الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: تحدث كثيرا قيس سعيد منذ بداية حملته “التفسيرية” عن مشروعه لإعادة تغيير ملامح عيش التونسيين، بل ووصل به الامر الى حد طرح حلول كونية لمشاكل الانسانية، وفقا لتصوره، وذلك لدى حضوره في بعض اللقاءات الدولية بدعم خاص من “مفكر” الحملة، رضا لينين، وانخراط مذهبي الطابع، لاتباع سموا أنفسهم “نواة المشروع”.
مر سعيد بعد 25 جويلية تدريجيا لتجسيم تصوراته سيما في المادة الاقتصادية ووقّع مؤخرا ثلاثة مراسيم غريبة الى حد بعيد في احكامها وصياغتها مقارنة بسائر القوانين النافذة وتعلقت بالصلح الجزائي والشركات الأهلية ومقاومة المضاربة غير المشروعة. وللوهلة الاولى اثارت تسميات المراسيم الاستغراب لاستخدام مصطلح “الاهلية” مثلا وهو مصطلح رسخه الاستعمار زمن الحماية للدلالة على سكان تونس الاصليين Les indigènes، كما اثار اضافة مصطلح “غير المشروعة” بدوره الانتباه للفظة “المضاربة” باعتبار انه لا توجد مضاربة مشروعة بما في ذلك المضاربة في الأسواق المالية،لان كل مضاربة هي قانونا وعرفا غير مشروعة لارتباطها منهجيا وبشكل مباشربالتحيل والاحتكار بمختلف اصنافه.
وبالتدقيق في بنود المراسيم التي اتسمت بضبابيتها وبإنجازها بشكل احادي ودون تشاور خصوصا مع الخبراء المحاسبين وهم المعنيون الاساسيون بإجراء الاختبارات العدلية في إطار تنفيذها، يتضح بجلاء انه جرى اصدار هذه المراسيم في صيغة تجعل منذ البداية تطبيقها صعبا للغاية ان لم يكن مستحيلا وبالتأكيد دون جدوى لتكون مراسيم ولدت ميتة.
ومن الغريب ان المراسيم لا تعتمد كلها على ما يوجد من قوانين سابقة في حين أن حيثيات كل القوانين والمراسيم بكل بلدان العالم تذكر بالضرورة في توطئتها بمرجعيات النصوص القانونية السابقة والسارية. كما ان التعقيد الشديد الذي صبغ نصوصها ولبسها يفتحان باب التجاوزات والتقديرات الخاطئة على مصراعيه. ورغم ذلك، فان هذه المراسيم تصبح قوانين دولة رغم شرعيتها المنقوصة وفاعليتها المنعدمة بحكم انها نتاج فعل منفرد تم في سياق صياغتها- مثلما يفعل دائما حكام تونس – توظيف أجهزة الدولة وحكومتها دون أدنى نقاش أو أي نوع من أنواع التشاركية اللازمة مع الاطراف الفاعلة والمعنية بها.
في جانب اخر، يعتبر سلم العقوبات الوارد في مرسوم المضاربة غير مناسب اطلاقا للأفعال التي يؤاخذ عليها مقترفها اذ انه “يُعاقَب بالسّجن عشر سنوات من روّج عمداً أخباراً أو معلومات كاذبة أو غير صحيحة لدفع المستهلك للعزوف عن الشراء أو قصد إحداث اضطراب في تزويد السوق والترفيع في الأسعار بطـريقة مباغتة وغير مبرّرة” و”يكون العقاب بالسجن عشرين سنة وبخطية مالية قدرها مائتي ألف دينار إذا كانت المضاربة غير المشروعة تتعلق بمواد مدعّمة من ميزانية الدولة أو بالأدوية وبسائر المواد الصيدلية”، كما يكون “العقاب بالسجـن ثلاثين سنة وبخطية مالية قدرها خمسمئة ألف دينار إذا ارتكبت الجرائم خلال الحالات الاستثنائية أو ظهور أزمة صحية طارئة أو تفشي وباء أو وقوع كارثة، ويعاقب بالسجن بقية العمر وبخطية مالية قدرها خمسمئة ألف دينار إذا ارتكبت الجرائم المذكورة عند مسك المنتجات بنية تهريبها خارج أرض الوطن”. وتعتبر هذه العقوبات ضربا من ضروب الاجحاف التشريعي المطلق والذي لا مثيل له في القانون خصوصا إذا تعلق الامر بالقوانين الرادعة لارتكاب المخالفات والجنح ذات الطابع الاقتصادي والمالي.
اما بخصوص مرسومي “الشركات الاهلية” و”الصلح الجزائي”،فهما نموذج صارخ لـ “التراتيب” التي تتسم بامتياز بالبعد عن الواقع وغير القابلة للتحقيق بحكم انها لا تعتبر اولوية ولا تحل في الظرف الراهن مشاكل التمويل شبه المستحيل علما انه لو تم التسليم جدلا بإمكانية نجاح خطة “الصلح الجزائي” وتأسيس “الشركات الاهلية”، فان ذلك لن يمكن سوى من تعبئة 200 او 300 مليون دينار وعلى سنوات بما لا يكفي حتى لصيانة بعض حافلات شركات النقل الجهوية.
