الشارع المغاربي – هل‭ ‬كشف‭ ‬حجّ‭ ‬الغريبة‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مستورًا‭ ‬بشأن‭ ‬التطبيع؟

هل‭ ‬كشف‭ ‬حجّ‭ ‬الغريبة‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مستورًا‭ ‬بشأن‭ ‬التطبيع؟

قسم الأخبار

3 يونيو، 2022

الشارع المغاربي-معز‭ ‬زيّود:هل‭ ‬كشف‭ ‬حجّ‭ ‬الغريبة‭ ‬بجزيرة‭ ‬جربة‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مستورًا‭ ‬بشأن‭ ‬التطبيع‭ ‬غير‭ ‬المعلن‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬المحتلّ؟‭ ‬ماذا‭ ‬إذن‭ ‬عن‭ ‬الخطاب‭ ‬المزمجر‭ ‬لقيس‭ ‬سعيّد‭ ‬وتوصيفه،‭ ‬قُبيل‭ ‬فوزه‭ ‬بكرسي‭ ‬الرئاسة،‭ ‬للتطبيع‭ ‬بأنّه‭ “‬خيانة‭ ‬عظمى‭”‬؟‭ ‬مؤشرات‭ ‬عديدة‭ ‬تُثبت‭ ‬أنّه‭ ‬خطاب‭ ‬مفرغ‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬مضمون،‭ ‬غير‭ ‬الخديعة‭ ‬والخذلان‭…‬

الغريبة‭ ‬مفتاح‭ ‬التطبيع

معلوم‭ ‬أنّ‭ ‬معبد‭ ‬الغريبة‭ ‬بجزيرة‭ ‬جربة‭ -‬الذي‭ ‬يُؤكّد‭ ‬القائمون‭ ‬عليه‭ ‬أنّه‭ ‬شُيّد‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬خمسة‭ ‬قرون‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭- ‬يستقبل‭ ‬أواسط‭ ‬شهر‭ ‬ماي‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬عام‭ ‬حجّاجا‭ ‬يهودا‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أصقاع‭ ‬العالم‭. ‬ولئن‭ ‬كان‭ ‬معظم‭ ‬الزائرين‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬تونسيّة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يهاجروا‭ ‬هم‭ ‬أو‭ ‬أجدادهم‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬فإنّ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬سيّاحا‭ ‬يهودا‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬تاريخيّة‭ ‬لهم‭ ‬بتونس،‭ ‬وإنّما‭ ‬استقدمتهم‭ ‬وكالات‭ ‬الأسفار‭ ‬كأيّ‭ ‬سيّاح‭ ‬آخرين‭. ‬وكان‭ ‬معلومًا‭ ‬للمتبصّرين‭ ‬أيضا‭ ‬أنّه‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يُشارك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحجّ‭ ‬سيّاح‭ ‬قادمون‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأتوا‭ ‬في‭ ‬رحلات‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬التقليد‭ ‬يقتضي‭ ‬ألّا‭ ‬يستخدموا‭ ‬جوزات‭ ‬سفر‭ ‬إسرائيليّة‭ ‬وإنّما‭ ‬جوازات‭ ‬أو‭ ‬وثائق‭ ‬سفر‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬أوروبيّة‭ ‬المنشأ‭. ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬سلطات‭ ‬الحدود‭ ‬التونسيّة‭ ‬تغضّ‭ ‬البصر،‭ ‬بوعي،‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬تُدرك‭ ‬أبعاد‭ ‬ما‭ ‬ورائها‭. ‬ورغم‭ ‬أنّ‭ ‬عدد‭ ‬هؤلاء‭ ‬السيّاح‭ ‬اليهود‭ ‬كان‭ ‬ضئيلا‭ ‬جدّا‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬السيّاح‭ ‬المتدفّقين‭ ‬على‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬سنويّا،‭ ‬فإنّ‭ ‬مرور‭ ‬تلك‭ ‬المناسبة‭ ‬بسلام‭ ‬كان‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬يُعدّ‭ ‬لاعتبارات‭ ‬أمنيّة‭ ‬مؤشرًا‭ ‬على‭ ‬انتظار‭ ‬موسم‭ ‬سياحي‭ ‬واعد‭. ‬ودليل‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬الاعتداء‭ ‬الإرهابي‭ ‬على‭ ‬معبد‭ ‬الغريبة‭ ‬عام‭ ‬2002‭ ‬شكّل‭ ‬آنذاك‭ ‬ضربة‭ ‬قاصمة‭ ‬للقطاع‭ ‬السياحي‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬لمواسم‭ ‬عديدة‭ ‬لاحقة‭. ‬

