الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: بواجه العالم ثغرة غير مسبوقة وخطيرة بين الناتج العالمي والدَّين العالمي. فمقابل إنتاج يقدّر بنحو 84 تريليون دولار، تناهز قيمة الديون 281 تريليون دولار، أي ان الديون العالمية توازي 3.5 أضعاف الناتج العالمي وهو ما يشكل أعلى مستوى تاريخي بلغته هذه الديون. لكن مخاطرها الحقيقية، وخصوصاً في ضوء تداعيات جائحة “كورونا”، مرتبطة بأمر أساسي: التفاوتات بين الدول على مستوى الدائن والمدين. فالدول الفقيرة تغرق في الديون التي قد تصبح غير مستدامة، أي أنها ستصبح غير قادرة على خدمتها وخدمة اقتصاداتها خلال وقت قريب، وهذا ما يجعلها مستباحة أمام الدول الدائنة التي ستمارس أشكالاً من الضغوط والنفوذ للسيطرة على قرارها السيادي ومواردها، أي تحويلها إلى مستعمرات. وهناك نموذجان من الدول الدائنة: نموذج الدول الغربية التي تسيطر على القرار في “نادي باريس” وصندوق النقد الدولي وبقية المنظمات الدولية، ونموذج الصين. الأخير هو محور “شيطنة” الإعلام الغربي، بينما يتم الترويج لنادي باريس باعتباره منقذاً للبشرية.
“نادي باريس” هو النموذج العالمي بامتياز لممثلي الدائنين وهو تجمّع يضمّ 22 دولة دائمة العضوية، غالبيتها دول غربية، باستثناء اليابان وروسيا وإسرائيل التي انضمت للنادي في جوان 2014. تأسس هذا النادي في عام 1956 من أجل التعامل مع الدول التي تعجز عن دفع ما اقترضت من أعضاء النادي. ومنذ انطلاقته ولغاية عام 1988، كان النادي يتعامل مع القروض المتعثّرة عبر تمديد مدّة السداد. إلا أن أعضاءه اتفقوا في عام 1988 على اللجوء إلى إجراء آخر. يومها، كانت المرّة الأولى التي يتم فيها الاتفاق على إجراء اقتطاع من أصل الدين، علماً بأن إجراء كهذا يتطلّب تخصيص مبالغ تموّل من الدول الدائنة.
وفي عام 1996 أنشأ صندوق النقد الدولي، بالتشارك مع البنك الدولي، مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون. صُمّم البرنامج للتأكد من أن البلدان الأفقر يجب ألا تكون مثقلة بأعباء لا يمكن السيطرة عليها أو لا يمكن تحمّلها. وقد وافقت دول “نادي باريس” على تمويل اقتطاع الديون من خلال هذه المبادرة، فأصبحت هذه العملية تحدث بإشراف صندوق النقد الدولي، علماً بأنه منذ عام 1961 كانت فرق عمل مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد والبنك الدوليين) تدعى لحضور اجتماعات “نادي باريس” كمراقبين، وتطوّر دورها إلى توفير المعلومات والمشورة الفنية. حتى أصبح لجوء أي بلد إلى “نادي باريس” للاستدانة يمرّ حتما بالاتفاق المسبق مع صندوق النقد.
الشيطان يكمن في تفاصيل الاتفاق مع الصندوق. فهذا الأخير يروّج لوصفة تقشفيّة تنطوي على شروط تخرق الطابع السيادي للدول، بل إن غالبية الدول التي غرقت في برامج “إنقاذ” مع صندوق النقد الدولي وجدت نفسها غارقة في عملية متكررة من الفشل في سداد الديون وعمليات إعادة الهيكلة. وتبيّن أن برامج الصندوق تضرب الفقراء وتفرض معايير معينة في الحكم والأداء السياسي – الإجرائي. وأعضاء النادي هم الممولون الرئيسيون في صندوق النقد الدولي.
ويوجد في الواقع الكثير من النقد لمنهج وأسلوب عمل النادي بوصفه “كارتيل” الدائنين، سيما أنه أثناء التفاوض مع الدول المقترِضة لإعادة هيكلة ديونها، يمارس الكارتيل ضغوطاً هائلة لإجبار هذه الدول على تقديم تنازلات مما يثير الشكوك في نزاهة عمل النادي وأهدافه.
