الشارع المغاربي: نشر الأستاذ المساعد بكلية الحقوق في سوسة قيس سعيد دراسة مطوّلة في جريدة “الصحافة” بتاريخيْ 8 و9 ديسمبر 1989 تحت عنوان: “حرية ممارسة الشعائر الدينية في تونس” في جزأين الأوّل عنوانه: “العلاقة التاريخيّة بين الدين والدولة” والثاني: “القوانين وحرية المعتقد”. مرّت هذه الدراسة دون أن تثير الانتباه إلى أن أصبح صاحبها رئيسا للجمهورية وشرع في ترجمة أفكاره حول هذه المسألة في شكل سياسات ومراسيم استنادا إلى قوّة الدولة وأجهزتها.
ومن خلال متابعتي اللصيقة للمسألة الدينيّة في خطاب وممارسة الرئيس تكوّنت لدي قناعة بأنه سلفي في فهم النصوص وفي تنزيلها على أرض الواقع. أما في مواقفه السياسية فإنه لم يخرج عن الفضاء الديني وبقي ملتزما بحدوده التي نلحظها في حمايته لبؤرة القرضاوي وتغاضيه عن محاسبة الجمعيات الدينيّة ورفضه للمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى. هذه القناعة ترسّخت لدي بعد أن عُدت إلى الدراسة المذكورة ووجدت أن الرئيس لم يتزحزح عن قناعاته قيد أنملة رغم مرور ما يقارب 35 سنة وبيان ذلك:
الخلط بين الزمنين الإلاهي والإنساني
كتب قيس سعيد في بداية مقاله: “مع اقتران الشمس بالقمر تستهل الأشهر وتضبط المواقيت، ومع حركة الكواكب في الفضاء تستنفر المراصد أو يغلب الحساب فإذا الهلال بالعد وليد أو مفقود، وإذا الراصد هو المرصود قبل أن تستأنس الرؤية بالحساب وتتصالح مراصد الأرض مع تعاليم السماء”، معبّرا بذلك عن تأييده للرؤية مع الاستئناس بالحساب في تحديد دخول شهر رمضان، وهو ما درجت عليه الكثير من الدول الإسلامية ومن بينها تونس منذ سنة 1988 دون أن تتبيّن خطورته على الدين والدنيا معا لأنه يصدر عن خلط شنيع بين زمنين هما الزمن السرمدي الإلاهي والزمن النسبي الإنساني ويمهّد تبعا لذلك إلى الخلط بين الدين والسياسة والدين والعلم لتظهر تبعا لذلك مفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان، رغم أن المشرع أوجب الفصل بين الاثنين. ففي الصوم مثلا حدّد المشرع أوقاته بناء على حركة القمر. قال تعالى: “فمن شهد منكم الشهر فليصمه”(1) والشهادة هنا مفهومها الرؤية بما هو متعارف عليه بالوسائل الحسية العاديّة المتاحة لأغلب الناس وليس بالوسائل العلميّة التي لا يعرفها إلا العلماء وأهل الاختصاص لأن الدين موجّه للكافة وليس للخاصّة(2). غير أن بعض المتفقهين وفي إطار التمحّل يعملون على استحداث روابط واهية بين العلوم الحديثة والشرع. من ذلك دعوتهم إلى استعمال الحسابات الفلكية للإعلان عن دخول شهر رمضان ووجوب الصوم مبرّرين ذلك بأن الحساب يفيد اليقين والحال أن العبادات جميعها مبنيّة على الظنّ ولا يشترط في أدائها اليقين ودليلنا على ذلك أن المسلم في الصلاة في مكان ليس به ما يدلّ على القبلة يمكنه أن يصلي مع التحري. قال تعالى: “وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره”(3). ويذهب الفقيه محمد سعاد جلال إلى أنه على المؤمن: “أن يتحرّى التوجّه إلى جهة الكعبة ويعمل بظنّه في ذلك فإن صلّى وأصاب جهتها فقد أصاب وإن رأى بعد الفراغ من صلاته أنه استدبرها ولم يستقبلها صحّت صلاته ولا إعادة عليه لأنه استفرغ ظنّه في موضع الظنّ ذلك حسبه في صحّة صلاته”(4) وما يؤكد أن اليقين غير مطلوب في العبادات أنه يكفي الظنّ فيه أن اتجاه القبلة في جامع الزيتونة وفي جامع القيروان وفي غيرهما منحرف ورغم أنه وقع التفطن إلى ذلك فإن العلماء استقر رأيهم على الإبقاء على هذا الانحراف لأن إصلاحه يستلزم تغييرات جذرية في كامل البناء(5). وما زالت هذه الانحرافات موجودة ويؤدي المؤمنون الصلاة في هذه الجوامع وهي صلاة صحيحة لأن العبادات جميعها مبنيّة على الظنّ وليس اليقين، لذا عدّ الخيرة من الفقهاء أن استعمال الحساب في العبادات هو من التخليط الذي لا سند له، هذا التخليط الذي حبّذه قيس سعيد سنة 1989 نجده يظهر في الفصل الخامس من دستور 25 جويلية حيث جمع كاتب الدستور بين مقاصد الشريعة التي حدّدها النص المقدّس الإلاهي السرمدي الذي لا يتغيّر بالديمقراطية التي هي فعل بشري يتغيّر بتغيّر الظروف، وفي تقديرنا أن هذا التخليط يعود إلى الإصرار على إقحام العلوم والمعارف والتجارب الإنسانية في المنظومة الدينية لنجد في نهاية الأمر اقتصادا إسلاميا وعلم نفس إسلامي وبنوكا إسلامية وغير ذلك، هذا المعنى لم يغب عن قيس سعيد الذي ختم الفقرة الأولى من مقاله بأن استئناس الرؤية بالحساب يعني “تصالح مراصد الأرض مع تعاليم السماء”.
