الشارع المغاربي: *- في كل الأنظمة الديمقراطية – الحقيقية او الافتراضية، – توجد وراء كل الانتخابات التشريعية – وكذلك، الانتخابات الرئاسية – نوايا سياسية، ظاهرة كانت او مُبيّتة؛ وهذا ينسحب على القوانين الانتخابية الجديدة وعلى القوانين «التنقيحية»، على حد سواء –؛ وكما سنثبت ذلك في ما يلي، فان العملية التنقيحية للنظام الانتخابي التي بادر بسنها المشرع الحالي لا تُستثنى من هذه القاعدة.
اذا اردنا التبسيط في هذا المجال، لنقل ان انتداب النواب في المجالس التشريعية يتم إما عن طريق “قائمات” تُوزع معها المقاعد على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا، عند الحاجة، أو عن طريق الانتخاب بالاغلبية في نطاق دوائر ترابية ذات مقعد واحد وفي جولة واحدة او في جولتين، عند الاقتضاء.
– I – التجارب الفاشلة
1 – ولنُبيّن ان التشريع التونسي اعتمد في الانتخابات التشريعية لسنة 2014، نظام “التصويت على القائمات في دورة واحدة يتم فيه توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الاخذ بأكبر البقايا” (القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي 2014).- الا ان هذه التجربة آلت الى نتائج وخيمة ترجع بالأساس، من جهة أولى، الى سوء تقدير واضعي النظام الانتخابي آنذاك للواقع السياسي في البلاد وللاتجاهات الفكرية والميولات العقائدية لعموم الناس في تلك الفترة الحساسة في تاريخ البلاد، ومن جهة ثانية وبالخصوص، ترجع هذه النتائج المذهلة الى مناورات الأحزاب القوية التي هيمنت بصورة ممنهجة على الانتخابات التشريعية وأحرزت على الأغلبية في المجلس الدستوري ثم في المجلس التشريعي وحققت بفضل ذلك “التمكن” من الحكم والسيطرة على جميع مفاصل الدولة ومن نشر الفساد بجميع اصنافه في البلاد طيلة ما سمي عن جدارة “العشرية السوداء” التي آلت في النهاية الى انقلاب سياسي على أساس الفصل 80 من دستور 2014 في الظروف التي يعلمها الجميع.
2 – مقابل هذه التجربة الفاشلة، أصبح من الضروري اللجوء الى النظام الانتخابي المنافس والبديل الوحيد له، أي نظام “التصويت على الافراد في دورة واحدة او دورتين عند الاقتضاء، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد”، (الفصل 107 جديد من القانون الانتخابي 55/2022) – وفي رأينا، هذا النظام الانتخابي هو نظريا النظام الأفضل والاقرب من مبدإ «الديمقراطية». – وللتاريخ، لنذكّر بانّا كنا وبمعية الزميلين الفاضلين من كلية العلوم القانونية بتونس، هيكل بن محفوظ وقيس سعيّد، قد اقترحنا هذا النظام الانتخابي بالذات، ونشرنا النص المقترح منه في صحيفة “الصباح” في جوان 2011 –ولقد اعدنا الكرة بالدفاع عن هذا النظام الانتخابي بمعية زميلين فاضلين، هما العميد حسين ديماسي والأستاذ أمين محفوظ، وذلك بمناسبة مشاركتنا في مؤتمر نظمته مجموعة «صمود» في 2021، ادخلنا على النص الأول اضافات تحسينية أهمها اقتراحنا لتحقيق مبدإ «المساواة» بين الرجل والمرأة في الانتخابات يتمثل في فكرة فرض «ازدواجية الترشحات» – أي ترشح “رجل وامرأة” في قائمة واحدة – وكذلك فكرة التقليص في عدد المقاعد بمجلس النواب من 217 الى 160 فقط. – وهذا هو، في النهاية، النظام الانتخابي الذي اعتمد حرفيا في المرسوم 55/2022 الذي سيقع العمل به في الانتخابات التشريعية بتاريخ 17 ديسمبر الحالي.