ويلتقي أعضاء “نادي باريس” كل ستة أسابيع في “بيرسي”، ويترأس هذا الاجتماع – الذي يحضره مسؤولون من العشرين دولة – مسؤول رفيع المستوى من وزارة المالية الفرنسية. وخلف الأبواب المغلقة، تتم مناقشة العديد من القضايا المالية المتعلقة بالدول المدينة والتي أثقلت الديون كاهلها ربما نتيجة حروب أو صراعات دموية أو أزمات اقتصادية.
يكمن الهدف العام لـ”نادي باريس” في دفع الدول المدينة لسداد ديونها وتتم جدولتها من قبل النادي بتوصية ضرورية من صندوق النقد، وبالتالي، لا بد أن تكون الدولة عضوا في الصندوق وأبرمت اتفاقا معه، وقبل جدولة ديونها بواسطة النادي، تكون قد مرت بالعديد من الإجراءات التقشفية وبعض الإصلاحات الأخرى. كما يتم اللجوء لـ”نادي باريس” لإعادة جدولة الديون أو شطب جزء منها أو إلغائها بالكامل كملاذ أخير غالبا قبل التعثر في السداد.
اما في ما يتعلق بكيفية أداء المهام، فعندما تتقدم دولة مدينة بطلب لجدولة ديونها أو شطب البعض منها كملاذ أخير، يرسل صندوق النقد برنامجه وشروطه التي اتفق عليها مع تلك الدولة لـ”نادي باريس” لمراجعتها ومعرفة مدى التزام تلك الدول بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
ويتم عقد مناقشات بين مسؤولي “نادي باريس” ومندوب الدولة المدينة لبحث كيفية الخروج من أزمتها والحيلولة دون إفلاسها. وفي هذه الأثناء، تتم جلسة أشبه باستجواب للدولة المدينة وهنا تكمن قوة الدول الأعضاء. بعد ذلك، يخرج مندوب الدولة المدينة من الاجتماع، وتنعقد جلسة مغلقة بين ممثلي الدول الأعضاء في النادي لبحث كيفية جدولة ديون هذه الدولة وإخراجها من أزمتها ومدى إمكانية شطب ديونها، وبعد التوصل إلى اتفاق مشترك، يتم ابلاغ المقترحات للمدينين لبحثها مجددا.
يرى بعض الخبراء أن وجود دولة مدينة في مناقشات مع “نادي باريس” أشبه بالخضوع بالنظر إلى كيفية الاستجواب والمفاوضات معها وعرض الشروط والاقتراحات عليها.
ووفقا للإحصائيات الدولية، ارتفع إجمالي ديون الدول العربية لنادي باريس بنسبة 14.8% لتصل إلى 50.246 مليار دولار بنهاية 2020، مقارنة بـ 43.772 مليار دولار في 2019. وتعلقت نسبة الزيادة الأكبر بتونس التي ارتفعت ديونها بنحو 16.9% لتصل إلى 3.781 مليارات دولار مقارنة بـ 3.235 مليارات دولار في 2019، تليها المغرب التي ارتفعت ديونها بنسبة 16.8% لتصل إلى 6.125 مليارات دولار، ثم الأردن بنسبة 14.38% إلى 3.42 مليارات دولار. وفي المرتبة الرابعة تاتي الصومال بنسبة 10.5% لتصل إلى 1.8 مليار دولار.
وفي ما يهم أكبر الدول العربية التي تحمل ديونا لصالح نادي باريس، يأتي العراق في المرتبة الأولى بنحو 12.4 مليار دولار، بنسبة زيادة قدرها 5.4% عن عام 2019، ثم مصر بـ 8.94 مليارات دولار بنسبة زيادة قدرها 5.7%، مقارنة بـ 8.46 مليارات دولار في 2019. وفي المرتبة الثالثة المغرب، ثم ليبيا التي بلغت ديونها 4.546 مليارات دولار بنهاية 2020، ولم تشهد تغييرا منذ العام الماضي.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثالاثاء 7 ديسمبر 2021