عن القرآن
في حديثه عن مهام المجلس الإسلامي الأعلى ذكر قيس سعيد أن من بينها مراقبة المصاحف التي تطبع داخل البلاد أو تورّد من الخارج حتى لا تتسرّب الأخطاء فيها ويبقى النصّ سليما من أي تحريف، غير أن كاتب المقال يتوسّع في المسألة ويقول: “ولكن ألم يكن من الضروري أيضا في هذا النص وضع حماية خاصّة للمصاحف لا بمناسبة الطبع أو التوريد فحسب بل كذلك إذا كانت موضوع تحقير أو ازدراء… إن الضرر في مثل هذه القضايا أضرار لأنه مصحف وضرر لأنه رمز وضرر بعد كل هذا لأنه منقول وهو بذلك حقيق بحماية تجتمع فيها كل هذه الصفات والوجوه” ونحمد الله أن السلطة أيامها لم تتفطن إلى هذا المقترح وإلا لطبقته في غمرة الهيجان الذي انتابها عند تنفيذها سياسة سحب البساط، فتوسّع الرقابة وانتقالها من مبنى النص ذاته إلى المفاهيم التي يمكن أن تستنتج منه وتصنيف بعضها في خانة الازدراء والتحقير دون تحديد لمعنى هذين المصطلحين وحدودهما يفتح الباب لتجريم كل رأي مخالف لِما تواضع عليه كهنة المعبد، كما يدلّ على أن صاحبه يعتبر عقيدته المقياس الذي تحدّد به صحّة العقائد والآراء الأخرى وغاب عن ذهنه أن انتشار التعليم وتطوّر المعارف البشريّة واتساع مجال الحريات في البحث فتح آفاقا واسعة لتعدّد المفاهيم وتنوّعها لتُقبر نهائيا الواحديّة في الرأي، هذا الموقف المحبّذ لإحياء محاكم التفتيش في ضمائر الناس والداعي إلى تطبيق القانون بصرامة على المفطرين في رمضان وفق ما نقلت الصحافة عن الرئيس ليس إلا ترجمة لعقيدة قيس سعيد كما جاءت في مقاله المذكور من: “أن السياسة تلتقي مع الدين لتحميه… ولكن أيضا لترسم الضوابط والحدود” أي أن وظيفة السياسة هي تسخير القوانين ومؤسّسات الدولة لحماية الدين، وهو المطلب نفسه الذي ورد في الفصل الأوّل من دستور حزب التحرير عند الحديث عن العقيدة الإسلاميّة: “وهي في نفس الوقت أساس الدستور والقوانين الشرعيّة بحيث لا يسمح بوجود شيء ممّا له علاقة بأي منهما إلا إذا كان منبثقا عن العقيدة الإسلاميّة”.
