الشارع المغاربي: فقدت البلاد التونسية يوم الأحد الفارط علما من أعلام الأدب والفكر ورجلا من رجالات تونس الدولة الوطنية الحديثة، فهو من أبرز الذين كان لهم بصماتهم المتميّزة على الثقافة في تونس إبداعا وتسييرا وإنشاء لمؤسّسات رائدة، امتدّ تأثيرها الإيجابي إلى حقل التعليم العالي. إنّه الكاتب والمبدع والوزير المصلح الناجح سي البشير بن سلامة، الذي توفي عن سنّ تناهز الاثنتين والتسعين سنة (92 سنة ) وهو الذي كان على رأس وزارة الشؤون الثقافية التونسية في أبهى عهودها، مصلحا مؤسسا، له مشاركته البارزة في إصلاح شأن الثقافة وبعث مؤسّساتها الكبرى والمرجعية، بالتوازي مع إنجاز منارات ومعالم رائدة بجهد ذاتيّ ومبادرات شخصية غالبا، ليصبح ذلك لاحقا بمثابة قوانين ومبادئ بل تقاليد راسخة، ظلّت تفتخر بها تونس ونخبها المثقّفة والمبدعة إلى زمننا هذا … هنا يمكن أن ننظر إلى أهمّ إنجازات البشير بن سلامة، التي صارت بمثابة بإصلاحات سيذكرها التاريخ ويدونها المؤرّخون بفخر. من خلال مسارين كبيرين استقطبا أنشطة حياته وأعماله الرائدة في المسؤوليات وفي التأليف الذي ينقسم بدوره إلى ما هو إبداعي، يتعلّق بكتابة السرد في مجال القصّة والرواية خاصّة. وبمنجزاته الرائدة لفائدة وزارة الشؤون الثقافية، التي تولّى منصب ترأسها وزيرا في الفترة بين عامي 1981 و1986”.
1)-من إنجازاته الرّائدة على رأس وزارة الشؤون الثقافية
أوّلا تجدر الإشارة إلى أنّ البشير بن سلامة أتمّ مرحلة تعليمه الابتدائي ثمّ الثانوي بالمدرسة الصادقية بالعاصمة، ثم واصل دراسته العليا بمعهد الدراسات العليا، ثمّ بدار المعلمين العليا بتونس، فجر انبعاثها، ليحصل هناك على الإجازة في اللغة والآداب العربية، وقد درّس في المعهد العلوي … وبالتوازي مع ذلك انطلقت تجربته منذ فجر الخمسينات مع التأليف وكتابة المقالة النقدية وتنوّعت مشاركاته في حقل الصحافة الأدبية والثقافية، وفي مجال القصّة القصيرة، ثمّ الرواية وله دراسات وأبحاث متنوعة في قضايا اللغة والحضارة والتاريخ، وترجم عديد الآثار المهمّة من الفرنسية إلى العربية.
فلقد كان منذ سنة 1955 من أبرز المسؤولين عن انبعاث مجلة “الفكر” ذائعة الصيت وعلى استمرار صدورها، إلى احتجابها في منتصف الثمانينات، وكان من أهمّ كتابّها في النقد والإبداع. من ناحية أخرى كان من أبرز المتحمّسين لبعث “اتّحاد الكتّاب التونسيين” وساهم في إنجاح انطلاقته وشارك في عشرية السبعينات في تسيير. ولمّا تولّى حقيبة وزارة الثقافة التونسية سنة 1981، قدّم إنجازات رائدة لفائدة الكتاب والثقافة والمثقفين والإبداع، صارت مهمّة للغاية ورائدة وتاريخية…
لعلّ من أبرزها بعث معرض تونس الدولي للكتاب، ليصبح تظاهرة ثقافية دولية تونسية عالمية كبرى، وسارع في بعث مؤسسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، فضاء لإنتاج المعرفة العميقة ولتركيز أنشطة البحث العلمي الجادّ وعمل إرساء قانون أساسي له، وبُعثت زمن وزارته تظاهرة أيّام قرطاج المسرحيّة أسوة بأيام قرطاج السينمائية، وبعث أيضا مهرجان الأغنية التونسية الذي سيصبح لاحقا مهرجان الموسيقى التونسية، ثم أيام قرطاج الموسيقية. وبعثت في عهده وبحرص منه مؤسسة المسرح الوطني (شارع باريس)، فأصبحت الحركة الثقافية والإبداعية في تونس تسندها مؤسّسات ثقافية.