وللعلم،‭ ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬لليهود‭ ‬التونسيّين‭ ‬المشرفين‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرة‭ ‬أن‭ ‬حاولوا‭ ‬ممارسة‭ ‬ضغوط‭ ‬على‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬عبر‭ ‬المطالبة،‭ ‬ولو‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الاحتشام،‭ ‬بالقبول‭ ‬بتأمين‭ ‬رحلات‭ ‬سياحيّة‭ ‬مباشرة‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬السنويّة‭ ‬من‭ ‬تلّ‭ ‬أبيب‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬بما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُتيح‭ ‬زيادة‭ ‬عدد‭ ‬الزائرين‭ ‬اليهود‭ ‬بأضعاف‭ ‬عديدة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المغرب،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬المحاولات‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل‭ ‬لاعتبارات‭ ‬معروفة،‭ ‬وتتعلّق‭ ‬بثوابت‭ ‬الدبلوماسيّة‭ ‬التونسيّة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭. ‬أمّا‭ ‬اليوم،‭ ‬فيبدو‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬بلغته‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬واستضعاف‭ ‬قد‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬انتهاك‭ ‬معلن‭ ‬لكلّ‭ ‬الثوابت‭.‬

وبلغ‭ ‬الأمر‭ ‬حدّ‭ ‬نشر‭ ‬وكالات‭ ‬أسفار‭ ‬إسرائيليّة‭ ‬إعلانات‭ ‬ترويجيّة‭ ‬عن‭ ‬اعتزامها‭ ‬تنظيم‭ ‬رحلات‭ ‬من‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬لمواكبة‭ ‬موسم‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬كنيس‭ ‬الغريبة‭ ‬بجزيرة‭ ‬جربة‭ ‬التونسيّة‭. ‬أربع‭ ‬رحلات‭ ‬ذكرت‭ ‬إحدى‭ ‬وكالات‭ ‬الأسفار‭ ‬أنّها‭ ‬ستنطلق،‭ ‬أيّام‭ ‬12‭ ‬و13‭ ‬و14‭ ‬و19،‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬بن‭ ‬غوريون‭ ‬بتل‭ ‬أبيب‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬تونس‭ ‬قرطاج‭ ‬الدولي‭ ‬مرورا‭ ‬بمدينة‭ ‬أجنبيّة‭ ‬أخرى،‭ ‬تبيّن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أنّه‭ ‬يتعلّق‭ ‬بمطار‭ ‬أسطنبول‭ ‬التركي‭. ‬أثار‭ ‬ذلك‭ ‬طبعا‭ ‬استنكارا‭ ‬كبيرا‭ ‬لدى‭ ‬التونسيّين‭ ‬الذين‭ ‬تناقلوا‭ ‬إعلان‭ ‬وكالة‭ ‬الأسفار‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬على‭ ‬صفحتها‭ ‬بشبكة‭ “‬فيسبوك‭”‬،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أنّه‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬من‭ ‬اغتيال‭ ‬أحد‭ ‬قنّاصة‭ ‬جيش‭ ‬الاحتلال‭ ‬الصهيوني‭ ‬الصحفيّة‭ ‬الفلسطينيّة‭ ‬شيرين‭ ‬أبو‭ ‬عاقلة‭.‬