3 – قبل ان نمضي قدما في تحليلنا، علينا ان نذكّر بمبدإ أساسي يغيب عن الاذهان في الكثير من الأحيان، مفاده ان الأنظمة والقواعد القانونية – مثلها مثل الادوية التي يوصي بها الأطباء – لا تكون مفيدة او صالحة الا في حالة التحقق من تلاؤمها مع الظروف المجتمعية بمختلف ابعادها، وان عدم احترام هذا المبدأ الأساسي “قد ينقلب الى ضده”، كما ذكّر بذلك ابن رشد في عالم التطبيب…
على اساس هذه المعطيات، لنقم بالنظر النقدي وبالتقييم الموضوعي لتطبيق النظامين الانتخابيين المذكورين في بلادنا، مع الملاحظة انّنا قد حكمنا في الفقرات السابقة على النتائج المأساوية التي أدى اليها التطبيق المغلوط لنظام “التصويت على القائمات” في 2014، وهو الذي لم يكن في الحقيقة الا «حكم الجور والفساد» أدّى بالبلاد الى الهاوية، فلم يبق الا للقضاء وللتاريخ الحسم في أمر أصحاب هذه المغالطة الشنعاء.
لننظر الآن في التطبيق المنتظر لنظام التصويت الجديد الوارد في الفصل 107 جديد للمرسوم عدد 55/2022. –هنا لنقلها بكل صراحة وبشديد الأسف: إنّ لنا، كالكثير من الملاحظين مآخذ عديدة وخطيرة ليس على هذا النظام الانتخابي من عدمه وإنما على كيفية تطبيقه في الواقع المنتظر. فنحن نرى أنه :
–1 – ليس من قيم «الديمقراطية» وضع شيء شاذ كالذي ورد في الفصل 109 جديد الذي يقضي بأن يعلن عن نجاح مترشح دون اقتراع بتعلة انه المترشح الوحيد.
– 2– ليس من قيم «الديمقراطية» ان يٌفرض على المترشح “ان يكون مسجلا في الدائرة الانتخابية التي ترشح فيها وان ٌيمنع من الترشح في اكثر من دائرة انتخابية” (الفصل 19 مكرر جديد).
– 3– ليس من قيم «الديمقراطية» وضع «شبه المستحيلات» شرطا مسترابا لقبول الترشحات الوارد في الفصل 21 جديد (400 امضاء في الدائرة المعنية وحتى في دوائر موزعة على القارات الخمس…).
– 4– ليس من قيم «الديمقراطية» خلق هذا المبدإ الغريب المسمى بـ “الوكالة” (الفصل 39 جديد) وهي التي تجعل المترشحين رهائن لنزوات الناخبين بل وتجعل من التعويض في حال اعفاء النائب المنتخب مناسبة سانحة لكل المناورات والمساومات (الفصل 39 الفقرة 5/6). وإن هذا الوضع المرتبك للمترشح-النائب يجعله لا يتلاءم مع احد المبادئ الديمقراطية المعروفة في كل البلدان والذي يجعل من هذا النائب ممثلا عن الأمة بأكملها وليس ممثلا عن الدائرة التي انتخبته…
– 5– من باب المغالطة الإعلان شكلا عن مبدإ التساوي بين الرجل والمرأة في الانتخابات في حين انه من الواضح ان المشرّع القائم لم يُبد أي تشجيع على التطبيق الفعلي لهذا المبدإ.
– 6– من غير المقبول فرض شروط «تعجيزية» على الجالية التونسية في الخارج بخصوص التزكيات المطلوبة (400، على خمس قارات…) كما أنه من غير المقبول التقليص بجرّة قلم في عدد الممثلين عنهم بما يقارب النصف (من 18 نائبا الى 10 فقط) – فلا غرابة والحال كما هي، ان يكون الاعتراض من طرفهم قويا وسلبيا.
– 7– من غير المناسب ونحن على أبواب جمهورية «جديدة» الا يكتفي المشرّع بذلك الشرط الهزيل المطالب بـمجرد “موجز للبرنامج الانتخابي” للمترشحين (الفصل 21 جديد) الوارد حرفيا في «الدستور الصغير» لحزب النهضة والمدرج حرفيا في دستور 2014. فقد كان اجدر بالمشرّع اشتراط برامج انتخابية مفصّلة وموثّقة لتمكين الرأي العام من التثبت في جدية تلك الترشحات ومن مصداقيتها الحقيقية.
– 8– من المؤسف جدا ان يحصر المشرّع كلامه في تمويل «الحملات الانتخابية» (الفصل 75 جديد) وان يضيّع بذلك الفرصة السانحة للتطرق الى ما هو أهم، أي مسألة «المال السياسي» الذي هو من أكبر المعضلات في العمل السياسي منذ العديد من السنين.
