الشارع المغاربي: وإن كانت ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011 في تونس قد فرضت نفسها على الصديق والعدو … وعلى الــــ”بَيْنَ بيْن” كمُعطى موضوعي لا فكاك منه، كتطلعات وشعارات وخطابات وتحولات في الاجتماع، فإنّ التغيير في مسيرة الثورة ومسارها لن ينجح إذا لم تُفَكك “أبْنيَةُ القاع”، أي ما ثار الناس عليه وطالبوا بتجاوزه، أبنيةٌ لا زالت تفعلُ في واقعنا جبهاتِ صدٍ لكل جديد فارقٍ يولد.
بوصلة التغيير
من بين أهم أركان بوصلة التغيير وشروطها الانخراط الجماعي الطوعي في خدمة مستقبل البِنْية المأمولة، وذلك ما يحتاج إلى جرعة من الثقة بين الدوائر المُشكّلة للبنية: بين الحاكم والمحكوم، وبين الطبقات في ما بينها، وبين الفاعلين وجمهور المواطنين … الخ.
المشكلة الحقيقية في واقع بلادنا وثورتنا، الفقدان التام لقيمة الثقة، وهي ترجمة لغياب كلي للانخراط الطوعي في بناء الجديد. والسبب برأينا أننا لم نوفّر الشروط الموضوعية لتفكيك “أبنية القاع” التي حالت في تاريخنا المعاصر دون تحقيق مشروع المشاركة الجماعية (الانخراط الطوعي) في تحقيق العدل والعدالة؛ وذلك رغم محطّاتٍ سريعة ثلاث، خِلْنا أنها ستغيّر مسار الجماعة، ولكنها تحوّلت إلى لحظات زائغة سرعان ما تبخرت آمالها:
- لحظة استلام خير الدين باشا الوزارة الكبرى عام 1873.
- ولحظة الاستقلال 1956.
- ولحظة الثورة: جانفي 2011
كانت لحظات الاستبشار الشعبي تلك (نسمّيه هنا بالانخراط الآني الحَذِر) إعلانًا مبدئيا عن استعداد الشعوب للتضحية في سبيل التغيير. لذلك تملّكتْ فضاءات عمومية بعينها، وأعطت لبعض الشوارع هوية تحركاتها وهوية المعنى الذي كان يولد وقتها، أماكن جسدت عبرها تعبيراتها عن الاحتجاج وعن التضامن في آن. كان ذلك “الزحف الهادئ للمعتاد” (بعبارة آصف بايات في كتابه “الحياة سياسة”) يقف عند الإعلان عن الانخراط، ثم يسلّم “حق” ترجمة الإعلان إلى النُخب ليرى الشعب ما يفعل بالتوكيل.
كان ذاك دأب الجماهير في اللحظات الثلاث التي ذكرنا أعلاه، وفي كل مرّة كانت تكتشف أن تسليم نُخبتها مقاليد ترجمة الإعلان إلى واقع يومي تحوّل إلى وهم، فتهجر الأمكنة التي تملّكتها، وتحوّلها إلى فضاءات افتراضية نفسية وذهنية، تمارس من خلالها تنمية أدوات مقاومتها الفردية. وتُصبحُ الذاكرة الجماعية والبناءات النفسية المُترجمة لها هنا وقودا يؤجج تلك التمثلات، فتغدو محكومة بالحذر (عقلانية الجماعة) من السُلطة والنُخب تستعيد كل مرّة وقائع وحيثيات المآسي والندوب المؤسسة (في المُعاصر) لبِنْيات “الحذر” الذي يجد جذوره في جرائم القرن التاسع عشر.