استضعاف‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة

ممّا‭ ‬زاد‭ ‬حالة‭ ‬الامتعاض‭ ‬أنّ‭ ‬وكالة‭ ‬الأسفار‭ ‬الأوروبيّة‭/‬الإسرائيليّة‭ ‬بيّنت‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الرحلات‭ ‬ستتضمّن‭ ‬زيارة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬والمعالم‭ ‬التاريخيّة‭ ‬والسياحيّة‭ ‬في‭ ‬تونس‭. ‬وبصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬دلالات‭ ‬هذا‭ “‬التطبيع‭ ‬السياحي‭” ‬فإنّ‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬تامّ‭ ‬بهذه‭ ‬البرمجة،‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬المؤكّد‭ ‬أنّها‭ ‬أعطت‭ ‬موافقتها‭ ‬القبليّة‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬فترة،‭ ‬باعتبار‭ ‬أنّها‭ ‬ستقوم‭ ‬بالتأمين‭ ‬والمرافقة‭ ‬الأمنيّة‭ ‬لكلّ‭ ‬تحرّكات‭ ‬تلك‭ ‬الوفود‭ ‬الإسرائيليّة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬طيلة‭ ‬الأيّام‭ ‬العشرة‭ ‬للزيارة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬طبعًا‭ ‬عن‭ ‬شركة‭ ‬أسفار‭ ‬وزير‭ ‬السياحة‭ ‬الأسبق‭ ‬وابن‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬اليهود‭ ‬التونسي‭ ‬روني‭ ‬الطرابلسي‭ ‬المقيم‭ ‬بفرنسا،‭ ‬لاسيما‭ ‬أنّه‭ ‬تعوّد‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬على‭ ‬تأمين‭ ‬رحلات‭ ‬موسم‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬كنيس‭ “‬الغريبة‭”. ‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬يُعدّ‭ ‬الشخصيّة‭ ‬اليهوديّة‭ ‬الأكثر‭ ‬إدراكا‭ ‬للمكامن‭ ‬التي‭ ‬تُؤكل‭ ‬منها‭ ‬الكتف،‭ ‬باعتباره‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بأدقّ‭ ‬التفاصيل‭ ‬المتعلّقة‭ -‬لا‭ ‬فقط‭ ‬بالسياحة‭ ‬التونسيّة‭- ‬وإنّما‭ ‬بأوضاع‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬كافّة‭ ‬الأصعدة‭. ‬ولا‭ ‬شكّ‭ ‬أنّ‭ ‬له‭ ‬صلة‭ ‬مباشرة‭ ‬بمختلف‭ ‬التفاهمات‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬بشأن‭ ‬هذه‭ ‬الرحلات‭. ‬وبما‭ ‬أنّه‭ ‬رجل‭ ‬ميدان‭ ‬ومقاول‭ ‬سياسة‭ ‬لا‭ ‬يهتمّ‭ ‬إلّا‭ ‬بتحقيق‭ ‬الربح،‭ ‬فإنّه‭ ‬يدرك‭ ‬قبل‭ ‬غيره‭ ‬أنّ‭ ‬خطاب‭ ‬الرئيس‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬بشأن‭ ‬تخوين‭ ‬التطبيع‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬عبارات‭ ‬للاستهلاك‭ ‬الداخلي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬مضمون،‭ ‬وخاصّة‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الظروف‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة‭ ‬والضغوط‭ ‬الكبرى‭ ‬الممارسة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬السلطة‭.‬

ولا‭ ‬أدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬فعاليات‭ ‬الزيارة‭ ‬السنويّة‭ ‬لكنيس‭ ‬الغريبة‭ ‬بجزيرة‭ ‬جربة‭ ‬اتّسمت‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬بطابع‭ ‬رسمي‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬بل‭ ‬غير‭ ‬مبرّر،‭ ‬تجسّد‭ ‬في‭ ‬مشاركة‭ ‬رئيسة‭ ‬الحكومة‭ ‬نجلاء‭ ‬بودن‭ ‬في‭ ‬الاحتفالات‭ ‬المذكورة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬وفد‭ ‬حكومي‭ ‬ضمّ‭ ‬أيضا‭ ‬وزيري‭ ‬السياحة‭ ‬والشؤون‭ ‬الدينية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬سابقا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬وزير‭ ‬السياحة‭.‬

اتّضح‭ ‬اليوم‭ ‬إذن،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬وقت‭ ‬سابق،‭ ‬أنّ‭ ‬الرئيس‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬سابقيه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بقضيّة‭ ‬التطبيع‭. ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬متمسّكا‭ ‬بموقفه‭ ‬المعلن‭ ‬خلال‭ ‬الحملة‭ ‬الانتخابيّة‭ ‬لسارع‭ ‬بإصدار‭ ‬مرسوم‭ ‬يُجرّمه،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬كلّ‭ ‬الصلاحيّات‭ ‬التشريعيّة‭ ‬والتنفيذيّة‭. ‬ألم‭ ‬يصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬سعيّد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الذكر‭ ‬مرسومًا‭ ‬جرّم‭ ‬بمقتضاه‭ ‬الاحتكار‭ ‬والمضاربة‭ ‬وشدّد‭ ‬العقوبات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭. ‬إذن‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬تفعيل‭ ‬المضمون‭ ‬المعلن‭ ‬لخطابه‭ ‬بشأن‭ ‬تخوين‭ ‬التطبيع،‭ ‬كالقانون‭ ‬المجرّم‭ ‬للتطبيع‭ ‬الذي‭ ‬أقرّته‭ ‬السلطات‭ ‬العراقيّة‭ ‬مثلا‭ ‬منذ‭ ‬أسابيع؟‭!. ‬يكشف‭ ‬ذلك‭ ‬طبعا‭ ‬مدى‭ ‬ازدواجيّة‭ ‬خطاب‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭.‬

ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنّ‭ ‬الحسابات‭ ‬السياسيّة‭ ‬للربح‭ ‬والخسارة‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬الإيفاء‭ ‬بأحد‭ ‬اهمّ‭ ‬تعهّداته،‭ ‬فهو‭ ‬القائل‭ ‬إنّ‭ “‬التطبيع‭ ‬خيانة‭ ‬عظمى‭”‬،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬كلّ‭ ‬الصلاحيات‭ ‬اليوم‭ ‬لإصدار‭ ‬أي‭ ‬مرسوم‭ ‬يريد‭. ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنّ‭ ‬إصدار‭ ‬مرسوم‭ ‬يُجرّم‭ ‬التطبيع‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُنهي‭ ‬آمال‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬إبرام‭ ‬اتّفاق‭ ‬تمويل‭ ‬مع‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭. ‬فلا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬بأنّ‭ ‬اللوبي‭ ‬الصهيوني‭ ‬متغلغل‭ ‬في‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الماليّة‭ ‬العالميّة،‭ ‬وخاصّة‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكيّة‭ ‬المتحكّمة‭ ‬قبل‭ ‬أيّ‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬قرار‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الماليّة‭ ‬الكبرى‭ ‬الأخرى‭. ‬