– 9 – من المؤسف جدا ان المشرّع لم يفتح باب النقاش حول «الأحزاب» وحول تموقعها ودورها في الحياة السياسية : من المعلوم أننا لم ننفك نفضح ونشنّع بالاحزاب الموجودة حاليا في المشهد السياسي ولا نزال. لكن هذا لا يمنع ان نقول ان الأحزاب في حد ذاتها هي مؤسسات ضرورية في العمل الديمقراطي وان لها دورا في بعث الأفكار السياسية وبلورتها وفي خلق النظريات الفكرية والسياسات الجديدة وفي بعث ديناميكية ضرورية لتشريك المواطن وتأطيره في العمل السياسي وفي اختيار القرار. لهذه الأسباب نقول إنه كان أجدر بالمشرّع ان يضع اطارا قانونيا لدفع العمل الحزبي ولتمكين المنظمات الحزبية من المشاركة في العملية الانتخابية تكون محدّدة المعالم بموجب القانون وواضعة لبعض الشروط كتبيين البرامج السياسية بصورة مدققة وجدية وكوضع حد ادنى للمشاركة في العملية الانتخابية ونبذ العنف والنزعات االمتطرفة…
-II- الأمل في الإصلاح
قبل النظر في إمكانية وضع البدائل للأنظمة الانتخابية، علينا ان نذكّر بالواقع العام للبلاد على خلفية المآسي التي عاشتها طيلة العشرية الفارطة والتي قد يكون مكتوبا عليها ان تتحمل في العشرية المقبلة ما هو أمرّ مما مضى من المآسي.
من الناحية الثقافية والسياسية العامة، تعيش البلاد في ازمة خانقة جراء تدهور النظام التربوي العمومي وانحدار المستوى العلمي والتعليمي والثقافي الى ادنى مستوى عرفته منذ الاستقلال، وزحفت التيارات الدينية والدعوية المتطرفة من كل صوب وحدب، وانتشر الفقر المدقع واختفى الامل في المستقبل عند الناس بكل فئاتهم وطبقاتهم، وانتشر الفساد بكل انواعه وفي كل المستويات، وانحلت السلطة السياسية وفقدت الرشد السياسي والحكمي، وانتشر اليأس في الطبقات الشبابية بما آل بها الى حلول مأساوية ونهائية.
من الناحية الاقتصادية انهارت عجلة الانتاج والتنموية وجفّت منابع الاستثمار والابداع ونضبت، ولاذ أصحابها ببلاد اكثر أمنا، وكسدت الأسواق داخلها وخارجها، وتراكمت الديون الداخلية والخارجية الى حد انخرام النسيج الاقتصادي والتوازنات المالية الكبرى للبلاد والى حد لجوء الدولة الى ما يشبه التسوّل والاستجداء، وانغلقت الأبواب في وجه العاملين وطالبي الشغل، وتكاثرت الإضرابات والاضطرابات الاجتماعية المطوّلة والشرعية منها او غير ذلك، واصبحت المنظمات الشغيلة لا تتردد في التطاول على السلطة العامة وابتزازها دون ان تبالي بالاضرار الجسيمة التي تحدثها للبلاد. وكل هذا خلق مناخا سياسيا واجتماعيا ومعنويا مأساويا خانقا ومفقدا للأمل والثقة في النفس وفي المستقبل والعمل والمبادرة، ناهيك ان اكثر من ثلثي التونسيين غير متفائلين بالمستقبل وغير راضين عن الوضع العام في البلاد وان اكثر من نصفهم يرغبون في الهجرة الى الخارج.
وبخصوص المسألة الانتخابية، فإنه لا غرابة أن تكون اغلبية التونسين يفضلون الاستنكاف والاحجام عن العملية الانتخابية وعن الاهتمام بها. وقد بلغت اليوم هذه النزعة الى العزوف درجة عالية للغاية ساندتها المواقف العدائية التي اتخذتها الأحزاب بمختلف توجهاتها مما قد ينبئ بفشل العملية الانتخابية المقبلة فشلا مدوٌيا.
يُستنتج من هذا العرض الموجز ان الجسم السياسي التونسي يئس من السياسة والسياسيين ومن الوعود الخلابة التي ما انفكوا يغرونهم بها حتى بلغ بهم اليأس فقدان الأغلبية الساحقة منهم الثقة في النظام السياسي والحكمي وبالتالي، يتحتم خلق مناخ سياسي جديد من شأنه ان يٌرجع هذه الثقة وهذا الأمل. وفي رأينا، لا مناص من البدء بالإصلاح الجذري للنظام الانتخابي بالذات باعتبار ان من شأن النظام الانتخابي السليم زرع الاحساس بأهمية الشأن السياسي وبضرورة المشاركة في احيائه وبعث الروح فيه. من هنا تتجلى ضرورة استنباط نظام انتخابي جديد ونظيف وعرضه على الملأ. لذلك سنقدم المعطيات والاقتراحات التالية:
*- انه ليس من قيم «الديمقراطية» ان تُصبغ أية مشروعية على المشاركات الانتخابية الضعيفة والهزيلة: مثال ذلك ثلث الناخبين، وأقل من ذلك بسبب استعمال شتى الوسائل غير القانونية.