عن الردّة
تناول قيس سعيد في مقاله مسألة الردّة يقول: “إن الفصل 94 من الدستور التونسي لسنة 1861 تعرّض إلى مشكل الارتداد بصفة ضمنيّة إذ جاء فيه أن (غير المسلم من رعيّتنا إذا انتقل لدين آخر لا يخرجه تنقله من الحماية التونسية ورعايتها) ومعنى ذلك بقراءة عكسية لهذا الفصل أن انتقال المسلم لدين آخر يخرجه من الحماية والرعاية المذكورتين” الأمر الذي يعني أن قيس سعيد يرى أن التونسي المسلم إذا اختار لنفسه دينا آخر غير الإسلام تسقط عنه آليا الجنسيّة التونسيّة، وهو كلام خطير يلغي رابطة المواطنة والوطن وينقل انتماءنا إلى تونس أرضا لها حدودها المضبوطة ومجتمعا صاغه التاريخ وعركته الجغرافيا إلى انتماء ديني متطاير يتّسع باتساع حدوده ويضيق بضيقها فلا تتكوّن فيه مشاعر المواطنة والعيش المشترك، وقيس سعيد في هذا يلتقي بالتيارات الإسلاميّة التي تنهل من فقه أهل الذمة وترى أن الشرط الأساسي لتحقق صفة المواطنة هي الإيمان بالإسلام دينا وكلّ من لم يرضى بالإسلام دينا هو مواطن من درجة ثانية كما شرح ذلك الغنوشي في كتابه عن وضعيّة الذمي في البلاد الإسلاميّة(6)، والغريب في الأمر أن بلادنا عرفت في ثلاثينات القرن الماضي الدعوة إلى التجنيس أي الحصول على الجنسيّة الفرنسية وليس تغيير الدين حيث سعى الاستعمار إلى دفع التونسيّين للحصول عليها بغية الحصول على الثلث الاستعماري الذي هو زيادة في المرتب لذا تجرّأ البعض على الحصول عليها ولكن الأمّة جميعها وقفت ضدّهم ومنعت دفنهم في مقابر المسلمين وهو أقصى عقاب حيث يُمنع المتجنس بعد وفاته من أن يدفن مع مواطنيه، وبيّن أن هذا الموقف الصارم من الأمّة سببه وطني وليس ديني لأن مقاومة الاستعمار اتخذت لنفسها أوجها متعدّدة من بينها التشنيع على المتجنسين وترذيلهم وطردهم أحياء وأمواتا، أما المجلس الشرعي فاتساقا مع مواقف الأمّة الرافضة للاستعمار ووفقا لما ورد في تقرير مونصرون المقيم العام الموجّه إلى وزارة الخارجية الذي كشف عنه سنة 1984 اعتبر المتجنس مرتدا تنسحب عليه أحكام الردّة جميعها وهو ما يستوجب في حال التوبة والرجوع عنها النطق بالشهادتين أمام القاضي وقد أضاف المجلس الشرعي المالكي شرطين آخرين إضافة إلى النطق بالشهادتين وهما:
1/ التخلي عن الجنسية التي اعتنقها.
2/ ردّ كل الامتيازات التي تحصّل عليها بموجب الجنسية الجديدة.
لمّا قدمت الفتوى للشيخ محمد العزيز جعيط للإمضاء كتب بهامشها: “إني الممضي أسفله يرى أن هذه التوبة لا يصحّ قبولها إلا إذا تأيّدت بما يحقّق صدقها وذلك بتصريح من تجنّس أنه ندم على التلبّس بهذه الجنسيّة وتخلّى عنها ونبذها وسعى في التفصّي عنها بالطرق الممكنة وتخلّى عن الفوائد المنجرّة عنها” وأمضى تحت ما كتب بالطرّة(7)، والمستفاد ممّا ذكر أن المجلس الشرعي حكم بالردّة من الناحية الشرعيّة لأنه لم يجد سببا آخر يعلّل به رفضه للتجنيس والبلاد مستعمرة آنئذ وهو ما دفع بالمقيم العام إلى إنهاء تقريره السري بقوله: “وممّا لا شك فيه أن كل هذا الغليان الحالي يكتسي صبغة سياسيّة خالصة وأن المسألة الدينيّة ليست إلا تعلّة”(8)، ما تفطن له أعضاء المجلس الشرعي وعموم الشعب والمقيم العام من الفصل بين الجنسيّة التي هي رابطة قانونيّة بين المواطن والدولة والإسلام الذي هو علاقة روحيّة بين المسلم وربّه تغاضى عنه قيس سعيد في قوله: “إن المسلم الذي يتجنّس اختيارا منه بجنسيّة تخرجه عن أحكام دينه يكون مرتدا” وهو قول ملتبس يخلط بين المفاهيم فالمسلم التونسي الذي يتجنّس بجنسيّة أنقليزية مع الإبقاء على الإسلام عقيدة له لا يعدّ مرتدا لأن هنالك فرقا بين التبعيّة القانونيّة والتبعيّة الدينيّة، والخوف كل الخوف أن تتسرّب هذه المفاهيم من خلال المراسيم إلى مؤسّسات الدولة والبناء المجتمعي.
—————–
الهوامش
1/ سورة البقرة الآية 185.
2/ “الصوم لغة وشرعا” الدكتور محمد سعاد جلال مجلة الهلال عدد شهر جويلية 1983، ص8 وما بعدها.
3/ سورة البقرة الآية 144.
4/ الصوم لغة وشرعا لمحمد سعاد جلال ص15.
5/ “مسجد القيروان” د.أحمد فكري، مطبعة المعارف ومكتبتها مصر، ص22. و”الزيتونة عشرة قرون من الفن المعماري التونسي” عبد العزيز الدولاتلي، نشر وزارة الثقافة تونس 1996 ص32 وما بعدها.
6/”حقوق المواطنة، وضعية غير المسلم في المجتمع الإسلامي” راشد الغنوشي، مطبعة تونس قرطاج، تونس 1989.
7/ البيئة الزيتونية 1910-1945 مساهمة في تاريخ الجامعة الإسلاميّة التونسيّة” د.المختار العياشي، تعريب حمادي الساحلي، دار التركي للنشر 1990 ص272 و273، وكذلك مقال”أضواء جديدة على قضية التجنيس بتونس في أوائل الثلاثينات” لحمادي الساحلي في كتابه “فصول في التاريخ والحضارة” نشر دار الغرب الإسلامي” بيروت 1992، ص222.
8/ المصدر السابق ص278.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 فيفري 2023