الشارع المغاربي: كانت التلفزة التونسية منذ انطلاق الثورة في 17 ديسمبر 2010 حتى هروب بن علي في قطيعة تامة مع الشارع وركزت تغطيتها للأحداث على عمليات النهب والحرق في محاولة لتضليل الرأي العام الداخلي والخارجي. ولم يثر ذلك التعاطي مع الأحداث استغرابا وعجبا، فالتلفزة التونسية كانت منذ تأسيسها تحت سيطرة النظام القائم وناطقة بلسانه، تنفذ التعليمات التي تصدر من القصر أو وزارة الإعلام أو الحزب الحاكم. وتحولت التلفزة فجأة إلى وضع آخر في 15 جانفي 2011 لم تتأقلم معه بسهولة لعدم تعودها على ممارسة حرية الإعلام والإستقلالية، وارتكبت أخطاءا جسيمة في بداية الطريق تكررت بنسب أقل في السنوات اللاحقة.
التلفزة بين نهاية مرحلة الولاء وكسب رهان الحياد والإستقلالية
لم تمض أيام قليلة عن سقوط نظام بن علي حتى أعلنت حكومة محمد الغنوشي تعيين البشير الحميدي رئيسا مديرا عاما لمؤسسة التلفزة في 23 جانفي 2011 وانهاء مهام شوقي العلوي الذي كان رغم كفاءته الصحفية محسوبا على فريق عبد الوهاب عبد الله الذي سيطر على الإعلام التونسي طيلة عهد بن علي وجعله بوقا للنظام والحاشية. ولم يكن البشير الحميدي غريبا عن مؤسسة التلفزة حيث تولى إدارتها والإذاعة في أولى سنوات حكم بن علي. ولم يكن أحد يتوقع عودته، غير أن قرابته بالناطق الرسمي للحكومة ووزير التربية آنذاك الطيب البكوش لعبت دورا حاسما في تعيينه. وكان الطيب البكوش يخشى من أن تعرقل التلفزة المرحلة الجديدة التي دخلتها البلاد وتشكل “ثورة مضادة”.
ولكن الحميدي خرج من التلفزة بعد شهر وبضعة أيام من تعيينه حيث لم يتمكن من مجاراة الوضع في مؤسسة سادها فوضى عارمة وانفلات على جميع المستويات أثّرا على مضمون البث حتى كانت الدعوة في أحد البرامج الحوارية إلى إعدام رئيس الحكومة محمد الغنوشي في ظل صمت من منشطة البرنامج التي لم تكن قادرة على إدارة الحوار. وقرر الرئيس المؤقت فؤاد المبزع بعد تلك الحادثة في 28 فيفري 2011 تكليف المختار الرصاع بمهام الرئيس المدير العام لمؤسسة التلفزة، وهو وجه تلفزي معروف في الرياضة والأخبار، وسبق له أن تولى ادارة قناة تونس 7 والقنوات التلفزية في عهد بن علي، وأحيل على التقاعد قبل الثورة . وكانت مهمة مختار الرصاع الأساسية تهيئة التلفزة للموعد الإنتخابي المتعلق بالمجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011 بما يتطلبه ذلك من تعود على الممارسة الإعلامية الديمقراطية والتعددية وتغطية نزيهة للعملية الإنتخابية.
محاولات النهضة حزبا وحكومة السيطرة على التلفزة
وما إن مسكت النهضة بالحكم بعد فوزها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي حتى انطلقت في محاولة السيطرة على أهم وسائل الإعلام بمن فيها التلفزة التونسية وقررت في 18 جانفي 2012 تعيين عدنان خذر رئيسا مديرا عاما لمؤسسة التلفزة وهو واحد من أبنائها اشتغل طيلة سنوات في قطاع الإنتاج، وكان على علاقة وثيقة مع حكومة النهضة، يستشيرها في كل الجزئيات والتفاصيل والعموميات ولا يتحرك إلا بأمرها. وكان لطفي زيتون القيادي في النهضة حينها مستشارا سياسيا لرئيس الحكومة حمادي الجبالي مكلفا بعديد الملفات ومنها ملف الإعلام. وكانت تدخلات المستشار مكشوفة تستهدف تمكين النهضة من مواقع متقدمة في وسائل الإعلام، من ذلك مثلا تعيين لطفي التواتي المحسوب على الحزب، مديرا عاما لدار الصباح. وقد نددت النقابة الوطنية للصحفيين برئاسة المرحومة نجيبة الحمروني في تلك الفترة بممارسات لطفي زيتون ومحاولات حكومة الجبالي مصادرة حق الصحفيين في التعبير عن آرائهم وممارسة مهنتهم بكل استقلالية . ولكن النهضة لم تيأس واتجهت نحو مزيد من المناورات والخطط للسيطرة على التلفزة التونسية وإخضاعها.
كيف تم تمهيد الطريق لسيطرة النهضة على التلفزة؟
إتجهت حركة النهضة إلى تطوير عملية الإستيعاب والاستقطاب من داخل التلفزة وتحريك جماعتها والموالين لها في القطاعات الحساسة في المؤسسة وخاصة في ميادين الصحافة والتقنية والإدارة. وكان بعض من العاملين في التلفزة قد سعى إلى مقر النهضة في مون بليزير بعد عودة الغنوشي من لندن إثر سقوط نظام بن علي للتعبير عن ولائه للنهضة وتعاطفه معها ، و في طليعتهم صحفي كان في السنوات الأخيرة للعهد النوفمبري مكلفا بإعداد جميع البرامج الحوارية و”السياسية” في قناة تونس 7 التي كانت تطبل وتزمّر للنظام والحاشية، وتمهد الطريق لانتقال السلطة إلى الطرابلسية وأصهارهم.
وأصبح لهذا الصحفي” نصيب” من النفوذ في الإستراتيجية الإعلامية لحزب النهضة، وعمل جهده على استقطاب عدد من زملاءه في التلفزة والإعلام العمومي وتحويلهم من خيمة النظام والتجمع إلى خيمة النهضة، بما يعنيه ذلك من الحفاظ على الإمتيازات، فقط يتغير المموّل . وتدرك النهضة جيدا أن عددا من المنتمين إلى الإعلام العمومي وحتى الخاص كان يتمعش من النظام، وكان من بينهم مخبرون يحصلون على مقابل ، وهؤلاء لا دين لهم ولا ملّة غير المنافع. ونجحت النهضة في استيعاب البعض من التلفزة، منهم من هو مكشوف داخل المؤسسة ومنهم من يعمل في الخفاء . وأصبحت النهضة في ظرف وجيز تعرف عن التلفزة كل كبيرة وصغيرة ،وتعرف من يقف معها ومستعد لخدمتها، ومن يعارضها ولا تستهويه توجهاتها.
تكرار المحاولات وتنظيم اعتصام “إعلام العار” أمام مقر التلفزة
ولكن النهضة لم تنجح في السيطرة على مؤسسة التلفزة التونسية حينها. وكان هناك صد كبير من أغلبية أبناء الدار والنقابات والأحزاب والمجتمع المدني .وكررت النهضة محاولاتها ومرت إلى السرعة القصوى بالدفع إلى تنظيم اعتصام أمام مقر التلفزة في هضبة الهيلتون تواصل لأكثر من شهر بين مارس وأفريل 2012 تحت شعار ” اعتصام الأحرار لتطهير إعلام العار”. وكان ذلك تصعيدا لافتا من النهضة لضرب مؤسسة التلفزة والسيطرة على الإعلام بمنطق الترهيب والقوة. وتعددت في فترة ذلك الإعتصام خطب قيادات النهضة وتصريحاتهم لزيادة التجييش، من ذلك الدعوة التي أطلقها القيادي عامر العريض لخوصصة الإعلام العمومي وبيع التلفزة التونسية. وقد خلفت تلك الدعوة رفضا قويا من أوساط داخل التلفزة وخارجها . وانفض الإعتصام بعد صمود كبير من أبناء التلفزة ومساندة عدد من الأطراف السياسية ومكونات المجتمع المدني .
واقتنعت النهضة أن الرئيس المدير العام عدنان خذر عجز عن تحقيق هدف تطويع التلفزة وخاصة قسم الأخبار رغم حسن نيته، وهو ليس متخصصا في الإعلام ، ولم يعد رجل المرحلة. فقررت حكومة الجبالي في 17 أوت 2012 تعيين مديرة القناة الوطنية الثانية إيمان بحرون خلفا له. وأرادت حكومة النهضة أن تضرب عصفورين بحجر واحد، فبحرون ستكون من جهة أول إمراة ترأس التلفزة التونسية وبذلك تظهر النهضة في موقف المساند لتمكين المرأة من المناصب العليا في الدولة، ومن جهة أخرى فإن بحرون تنتمي إلى قطاع الصحافة ويمكنها بالتالي أن تضع قدما في قسم الأخبار. وكانت ايمان بحرون تتولى إدارة القناة الوطنية الثانية في عهد حكومة النهضة، وقدمت إلى التلفزة من وكالة تونس افريقيا للأنباء وقد أثار تعيينها استغراب أبناء المؤسسة التي لا تقل فيها الكفاءات القادرة على إدارة القنوات. وقد تكون حكومة النهضة خطّطت لتهيئة بحرون إلى المنصب الأعلى في المؤسسة وهو ما حصل بالفعل.
وعمدت الرئيسة المديرة العامة الجديدة إلى إقالة المدير التقني المنجي المنصوري رحمه الله والذي كان يساري الإنتماء ومعروف عنه معارضته للنهضة، ونجحت في عزل رئيس تحرير الأخبار وقتها سعيد الخزامي المعروف برفضه الشديد لتدخل النهضة حكومة وحزبا في الأخبار التلفزية. وكان أحد الصحفيين في النشرة الجهوية زمن العهد النوفمبري عماد الإنقلاب على الخزامي حيث تطوّع لجمع امضاءات زملاءه على عريضة تطالب بتنحية رئيس التحرير، وكان الأمر مقصودا ومخطّطا له. وسيكون هذا الصحفي الذي قاد الإنقلاب آخر رئيس تحرير للأخبار التلفزية في فترة لسعد الداهش الذي تم تعيينه بالرأي المطابق من الهايكا رئيسا مديرا عاما للتلفزة التونسية في 9 أوت 2018 .وقد انسحب رئيس التحرير تحت غطاء الإستقالة إثر إعلان التدابير الإستثنائية في 25 جويلية الماضي. ويقول بعض من زملاءه في الأخبار إنه تعمّد تهميش تغطية ما حدث في ذلك اليوم.
وقدمت ايمان بحرون استقالتها من رئاسة مؤسسة التلفزة التونسية في آخر عهدة علي العريض رئيسا للحكومة وفي ظرف أصبح فيه مؤكدا رحيل حكومة النهضة الثانية بطلب لا عودة فيه من الحوار الوطني الذي قادته المنظمات الوطنية وأيقنت بحرون أنه لم يعد للنهضة أي تأثير فأصبحت تكشف ما تعرضت له من ضغوط من قصري الرئاسة والحكومة زمن المرزوقي والجبالي والعريض. واعتبرت النهضة في المقابل أن بحرون خانت الأمانة فقبلت استقالتها في آخر مجلس وزاري لحكومة العريض وعينت هشام عيسى الكاتب العام لمؤسسة التلفزة رئيسا مديرا عاما بالنيابة وكان يعرف عنه ميولاته للنهضة. ولم يطل به المقام كثيرا على رأس التلفزة وخلفه مصطفى باللطيف الذي كان يدافع عن حياد المرفق العمومي التلفزي واستقلاليته ولكنه وجد في طريقه حواجز وضعتها الأطراف التي فقدت موقعها وتأثيرها ومنها النهضة حتى تمت اقالته بعد مشهد عرض رأس الراعي الشهيد مبروك السلطاني مقطوعا ،واعتبرت حكومة الحبيب الصيد ذلك هفوة مهنية فادحة، ولم يستبعد كثيرون من داخل الدار أن ما جرى لم يكن عملا بريئا.
فتح أبواب التلفزة على مصراعيها أمام النهضة في عهد الداهش
شهدت التلفزة التونسية حسب العديد من المراقبين وأبناء الدار من أوت 2018 حتى جويلية 2021 نفوذا كبيرا للنهضة وأصبحت تتحرك بحرية مطلقة بين أروقة المؤسسة، ولها فيها قول وفعل وتأثير في التعيينات. ونشط الموالون للنهضة داخل المرفق العمومي التلفزي، واصبح للحزب برنامج اسبوعي تشرف عليه صحفية معروفة في صفوف أبناء التلفزة بولائها المطلق للنهضة وعلاقاتها الوطيدة بقياداتها وتقول الكاتبة العامة للنقابة الأساسية للإخراج في التلفزة لمياء العريضي إن دليل ذلك البرنامج ومضمونه وضيوفه تضبط بالتشاور مع النهضة وحتى بتعليمات منها وإن الصحفية المقصودة لا تزال باتصال وثيق مع النهضة.
وكانت النهضة كذلك تتحكم في تغطية التلفزة التونسية لأشغال مجلس النواب وتفرض رأيها وموقفها الذي تمليه الإدارة على منظوريها رغم مواقف عدد منهم المشرّفة والتي نددت بتجاوزات النهضة وخاصة أثناء النقل المباشر للجلسات العامة. وكان الرئيس المدير العام للتلفزة التونسية في ذلك الوقت لسعد الداهش الصيد الثمين الذي بحثت عنه النهضة حسب العديد من المراقبين ولم يحرك ساكنا للدفاع عن حيادية التلفزة، بل كان متساهلا مع كل ما جرى، وكان وديعا مع النهضة ولم يتخذ ما يستوجب من المواقف في العديد من المناسبات وخاصة لما اعتدى نواب من حزب الغنوشي على مصور تلفزي في البرلمان لإجباره على التصوير من زاوية واحدة في جلسة صاخبة ومنعه من تصوير مشهد مناهض لكتلة النهضة وحلفائها.
النهضة داخل التلفزة بعد 25 جويلية…المناورة والإنتظار
وورّط الرئيس المدير العام لسعد الداهش نفسه بعد أن صدّ ابواب التلفزة أمام بعض الضيوف من نقابة الصحفيين والمجتمع المدني لحضور برنامج حواري حول التدابير الإستثنائية، فانكشفت ولاءاته لمن كانت مخفية عنه، وأقاله رئيس الدولة في 29 جويلية 2021، وتم تكليف عواطف الصغروني الدالي بإدارة المؤسسة وهي من أبناء الدار ولكنها أصبحت تسير في اتجاه واحد موال لقيس سعيد والحكومة ومنعت الأحزاب والأصوات المعارضة من المشاركة في البرامج الحوارية .
ولا يزال عدد من المسؤولين في التلفزة والمحسوبين على النهضة يحتفظ حتى اليوم بمواقعه حسب عدد من العاملين في التلفزة. ولا يزال هؤلاء ينقلون أخبار المؤسسة وما يدور فيها إلى مقر النهضة وفروعه ويتلقون رجع الصدى. ويحرص جماعة النهضة في التلفزة على التعامل مع الوضع الجديد بهدوء ومناورة في انتظار الآتي. ويبدو أن الإدارة الحالية للمؤسسة ترفض عودة البرامج الحوارية السابقة تحسبا لفتح ممرات جديدة للنهضة في التلفزة وتوفير فرصة ينتظرها نهضاويو التلفزة لتمرير بعض الرسائل.
وفي ظل هذه الأوضاع المتراكمة يتساءل كثيرون متى ستصبح التلفزة التونسية مرفقا عموميا حقيقيا ؟ ومتى ستدرك الأحزاب والسلطة أن للمواطن حقا في اعلام حر ومحايد ومستقل؟ ومتى سيدرك بعض الصحفيين أن المهنة أخلاق أو لا تكون، وأن شرف الصحفي في حياده واستقلاليته؟ وهذا مطمح الكثيرين وأملهم، ولكن الطريق إلى المرفق العمومي المأمول محفوف بالصعوبات والعراقيل وقد يظل مسدودا لسنوات أخرى .
لقد ثابرت التلفزة على كسب التلفزة الوطنية والسيطرة عليها رغم كونها تملك وسائل إعلام مرئي بعضها اندثر وبعضها لا يزال مستمرا مثل قناة الزيتونة. ولكن النهضة تدرك أن المرفق العمومي التلفزي هو الأهم والأنجع لما يملكه من امكانيات تقنية ومادية وبشرية وانتشار وتأثير. وعملت النهضة على تعيين الموالين لها والمتعاطفين معها على رأس المؤسسة وأهم خططها الوظيفية ولم تبخل بالمزيد كلما كانت في الحكم . ومن حسن حظ التلفزة أن جل ابناءها يطالب بحيادتها واستقلاليتها ويدافع عنهما.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 8 فيفري 2022