كُلفة البناء وثِقْلُ الذاكرة
توثّق لنا صفحات التاريخ، تمثيلا لا حصرا، ما رسَخَ في “أبنية القاع” من فظاعات الدولة المركزية وعنف أذرعها من الأدوات المخزنية تجاه سكان المملكة في الفترة التالية لثورة علي بن غذاهم (1864)، حيث أطلق الوزير مصطفى خزندار أيدي عمّاله/ قيّاده لنهب السكان وعسفهم. تقول المصادر ودفاتر الجباية إن الجنرال أحمد زروق الذي أرسله الوزير الأكبر عاملا/ قايدا على “وطن سوسة والمنستير” جمع بين أكتوبر 1864 وديسمبر 1869 ما يقارب الـــ43 مليون ريال نقدا من أهل الساحل وقراه، وأكثر من 14 مليون ريال من أهل المنستير وناحيتها (إضافة إلى الأنعام والمحصولات)، وقد استعمل الوُلاّة – الجُباةُ في ذلك أشد أساليب القهر والتنكيل والعقوبة الجماعية (انظر على سبيل المثال: حمادي الدالي، استبداد وفساد وعدالة انتقالية لم تتوج؛ وسلوى هويدي،أعوان الدولة في الإيالة التونسية).
وإذا عرفنا أنّ المصاريف السنوية للدولة حينئذ لم تكن لتتجاوز الـــ12 مليون ريال، علمنا نوع الجرائم التي كانت تُرتكبُ باسم الدولة المركزية وبالتالي حجم الشرخ الذي سيتّسع بين الحُكام والرعايا. طبعا نحن لم نتحدث عما قام به بقية العُمال في النواحي الأخرى للبلاد، ولكننا نعلم مثلا إن بصيص الثقة الذي أشعله خير الدين التونسي لما اعتلى سدّة الحكم عبر الإجراءات التي سنّها لتحقيق بعض العدالة وتمكين السكان من استرجاع بعض حقوقهم تُرْجِمَ بتقديم 595 نازلة (شكوى فردية وجماعية) ضد إبراهيم بن عباس عامل دريد وقبائل أخرى كثيرة في الشمال الغربي، وعلي بن الساسي عامل الجريد و15 شخصا من أعوانهم، وقد شهد في تلك النوازل ما لا يقل عن 2530 شاهدا. ولكن بصيص الأمل ذاك لم يدم طويلا، لأنّ المحاسبة لم تُفضِ إلى شيء، حيث نُقل زروق من الساحل إلى عمل الأعراض ثم دُعيَ إلى مهام أخرى، وكذا الأمر بالنسبة للعديد من أعوان المخزن، ليعود الحذر والشك الشعبي والرفض الباطني لما تَعرضُ السلطة الحاكمة. وتواصلت تلك القطيعة، وإن اتخذت أشكالا متعددة بعضها ناطق وأكثرها صامت عقودا عديدة، في حدث الاستقلال وكذا في ثورة 2011 (مع هيئة الحقيقة والكرامة).
ما لم نستوعب تلك التركيبة النفسية والذهنية المعقدة لعموم الشعب، أو “الناس البسطاء القادمين من تحت” (كما يسمّيهم آصف بايات) ونفككها، فإننا لن نتمكن من تحويل التونسيين إلى مواطنين، ولن نبني انخراطا طوعيا جماعيا في مشروع وطني تحرري عادل، ويصبح استغرابنا مما يُطلَقُ عليه اليوم في الأدبيات السياسية المحلية بالعزوف عن الاستحقاقات الانتخابية، أو عدم الاستجابة لمعارضة السلطة الحاكمة عبر ثورة الشارع، من قبيل ما تلجأ إليه النعامة بدفن رأسها في الرمال.
فالجُباةُ هم أنفسهم، وإن أضفت عليهم الحداثة الغربية أشكالا جديدة برّاقة.
وأعوان المركز (المخزن) المدافعون الشرسون عنه هم أنفسهم وإن انخرطوا في أشكال جديدة من التنظم والظهور.
وممارسات العسف والابتزاز هي نفسها وإن وضعنا لها قوانين ودساتير ومؤسسات جديدة.
وبسطاء الناس الذين يعانون في كل مرة من تأخر العدالة الانتقالية ويدفعون الأثمان الباهظة من حياتهم ومعاشهم هم أنفسهم … لم يتغيروا.
فلماذا تريدهم اليوم أن يُسلّموا مرّة أخرى إلى “نُخبهم” حقّ ترجمة آمالهم، وإعلانهم عن إمكانية انخراطهم الطوعي، وما بالعهد من قِدم؟
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 14 فيفري 2023