إحراج‭ ‬وتوزيع‭ ‬أدوار

كان‭ ‬منتظرا‭ ‬طبعا‭ ‬أن‭ ‬تحاول‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬امتصاص‭ ‬الغضب‭ ‬الشعبي‭ ‬بشأن‭ ‬الأنشطة‭ ‬التطبيعيّة‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬مضطرّة‭ ‬للسكوت‭ ‬عنها‭. ‬وممّا‭ ‬عمّق‭ ‬حالة‭ ‬الإحراج‭ ‬المقصود‭ ‬التي‭ ‬مارسها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬الوفود‭ ‬الإسرائيليّة‭ ‬وفي‭ ‬مقدّمتهم‭ ‬الناشط‭ ‬الصهيوني‭ ‬إيدي‭ ‬كوهين‭ ‬الذي‭ ‬وجّه‭ ‬رسالة‭ ‬شكر‭ ‬مسمومة‭ ‬إلى‭ ‬الرئيس‭ ‬قيس‭ ‬سعيد،‭ ‬معربًا‭ ‬عن‭ ‬شكره‭ “‬لسماحه‭ ‬لمئات‭ ‬الإسرائيليّين‭ ‬بدخول‭ ‬تونس‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬الغريبة‭”. ‬وخلال‭ ‬الأيّام‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬تحرّك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الحكومة‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬مواقف‭ ‬تونس‭ ‬الثابتة‭ ‬من‭ ‬رفض‭ ‬التطبيع‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬علّق‭ ‬وزير‭ ‬الشؤون‭ ‬الدينية‭ ‬إبراهيم‭ ‬الشايبي‭ ‬على‭ ‬الإتهامات‭ ‬الموجّهة‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬والجكومة‭ ‬بشأن‭ ‬التطبيع‭ ‬المتزامن‭ ‬مع‭ ‬الزيارة‭ ‬السنوية‭ ‬للغريبة‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة،‭ ‬معتبرا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ “‬الإتهامات‭ ‬تعدّ‭ ‬مزايدات‭ ‬ومتاجرة‭ ‬بهدف‭ ‬تسجيل‭ ‬نقاط‭ ‬سياسية‭”. ‬كما‭ ‬شدّد‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ “‬الإتهامات‭ ‬بالتطبيع‭ ‬تضرب‭ ‬صورة‭ ‬تونس‭ ‬وتمسّ‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭”. ‬وعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬أنّ‭ ‬الوزير‭ ‬يقصد‭ ‬اتّهامات‭ ‬حركة‭ ‬النهضة‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬حرفيّا‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬مكتبها‭ ‬التنفيذي،‭ ‬الصادر‭ ‬منذ‭ ‬أيّام،‭ “‬إنها‭ ‬ترفض‭ ‬استغلال‭ ‬موسم‭ ‬الغريبة‭ ‬لتمرير‭ ‬أشكال‭ ‬من‭ ‬التطبيع‭”. ‬والحال‭ ‬أنّ‭ ‬حركة‭ ‬النهضة‭ ‬هي‭ ‬أساسا‭ ‬التي‭ ‬حالت‭ ‬سابقا‭ ‬دون‭ ‬تمرير‭ ‬مشروع‭ ‬تجريم‭ ‬التطبيع‭ ‬بمجلس‭ ‬نوّاب‭ ‬الشعب‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬تُهيمن‭ ‬على‭ ‬الأغلبية،‭ ‬بحكم‭ ‬علاقاتها‭ ‬المحكومة‭ ‬بمهادنة‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكيّة‭. ‬وفي‭ ‬اواقع‭ ‬ما‭ ‬يضرب‭ ‬صورة‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تمارسه‭ ‬السلطة‭ ‬والمعارضة‭ ‬من‭ ‬استخفاف‭ ‬بالخطاب‭ ‬وبعقول‭ ‬التونسيّين‭ ‬قبل‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬لأنّه‭ ‬تبيّن‭ ‬بالمكشوف‭ ‬حجم‭ ‬الخديعة‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بقضيّة‭ ‬بتجريم‭ ‬التطبيع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كاّفة‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭…‬