*- انه ليس من قيم «الديمقراطية» سحب مبدإ المساواة بين الناس على الجاهل كما على العالم. فلقد قال عز جلاله : “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”؟ (سورة الزمر 39 – 9). إن هذه لمهزلة كبرى، فيجب لذلك مراجعة المنظومة السياسية والدستورية مراجعة جذرية وكذلك الأنظمة الانتخابية. الحقيقة هي ان «الديمقراطية» تركز على الكفاءة والحكمة والتجربة في الحياة وفي القدرة على معالجة المعضلات والمشاكل التي ليس للجاهل قدرة ولا جاه لمواجهتها ولحلها. لهذا ننادي بكل صدق وبكل تجرّد باعطاء الأولوية التامة لأهل الكفاءة والحكمة في معالجة الشؤون العامة وفي إصلاح أمور العباد، وأن يفرض في انتداب نواب الشعب شرط المستوى العالي جدا في العلم والحنكة في إدارة الشؤون العامة.
*- إن من شأن الكفاءة والحنكة المهنية للمترشحين للانتخابات التشريعية – وغيرها من الانتخابات – ان تقينا من الكلفة الباهظة وغير المجدية التي تُحمّل المال العام عبئا لا يطاق. لهذا، نقول إنه من الضروري ومن الصالح التقليص الجذري في عدد أعضاء المجالس المنتخبة، بدءا بالمجلس التشريعي: إننا نرى أنه من الصالح الاقتصار على عدد لا يتجاوز الـ 60 نائبا في مجلس النواب، وهذا العدد يتناسب وعدد الناخبين – 8 ملايين فقط – وهنا يجب اخذ النسبة الكبيرة للعزوف عن الانتخابات المذكورة سابقا بعين الاعتبار.
*- إنه من الأساسي نبذ ترشحات غير الحرفيين وابعاد الهواة والمتطفلين، سواء كانوا افرادا او جماعات. ولهذا نقترح اصلاحين هامين:
1 – فرض عتبة على الترشحات تحدد من 5 الى 7 % من الأصوات.
2 – يجب فرض التزام المترشحين للانتخابات، فرادي او جماعات، بتقديم برامج مفصّلة وموثقة وابتكارية، وليس «برامج موجزة» مثلما كان الحال في السابق. ومن شأن هذا الشرط ان يُدخل جديّة كبيرة على العمل السياسي ويحمّل المترشحين مسؤولية هامة. وفي هذا السياق لا نرى مانعا من انشاء هيكل مخصص مستقل ومحايد للنظر في هذه المبادرات والترشحات وفي تقييم جديتها وطرافتها.
*- إن اهم اصلاح نقترحه في باب النظام الانتخابي التشريعي يتمثل في استبعاد النظامين المذكورين سابقا أي التصويت النسبي على القائمات ونظام التصويت بالأغلبية على الافراد. إننا نعتبر ان هذين النظامين هما السبب الأساسي في فشل الديمقراطية ببلادنا وانهما سيأتيان بنفس النتائج الوخيمة السابقة. ونفس النتائج المضرّة بالبلاد ستكون من نصيب النظام الانتخابي الشاذ الذي فرضه المشرع الحالي.
*- لهذا نقترح هنا اعتماد النظام الانتخابي الجديد المسمى «النظام المتعدد الترشحات في دورة واحدة وفي جولة واحدة» الذي يتمثل في تعويض تعدد الدوائر الانتخابية الحالية بإنشاء دائرة وحيدة تنسحب على كامل التراب التونسي وتنظم فيها الانتخابات التشريعية في دورة واحدة وعلى أساس ترشحات فردية او جماعية – أي “حزبية” – تجرى في جولة واحدة وفي يوم واحد وتصدر فيها النتائج النهائية في نفس اليوم كما هو معمول به في العديد من الديمقراطيات المعاصرة.
وإننا نرى في هذا النظام الانتخابي الجديد منافع في غاية الأهمية منها: الابتعاد عن أسباب التفرقة والانقسامات الجهوية والعرقية والدينية والفئوية وغيرها في البلاد. وهو في المقابل نظام قادر على خلق اندماج مجتمعي وسياسي عميق لكامل الشعب التونسي، وهو المبدأ الذي بلادنا في اشد الحاجة اليه.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 6 ديسمبر 2022