والأجدر والأهمّ في تقديري، وهو ما بحثت فيه سابقا، أنّه بادر إلى بعث تلك المؤسسات الأكاديمية التعليمية الفنية الخاصّة بالمسرح والموسيقى، فولدت فضاءات جامعية بقانون أساسي: المعهد العالي للموسيقى، ثمّ المعهد العالي للفنّ المسرحي، والمعهد العالي للتنشيط الثقافي، فهذه المؤسسات قبل أن تصبح مؤسسات أكاديمية، تكونت في رحم وزارة الثقافة، ليكون الالتقاء في وظائفها ما بين التعليم والتكوين الحرفي وصقل الموهبة عبر الدربة.
وهنا يجدر التذكير بإنجازاته في مجال دعم للكتاب والورق والنشر في مؤسسات وزارة الثقافة ودورياتها مثل “الحياة الثقافية” ومجلّة “فنون” التي كان يديرها الكاتب المبدع فتحي اللواتي، كذلك دائرة المعارف التونسية التي كانت تصدرها بيت الحكمة، وملتقيات وزارة الثقافة التي ظلّت تصدر تبعا في كتب مفردة.. بل عمل على سنّ قانون أساسي خاص بالمبدعين الكبار الذي ليس لهم شغل، ليتقاضى كلّ واحد منهم شهريا ألف دينار (1000د)، وذلك منذ أوائل الثمانينات، وهو ما يعادل آنذاك ضعف راتب أعلى موظّف في الدولة، ومازال بعض منهم على قيد الحياة ويتقاضى تلك المنحة..
فالبشير بن سلامة رغم أنّه كان رجل سياسة، فهو من رموز الحزب الحاكم؛ “الحزب الاشتراكي الدستوري، واشتغل وزيرا لدى الرئيس بورقيبة، كان لسان دفاع عن المثقفين والمبدعين مهما كانت ألوانهم حاميا منافحا عن حقوقهم، وعمّا يكفل لهم العيش الكريم، ففي زمنه يطبع الكتاب بعشرة آلاف نسخة، وهناك من الكتب، ما نجد قد دوّن ذلك على أغلفتها. وفي زمنه تشتري وزارة الثقافة ألف نسخة وأكثر… ولم يقل أي مسؤول: لا يوجد دعم أو هناك نقص في الميزانية….
2)-من إبداعاته في الأدب والفكر والنقد والترجمة
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فسي البشير رجل فكر وإبداع بامتياز، تنوّعت مجالات تأليفه واهتماماته وترجماته الرائدة عن الفرنسية خاصّة، فبالنسبة إلى حقل إبداعه في مجال السرد، فقد رواح بين كتابة القصّة والسيرة الذاتية والرواية بصفة خاصّة، وتجدر الإشارة هنا إلى روايته الرائعة “عائشة” التي طبعت، منذ فجر الثمانينات، مرّات ثلاثا، وله روايات أخرى: ومن أبرزها روايته السير ذاتية “عابرة هي الأيام”.
وفي مجال اهتمامه بمجال الفكر ومسائل الحضارة، له ريادة بارزة ومهمّة؛ فلئن اهتمّ المفكّر والمرّخ الكبير هشام جعيط بالشخصية في بعدها العربي والإسلامي، فالبشير بن سلامة اهتمّ بدراسة “الشخصية التونسية: مقوّماتها وخصائصها”، وهو كتاب صدر له منذ السبعينات عن مؤسسة بن عبد الله، تونس. وترجم في الغرض نفسه كتاب كويكن (ج. س)؛ “الشخصية التونسية”. وفي السياق نفسه وضع كتابه “النظرية التاريخية في الكفاح التحريري التونسي”. وغير ذلك من الدّراسات والبحوث المعرفية والفكرية العميقة والجادّة، إضافة إلى ترجمات متنوّعة ورائدة في الغرض نفسه..
وهكذا كما قال الصديق مصطفى عطية المدير للإعلام والثقافة بوزارة الثقافة سابقا، في تدوينة له: “إنّه برحيل المبدع والمفكر والمسؤول الثقافي الكبير البشير بن سلامة، تُطوى صفحة ناصعة من تاريخ الثقافة والفكر في تونس”.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 فيفري 2023