سعيد ونظرياته الخارجة عن معايير الاقتصاد
تعكس المراسيم الرئاسية “الاقتصادية” الثلاثة لرئيس الجمهورية نظرة خاصة لإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية عبر سن القوانين. ولكن هذه النظرة غير صائبة اذ ان البحث عن حلول للمشاكل الاقتصادية يجب ان يتم -من ناحية معيارية -في إطار المنظومة الاقتصادية باعتبار ان ديناميكيتها تسبق باستمرار الجانب القانوني وتتجاوزه.
ولم يراع قيس سعيد لدى توقيعه المراسيم الثلاثة على نفس الطاولة التي وقعت عليها معاهدتا الحماية والاستقلال لإكساء الامر طابعا تاريخيا مفقودا، ان الاقتصاد التونسي يتخبط في الإفلاس ويحتاج الى حلول راهنة يصوغها العارفون بخباياه بعيدا عن الهواية والتقلب في أهداف مشوهة بلا رؤية ولا إرادة ولا إدارة في سياق لا تملك معه السلط القائمة من غايات الا الارتماء مجددا في أحضان صندوق النقد الدولي لعلها تظفر بقرض باهظ الكلفة ومشروط لا يكفي لسد الحاجات المالية المتعاظمة وتتنازل من خلاله تونس مرة أخرى عن استقلالية قرارها في تحديد خياراتها الاقتصادية وتستجدي به المؤسسات الدولية لإغاثة ما تبقى من المالية العمومية.
نسي قيس سعيد كذلك ان الحصيلة السلبية للاقتصاد التونسي ما هي إلا نتيجة متوقعة لسياسات اقتصادية هشة تفتقد منذ عقود طوال لخطط تنموية مضبوطة ولرؤى استراتيجية واضحة المعالم وهو ما يتكرر اليوم مع منظومة 25 جويلية بشكل صارخ ومستفز. لقد انخرطت تونس منذ سنوات في منظومة العولمة واقتصاد السوق دون أية امكانات بما مثل تخليا عن استراتيجيات التنمية لعقدي الستينات والسبعينات والمرتكزة على استرداد السيادة الاقتصادية بالاعتماد في مرحلة أولى على القطاع العمومي كمحرك أساسي للتنمية المستندة لبعث أقطاب صناعية كبرى موزعة على الجهات مع السعي في مرحلة ثانية لتشجيع القطاع الخاص على الانخراط في العملية التنموية. وكل ذلك بهدف التوصل لبناء اقتصاد وطني إنتاجي قائم على النهوض بالصناعة والفلاحة والخدمات.
وبعد الثورة التي جاءت اثر إنهاك نظام بن علي بالكامل الاقتصاد والمجتمع، توطدت سياسات الهواية والفشل والفساد لتتعكر اوضاع البلاد الى اقصى الحدود بوجود هذا المزيج المتفجر الذي ما زال ينخر البلاد الى اليوم، بل انه تعمق وذلك بالتزامن مع الركض للاستجابة لإملاءات دوائر المال في العالم الرامية الى إخضاع تونس مجددا للبرامج المالية والقروض المشروطة من خلال ارساء تدابير تقشفية للضغط على مصاريف التنمية وتوجيه الاستثمارات والتدخل في الخيارات الاقتصادية التونسية.
ورغم كل ذلك يسارع الرئيس قيس سعيّد الخطى ويستعجل الزمن لاختصار المراحل لتكريس مشروعه السياسي مع فشل الاستشارة التي أطلقها وقبيل اشهر معدودة من الاستفتاء والانتخابات التي أعلن عن إجرائهما.
ولكن الوقت يداهم مشروع سعيّد المتعثر، مع الضغوطات الداخلية والخارجية، وتتكاثر على حكومته المطالب الاقتصادية والاجتماعية الحارقة التي لا تنتظر، بينما خزائن الدولة فارغة، والمانحون يرفضون مد يد المساعدة إلى حين الاستجابة لمطالبهم وهي سياسية بامتياز، في وقت يتحدّى الرئيس سعيّد الجميع، ويطلب عدم التدخل في طريقة تسييره شؤون الحكم، ولا يولي التقارير المالية الدولية والتصنيفات الاقتصادية أي اهتمام، بل انه سخر منها بكل وضوح.
ولكن سعيد يدرك بالتأكيد أنه سيكون قريباً جداً في مواجهة حقيقة اقتصادية مرة، وسيصطدم بأفواه مفتوحة ملت الوعود والسياسة والخطب الرنانة، ولذلك فهو لا يملك فعليا سوى مناورات اصدار المراسيم بالتوازي مع مفاوضة صندوق النقد الدولي وتقديم كل التنازلات الممكنة، بعد ان رفض اصدقاء الامس أي تمويل لنظامه.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 مارس 2022