ولا‭ ‬ريب‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬الرسميّة‭ ‬إنّما‭ ‬تندرج‭ ‬ضمن‭ ‬محاولة‭ ‬توزيع‭ ‬الأدوار‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬ضمن‭ ‬مناورات‭ ‬سياسيّة‭ ‬تحاول‭ ‬التغطية‭ ‬على‭ ‬ازدواجيّة‭ ‬الخطاب‭ ‬والفعل‭ ‬السياسيّين‭. ‬ويعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنّه‭ ‬تُرك‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الوزراء‭ ‬هامش‭ ‬من‭ ‬التحرّك‭ ‬السياسي،‭ ‬لكنّه‭ ‬لن‭ ‬يُغيّر‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هؤلاء‭ ‬الوزراء‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬رئيسة‭ ‬الحكومة‭ ‬نجلاء‭ ‬بودن‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬تحرّكاتها‭ ‬محسوبة‭ ‬بالخطوة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬القصر‭ ‬الرئاسي‭ ‬الذين‭ ‬دفعوا‭ ‬بها‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬احتفالات‭ ‬الغريبة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬العادة‭.‬

وهل‭ ‬يخفى‭ ‬أنّها‭ ‬ليست‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يُدير‭ ‬فيها‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬ظهره‭ ‬للفلسطينيّين‭. ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬له،‭ ‬باعتباره‭ ‬المسؤول‭ ‬الأوّل‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجيّة‭ ‬التونسيّة،‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬على‭ ‬إقالة‭ ‬سفير‭ ‬تونس‭ ‬لدى‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬بنيويورك‭ ‬المنصف‭ ‬البعتي،‭ ‬بعد‭ ‬ضغوط‭ ‬أمريكيّة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬لأنّه‭ ‬شارك‭ ‬باسم‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬مشروع‭ ‬قرار‭ ‬دولي‭ ‬يُدين‭ ‬ما‭ ‬سُمّي‭ ‬بـ‭”‬صفقة‭ ‬القرن‭” ‬الأمريكيّة‭ ‬المنتهكة‭ ‬للقانون‭ ‬الدولي‭ ‬والهادفة‭ ‬إلى‭ ‬تصفية‭ ‬القضيّة‭ ‬الفلسطينيّة‭. ‬فالذنب‭ ‬الوحيد‭ ‬لسفير‭ ‬تونس‭ ‬لدى‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬آنذاك‭ ‬أنّه‭ ‬تمسّك‭ ‬بثوابت‭ ‬الدبلوماسيّة‭ ‬التونسيّة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالقضيّة‭ ‬الفلسطينيّة،‭ ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬ظنّه‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬حراكه‭ ‬ذاك‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬توجّهات‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬بخصوص‭ ‬القضيّة‭ ‬الفلسطينيّة‭ ‬ورفض‭ ‬التطبيع‭ ‬المجّاني‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬وفضيحة‭ “‬صفقة‭ ‬القرن‭”. ‬ورغم‭ ‬خبرته‭ ‬الدبلوماسيّة‭ ‬الطويلة‭ ‬لم‭ ‬يستوعب‭ ‬آنذاك‭ ‬أنّ‭ ‬خطاب‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬خطاب‭ ‬انفعالي‭ ‬زمن‭ ‬الحملة‭ ‬الانتخابيّة‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬له‭ ‬كليّا‭ ‬بواقع‭ ‬سياسته‭ ‬الخارجيّة‭.‬

وعموما‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬سعيّد‭ ‬يُدرك‭ ‬فعلا‭ ‬أنّ‭ ‬خطابه‭ ‬بشأن‭ ‬الرفض‭ ‬القاطع‭ ‬للتطبيع‭ ‬وتخوينه‭ ‬قد‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الهذيان‭ ‬المكشوف‭. ‬فالسياسة‭ ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬تهديد‭ ‬ووعيد‭ ‬وخطاب‭ ‬مزبد‭ ‬بلا‭ ‬مضمون،‭ ‬وإنّما‭ ‬هي‭ ‬فعل‭ ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نرى‭ ‬له‭ ‬مكانا‭ ‬في‭ ‬أولويات‭ ‬صاحب‭ ‬السلطة‭…‬


نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 31 ماي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING