الشارع المغاربي: نسلم على وجه الإفتراض أنّ عنوان التهم الموجهة رسميا إلى الموقوفين هو فعلا ”التآمر على أمن الدولة”. وهذه التهمة المفترضة ثقيلة. والتحرك الأمني والقضائي في شأنها مستوجب. لكن عنوان التهمة لا يفصح عن فحواها. فقد سكتت عنه الجهةُ الرسمية التي حرّكت الدعوى ثم عَوَمته بتهم شتى غير مؤكدة تأكيدا قضائيا رسميا. فالتحفظ الذي تقتضيه سريةُ الأبحاث لا يمنع الإدلاءَ بما يجوز الإدلاءُ به. فقضية بهذا الحجم هي من شأن الرأي العام. ثم إن الإيقافات التي جرت في نطاق التهمة سواء من حيث الإجراءات أو من حيث الزمن، تثير أسئلة تتعلق بانتقائية الجهة الرسمية التي حركت الدعوى وازدواج معاييرها، فضلا على تنوع التهم داخل العنوان الجامع، واختلاف المتهمين في حملة اعتقالات لهم واحدة.
1/غموض التهم أو تنوعها
فتحت التهم الغامضة مجال التوقع والتأويل والتخمين والتسريب. وخلَق الغموض الرسمي المتعمَّد احتمالين. وهما احتمال أن تكون التهم جنائية خالصة تولاها قضاء مستقل. واحتمال أنّ التهم “سياسية” متسترة بالقانون يتولاها قضاء موجّه. وأدى الأخذ والرد بين الإحتمالين إلى ردود أفعال وطنية ودولية وضع أغلبُها في ميزان الشك قانونيةَ التهم .و ظهرت، تبعا لذلك في الداخل والخارج، بيانات”التنديد”و”الإنشغال” و”القلق”. والرّاجح أن تلك البيانات لا تنهض كلها على فراغ.
وما زاد من منسوب الشك في قانونية التهم ، على وجاهتها الرائجة، أن الموقوفين هم رجال أعمال ورجال سياسة وأمنيون وإعلاميون. والتهمة الموجهة إليهم متنوعة وإن كان عنوانها الجامع هو”التآمر على أمن الدولة”. فالإيقافات جرت على الشياع من دون فرز بين التهم على ثقلها والمتهمين على قوة الإشتباه فيهم أو في أغلبهم.
لا يبدو هذا الجامع واضحا سواء لدى الجهة الرسمية المحركة للدعوى أو في الرائج من التّسريبات التي لا موجب للشك في صحتها. والمرجّح أن الجامع بين هؤلاء المتهمين أنّ تهمهم جنائية ولو بالغلبة، وأنهم أقرب إلى معارضة سعيد منها إلى تهديد أمن الدولة. ولو صح هذا الإحتمال المتوقع لصحّ أن الجانب السياسي أكيد في التهم. ولو لو يكن ذلك كذلك لما أصر الطرف الرسمي على ذاك الغموض أو على التسريبات المختلفة والتصريحات المتباينة، بما فيها تلك الصادرة عن سعيد نفسه. أمَا كان أولى بجهة الدعوى أن توضح التهم بما لا ينافي ضوابط التحقيق، وأن تفصل بين تهم الموقوفين فصلا قانونيا بستبعد الوجه السياسي منها ويقرّ وجهها القانوني الجزائي المتعلق بالحق العام والوجه الذي من مشمولات قطب الإرهاب. ؟
2/ إنتقائية الإتهام
من الصعب التسليم بأن زمن الإيقافات زمن قانوني. فالظاهر لا بل شبه الأكيد أنه زمن سياسي. ويقوم هذا الترجيح على اعتبارين اثنين جَلِيَّين. الإعتبار الأول هو الإنتقائية الزمنية التي بها تعامل سعيد مع هذا الملف، وهو تعامل شبيه، من حيث الهدف، بما كان قد دأب عليه إخوان النهضة. بيان ذلك أن الإخوان كانوا كلما ضاق عليهم الخناق أثناء مسكهم المباشر للحكم، تحرّك “بالمصادفة العجيبة”الإرهابُ تحركا يكون به الإشغال والتّرهيب. ويبدو سعيد قد استنسخ تلك “المصادفة” على طريقته لأن المَعينَ الثقافيّ بينه وبينهم واحد. فكلما وجد نفسه في زاوية النزول لشعبيته، استنهضها لدى الوجدان الجمعي الساذج بفتح بحث ضد الإخوان أو بإقامة جبرية أو باعتقال أو بآستدعاء. والمرجح أن سعيد أدرك، بعد انتخاباته الفاشلة وبعد أن اشتدّ على المواطنين خناقُ الغلاء وشح البضائع، أنّ شعبيته على وشك أن تَذرُوها رياحُ السخط الشعبي. فجازف، متشنجا متوجّسا، بحملة اعتقالات كاسحة عسى أن يشغل بها المواطنين عن بؤسهم وأن يوهمهم بأنه قد استهل زمن المحاسبة التي تسكّن ألامهم.
ومما راج عن محاضر البحث وما تسرب منها تسربا أبعد ما يكون عن العفوية، أن التهمة التي أُرِيد لها أن تكون قاسما مشتركا بين المتهمين على الشياع هي”التآمر على أمن الدولة”. و تصريف التهمة الجامعة هو من قبيل تجفيف السلع الغذائية تجفيفا يبعث على الإحتجاج الشعبي على سعيد، وعقد جلسات مناوِئَة له، وتدبير ما به ينزاح عن السلطة، ومُضِيُّ وسيلة إعلامية في خط تحريري معارض له، والتقاط مكالمات وإرساليات تفصح عن رغبة في إبعاده عن الحكم، ومجالسة شخصيات سياسية خارجية، والاستيلاء على أموال وتفليس بنوك، والتّحوز على وثائق تتعلق بقضايا إرهابية الخ…و المشترك بين هذه التهم صعب الإستواء. فمنها ما هو شبهات جنايات من مشمولات دوائر الحق العام. ومنها ما هو من مشمولات قطب الإرهاب. لكن الجهة الرسمية استبقت إلى تكيفها ‘تآمرا على أمن الدولة” والحال أنها، إن انطوت على تآمر، فهو على”أمن سعيد” قبل أمن الدولة أو بموازاته، لأن القاسم المشترك بين المتهمين هو سياسي، وهو معارضة سعيد. وفوق ذلك هل يجري التآمر المفترض عليه مجرى التآمر على الدولة؟ ليس ذلك وجوبا. ذلك أن خيوط “التآمر” المفترض لا تنطوي على معارضة بقوة السلاح أو على حثّ على العنف السياسي أو المجتمعي أو على الإنخراك في أسباب كل ذلك. فالتآمر الفعلي على أمن الدولة تمثّله كيانات وشخصيات يتعمّد الطرف الرسمي ألا يراها.
قد نسلم، افتراضا مرة أخرى ، بأن “التآمر” ذاك ، ولو بالتهم تلك، هو تآمر على الدولة بتعلّة ألا فصل بين التآمر على الدولة والتآمر على رئيسها. لكن سعيد أبطل هذا الوصل بين”التّآمُرَينِ” إبطالا متسرعا لا فطنة فيه. فقد توخّى انتقائية فَصَل بها التآمرَ عليه عن التآمر على الدولة، فقدّم نفسه عليها. فلما قدر، وحده، أنّ المستهدف هو شخصه ومنصبه، حرّك الآلة الأمنية والقانونية بسرعة ليلية قصوى. فأين كانت هذه السرعة إزاء قضايا أمن دولة صريحة!!. فهذه الإنتقائية التي بها قدّم سعيد أمنه على أمن الدولة، عزل تهما متعلقة ببعض الموقوفين عن الجهة التي ضِمن شبكتها التنظيمية حصلت شبهات الجرائم الموجهة إليهم. فكيف تنفصل مثلا التهم الموجهة إلى القاضي السابق البشير المكرمي أو إلى نور الدين البحيري عن تنظيم إخوان النهضة! ثم إن شبهات الإغتيال والإرهاب والتسفير لا تنفصل عن التنظيم ذاك على نحو ما هو مثبت لدى هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي، وفي شهادات ووثائق رائجة. وتهمة” التآمر على أمن الدولة” و” التخابر مع الخارج” قد وجهها سعيد نفسه بصيغة النكرة المقصودة إلى التنظيم نفسه. فكيف لا تتحرك دعوى، استئناسا بكل ذلك وبتقرير محكمة المحاسبات، ضد قانونية حزب إخوان النهضة واستمرار نشاطه ونشاط رئيسه؟! وعلى ذلك نقيس جمعية القرضاوي وأشباهها وفروعها وحزب التحرير. فهذه الكيانات هي بدورها مصدر تآمر صارخ على أمن الدولة ونظامها الجمهوري وعلى المجتمع وقيمه.
يرجّح تحريك هذه القضايا أنّ هاجس سعيد فيها ليس قانونيا حاميا للدولة والمجتمع وإنما هو سياسي ذاتي. فهذه الكيانات التي يمنع القانون والدستور نفسه وجودَها، تمارس اليوم أنشطتها في مقرات لها معلومة. فلعل سعيد لا يراها إلا من زاوية أنها خزان انتخابي يمثل القاع المجتمعي المحافظ والجاهل. ففي هذا القاع حظوته.
3/ مداهمات الليل
قد لا نخشى المجازفة بالقول إن بعض الموقوفين على وجه الحصر لا تحقّ لهم قرينة البراءة إلا استحقاقا نظريا. لكنه استحقاق أكيد. فهو من روح القانون ومن حدود الفصل بين العدل والتشفّي، وبين سلامة الإجراءات واختراقها. وعلى ذلك لا يبدو أن المحاسبة القانونية تسير في النهج السليم، وإنما هي بصدد الإنحراف عن كونها مطلبا شعبيا إلى كونها مطلبا لشعبية سعيد. وإنّ لذلك علامات أربعا على الأقل.
أما العلامة الأولى فهي أنّ الإيقافات بدت غاشمة، في شكل ملاحقات في الطريق العام، ومداهمات ليلية، واقتحامات منزلية من دون إشهار للأذون. لا بل لعلها تتّجه إلى استنساخ طرق”القاستابو الهيتلري”. فلا ننسى أن هتلر قد حصّل السلطة بالإنتخابات.
وأما العلامة الثانية فهي أن سعيد قد جعل نفسه لا جهة رسمية رافعة للدعوى بواسطة النيابة العمومية، وإنما هيئة قضائية ثلاثية المراحل تطلق أحكامها الباتة إطلاقا لا يبعث على التسليم باستقلال القضاء. لا بل نصّب نفسه طبيبا للأمراض العقلية يحسم في الجنون وفي ادعاء الجنون.
وأما العلامة الثالثة فهي أن مآل هؤلاء المتهمين بالفعل أو غيرهم من” المتهمين” بالقوة ليس من شأن القضاء وحده. فقد ظهرت أجسام كريهة وكيانات إعلامية وسياسية طفيلية جاعلةً من مساندتها لسعيد، وهذا من حقها، مطيةً بها توجّه القضاءَ توجيهَ ضغط وتدخّل في مهامه، وتدلي بما هو في الأصل من أوراق القضايا. لا بل تنطق باسم النيابة بالإستباق إلى من سيشملهم الإيقاف. ومن مساندتهم لسعيد يجرؤون على ما لا يجوز لهم أن يجرؤوا عليه. ففي دواخلهم إحساس بالحماية الخاصة.
وأما العلامة الرابعة فهي أنّ سعيد قد كشف أنه بهذه الإيقافات ، على نحو ما ذكرنا، إنما يبلّغ رسالة للجميع بيانها أنه القضاء والسلطة والدولة والشعب والأمن والجيش والمؤسسات، وأنه يحاسب من يريد ويغض الطرف عمّن يريد، ويخطّ القوانين والدستور بلا رقيب ولا سلطة مضادة، وأنه ماسك بمصائر القضاة والبرلمانيين وموظفي الدولة. إنّ طريق المحاسبة ليست هذه.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 فيفري 2023