الشارع المغاربي : ذلك اليوم المشهود الذي فيه استوى شيخهم على عرش باردو لا شك انه ذكّره بتلك الآية الكريمة التي صدّرنا بها هذه الكلمات والتي كان يترقّب معجزة مجيئها منذ ما يتجاوز نصف قرن، سُجن خلاله وحُكم عليه بالإعدام وعاش في المنفى عشرات السنين من أجلها؛ لكن، شاءت الاقدار ألا تأتي صناديق الاقتراع بالعدد الكافي من الأصوات لتحقيق هدف الأغلبية المطلقة المرتقبة وبعد فشل محاولات عديدة لطمر الهوّة، حصلت بين عشية وضحاها معجزة غير منتظرة، تمثلت في ابرام اتفاق بين ألد اعداء الأمس على التحالف حول الحكم، بدأ بالخطوة الاولى في ذلك المسار، أي انتخاب الشيخ لرئاسة مجلس النواب وتم بهذه الصورة، انجاز “المسار البرلماني” على الصورة الأكمل حسب الطرفين الفائزين، وإن لم يلائم ذلك ذوق العديد من الأطراف المعنية الأخرى. لكن، هل كان هذا “الاتفاق المفصلي” “نقطة انطلاق” أم “نقطة انتهاء”؟؛ وهل كان ذلك الإنجاز خطوة أولى في مسار ثنائي طويل المدى ام هو مجرد مرحلة تنتهي بمجرد الحصول على الغاية منها، أي الفوز بكرسي رئاسة مجلس النواب لفائدة الشيخ؟ – ربما كان احد الطرفين في المعاهدة يتخيل ان تكريس اصوات حزبه (38) في تلك الفترة الحرجة سيكافأ بأكثر من مجازاة ظرفية (منصب نائب اول لرئيس المجلس) ليمتد الى نوع من المشاركة في الحكم مع حليفه الجديد – لكن ليته تفطن الى ان “ما كل ما يتمنى المرء يدركه”: فحسب الطرف الأغلب، بعد بلوغ الغاية في الانتخاب لرئاسة مجلس النواب حسب ما اتفق عليه، انتهى ذلك “المسار البرلماني”،وفتح باب ثان هو باب “المسار الحكومي”، له احكامه ونواميسه واكراهاته الخاصة؛ وبذلك يسترجع الطرف القوي حريته في التفاوض مع من يشاء والتعاقد حول ما يشاء وكيف ما يشاء، كما انه سيسترجع تفرده بالقرار في ما بقي من الأمور. *- في الحقيقة، إن هذا الاتفاق “المبتور” يطرح اكثر من سؤال ويبعث على الحيرة حول العديد من النقاط: هل هذه التوافقات المفاجئة تعبير حقيقي عن مبدإ “الديمقراطية” التي سنها الدستور؟ – لا جدال في أن ما سنسميه “اتفاق مطلع الفجر” هذا أُبرم بمعزل عن جمهور الناخبين المنخرطين في كلا الحزبين المعنيين وفي تجاهل تام لخياراتهم الانتخابية الصارمة والقاطعة، وان الديمقراطية لم تُؤخذ بعين الاعتبار، وكما حصل في ماض غير بعيد، فما هو الا مجرد وهَم يُستظل به ولا يؤخذ على محمل الجد عندما يأتي زمن القرارت الجدية…؛ *- من جهة أخرى، فإن في خطاب الرئيس المنتخب امام مجلس النواب ما يدفع على الحيرة: فلقد صرح انه بانتخابه اصبح لا فقط رئيس المجلس وانما اصبح رئيس الشعب التونسي بأسره، ناسيا،من جهة أولى،أنه قبل أن يخلع على نفسه حُلّة رئاسة جميع التونسيين، عليه ان ينزع ثوب رئاسة حزبه؛ من جهة ثانية وبالأساس، عليه أن يتذكر ان الدستور الحالي كان قد عيّن من هو اجدر بتلك الرمزية؛ *- ثم، ومرورا الى ما سمي “المسار الحكومي”، لنتأمل في طريقة تعيين المرشح لرئاسة الحكومة: لا جدال ان هذا الامتياز يرجع الى الحزب المتحصل على اكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب (الفصل 89 من الدستور)؛ لكن الطريقة المتوخاة لتعيين رئيس الحكومة المقبل تدعونا لتقديم ملاحظتين هامتين تتعلقان بالتطورات المقبلة للمسار الحكمي الجديد : – الملاحظة الاولى هي ان في اختيار المرشحين لرئاسة الحكومة، اتفق الجميع