربة، فهو محافظ وتقدمي في نفس الوقت ومسلم وعلماني ومنفتح ومتأصل ويصلّي ولا يمتنع عن النبيذ (دون تعميم)، قيس سعيد لا يشذّ عن هذا التعريف حسب اعتقادي باستثناء النبيذ، يضيف اليه فقط تصور جديد يعرّفه بالثوري للمضمون المؤسّساتي للنظام الديمقراطي الذي يراه مهيكلا على سلّم ارادي ينطلق من المحلي ليصعد الى الوطني… فضيلة هذا التصور أنه موجود، أما انجازه على محكّ الواقع فقضية أخرى، لا أراه شخصيا واقعيا بل طوباويا قد يؤدي إذا ما أقدمنا على تحقيقه إلى “نومدة” الدولة حسب التعبيرة الجميلة للأستاذ خالد عبيد، و”النومدة” هي انحلال السلطة المركزية بسبب ما عرف عن النوميديين، سكان البلاد الأصليين، من صراعات سلطوية بين قبائلهم أدت إلى الغزو الروماني، على كل ستكون بلادنا مرة أخرى المخبر الاستثنائي المولّد لأنماط غير مسبوقة في الفضاء العربي.
ثم كيف لـ “سلفي” أو “اسلامي متشدد” أو “نهضوي” أن يمتنع عن فرض أي نمط عيشي أو لباسي أو علاقاتي على حرمه وابنته المعروفة لدى صديقاتها بتحررها الكامل من أي قيد تقليدي يحدّ من اختياراتها الحياتية ؟
أدعو في نهاية المقال جموع الحداثيين وبالخصوص البورقيبيين – وأنا بورقيبي ديمقراطي الى آخر عمري – أن يقرضوا الرئيس قيس سعيد القرض الحسن وأن يستبشروا بارتقائه الى مرتبة زعيم شعبي، الى أن يأتي ما يخالف ذلك…
صدر بالعدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ 15 أكتوبر 2019