على انه يجب اعطاء الأولوية لمعايير الكفاءة والاستقلالية والنزاهة؛ لكن، يبدو بوضوح ان الخيار الذي اعتمد فعلا لم يكن في المستوى المطلوب: فحسب جل الملاحظين، يبدو ان معيار ‘الكفاءة’ بعيد عن ان يكون مكتملا في الشخصية المختارة؛ وفي ما يخص شرط الاستقلالية، فإنه يبدو غير متوفر في شخص المرشح لانتسابه السابق لحزب النهضة وبسبب ولائه المعروف لرئيس النهضة، شخصيا،الذي يقال إنه كان مباشرة وراء قرار ترشيحه لهذه المهام الكبرى؛ وهذا من شأنه ان يشكك في سلامة الاختيار وفي نجاعة العمل الحكومي القادم… – والملاحظة الثانية تتعلق بإعلان رئيس البرلمان الجديد عن نيّته إنشاء هيكل صلب البرلمان يعنى بمراقبة اشغال الحكومة ورئاسة الحكومة بالخصوص، في تعاملهما مع المشاريع والإصلاحات الكبرى والخطوط الكبرى للسياسة العامة للبلد؛ وهذا التصريح له دلالات كبيرة في ما يخص التصور الجديد للمنظومة الحكمية في الفترة القادمة اذ يعني بوضوح ان لرئيس مجلس النواب نية في بسط رقابته – أو ادارته – على رئاسة الحكومة وعلى مختلف الهياكل الوزارية وغيرها وإخضاع نشاطها لنظر رئيس المجلس؛ وليس هذا بالمستبعد اذا تذكرنا ان تلك المنظومة تنبثق مباشرة من استراتيجية الاسلام السياسي التي ترمي الى إرساء الهيمنة الإسلاموية على كامل مفاصل الدولة اعدادا لتحقيق “أسلمة المجتمع” بأكمله؛ فالمنتهى النهائي لهذه التصورات يتمثل في بسط هيمنة مجلس الشورى على مجلس النواب وجعل السلطة التنفيذية نوعا من الـ”مَحميّة”التابعة لرئاسة السلطة التشريعية، مع ما يتطلب ذلك من تهميش صريح او مُقنّع لرئاسة الجمهورية؛ وهذا التجميع الاحتكاري لسلطة الدولة بين يدي شخص واحد لم يأت صدفة، بل يمثل خطوة هامة في إرساء منظومة اسلاموية محكمة ترمي الى تحقيق حلم آخر يعمل على إنجازه الملايين من المتحزبين وجنّدت لإنجازه المليارات من الدولارات وسطرت له الاستراتيجيات المدققة في سبيل تحقيق “الخلافة السادسة”…؛ ولا عجب أن أول من هنّأ الرئيس الجديد لمجلس النواب هو رئيس منظمة “الإخوان المسلمين” وأن الوعد بتحويل وديعة مالية ضخمة الى البنك المركزي لتونس جاء من طرف اكبر دولة ناشطة في مجال الدعوة الاسلاموية. *- إن المشهد السياسي في بلدنا مدعوٌ الى حصول عدة تقلبات عميقة على المستوى السياسي والدستوري والتشريعي، البعض منها يذكرنا بالتجارب الفاشلة لاحتكار الحكم من طرف “الترويكا” بصورة علنية او بصورة خفية، وينبئ بقلب النظام الدستوري الحالي من صيغته “شبه-البرلمانية” الى نظام “مجلسي” نظيف يهمن بفضله الحزب الاسلاموي على جميع مفاصل الدولة بمختلف مستوياتها مثلما كانوا يحلَمون به منذ الأيام الأولى لهذه الثورة وكانوا على وشك انجاحه تحت غطاء “الدستور الصغير” لسنة 2011؛ والى جانب ما ذكرنا حول العلاقة الجديدة التي يريد رئيس مجلس النواب ارساءها مع الحكومة والسلطة التنفيذية، لنذكر ما قاله هذا الأخير حول نيته العمل على ارجاع الهيبة وكامل الاعتبار للمجلس التشريعي، أي ما يعني العمل على تركيع السلطة التنفيذية – ربما في فرعيها، بصورة او بأخرى – امام “صاحب السيادة” في البلاد، أي المجلس التشريعي، وأمام رئيس المجلس التشريعي الجديد، خصوصا… – كل هذا تحت انظار الفُتَات الحزبي اليائس والمنخذل والذي يزعم تمثيل المجتمع العلماني الحداثي التقدمي الليبرالي الاشتراكي البورقيبي….