غابت الدولة …وحضر المعهد العربي لرؤساء المؤسسات ليعلن أن «الخروج من الأزمة ممكن»
قسم الأخبار
1 يناير، 2021
2.8Kshares
الشارع المغاربي-جمال الدين العويديدي: يقول جوزيف ستيغليتز صاحب جائزة نوبل للاقتصاد عندما أصدر كتابه الشهير»خيبات العولمة» «Globalization and its Discontents» «أنه كان دائم الاهتمام بالتنمية الاقتصادية وأن ما شاهده منذ توليه سنة 1997 منصب النائب الأول لرئيس البنك الدولي ورئيس هيئة الاقتصاديين غيّر أفكاره بصورة جذرية حول العولمة. كما يذكر «أن تأليفه لكتابه هذا هو نتيجة معاينته، بصورة مباشرة من خلال منصبه، الأثر الماحق الذي يمكن أن تتركه العولمة في البلدان النامية وبالدرجة الأولى سكانها الفقراء. ثم يضيف «أن الألم الذي أصاب البلدان النامية في سيرورة العولمة على النحو الذي أدارها به صندوق النقد الدولي وسائر المؤسسات الاقتصادية الدولية كان أشد بكثير من المُتوقّع».
كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا تؤكد هذا التوقع المؤلم وأنها تعتبر ضحية من جملة ضحايا البلدان النامية. كما تبيّن أن تونس دخلت مرحلة تفكك لمفهوم الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهي في الحقيقة مرحلة تعتبر نتيجة حتمية لما خطط له دعاة العولمة منذ الثمانينات حتى تتمكن القوى الفاعلة من تحقيق أهدافها في البلدان المفعول بها.
«المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» مركز تفكير يعتبر لاعب أساسي في صياغة السياسة الاقتصادية.
هذا التوجه الذي انخرطت فيه السلطة التونسية منذ أواخر الثمانينات بدون أي تحفظ وبدون أي دراسة استشرافية فسح المجال لظهور جمعيات ذات طابع اقتصادي ليبرالي نذكر من أهمها «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» الذي تأسس في سنة 1984 بمبادرة من منصور معلى وزير المالية في تلك الحقبة والذي أسس أيضا في سنة 1976 بنك تونس العربي الدولي وهو بنك خاص. هذه الجمعية التي لا تملك صفة نقابية كانت منذ بدايتها عبارة عن نادي لرجال الاعمال وتحولت تدريجيا إلى «مركز تفكير» «Think tank « يروج للسياسة الليبرالية وهذا بالطبع من حقه. كما ربط علاقات تعاون مع العديد من الهيئات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.
وهو يعتبر من المناصرين لاتفاقيات الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي وللسياسة الليبرالية التي تنتهجها المؤسسات المالية الدولية في تونس. وهو بهذه الصفة يتحمل مسؤولية فكرية وعملية وترويجية لما يجري في تونس من تدهور اقتصادي واجتماعي لا محالة فيه. وذلك سواء كان في عهد النظام السابق حيث دأب على تنظيم ملتقى سنوي للمؤسسة في فضاء مرسى القنطاوي بسوسة يتم الترويج أثناءه للسياسة الاقتصادية التونسية التي انخرطت في العولمة بكل اندفاع أو في عهد ما بعد الثورة حيث تحرر المعهد من قيود النظام وأصبح يتحرك في إطار التوجهات الليبرالية المطلقة التي تسيطر عليها كلا من الاتحاد الأوروبي والمجموعات الكبرى المحلية المُتنفّذة في مفاصل الاقتصاد الوطني في جميع القطاعات تقريبا.
في هذا الوضع يمكن اعتبار المعهد العربي لرؤساء المؤسسات بصفته تلك في قلب المنظومة التي تسطر المسار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. وهو ما يفسر وجوده بصفة عضو رسمي في «اللجنة التوجيهية للاقتصاد التونسي «Comité de pilotage de l’économie tunisienne « التي تكونت رسميا في البنك المركزي التونسي سنة 2014 لصياغة البرنامج الاقتصادي 2016-2020 برئاسة محافظ البنك المركزي آنذاك والتي تشمل 16 عضو من بينهم السفير الفرنسي آنذاك والمدير العام للخزينة العمومية الفرنسية وممثل عن الاتحاد الأوروبي وعديد المراكز الفكرية الفرنسية ذات الطابع الاقتصادي بالإضافة إلى وزير الاقتصاد والمالية في حكومة مهدي جمعة.(الرابط:https://www.bct.gov.tn/bct/siteprod/actualites.jsp?id=74 ). هذه اللجنة بادرت اجتماعها الأول بمقر البنك المركزي وهو أمر مريب, لذلك انتقلت إلى مقر المعهد العربي لرؤساء المؤسسات نظرا لاحتجاجات التي صدرت من بعض الجهات المختصة الوطنية التي نددت بوجود اطراف أجنبية داخل هذه اللجنة. ومن المفارقات العجيبة أن هذا البرنامج الاقتصادي الذي تمت صياغته وتم التصويت عليه في مجلس نواب الشعب مرّ مرور الكرام ولم تتم متابعته وتقديم نتائجه إن كانت له نتائج. وهو أمر موكول للمعهد الذي كان شريكا فاعلا في صياغته وتمريره؟
تغييب للدولة شبه كامل في الشأن الاقتصادي…وتدخل للمعهد لملئ الفراغ.
من هذا المنطلق كنا ننتظر إمكانية تغيير في محتوى المقترحات التي ستصدر من المبادرة التي أطلقها «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات « منذ أسبوع تقريبا بعنوان «الخروج من الازمة ممكن !» والتي تم الترويج لها إعلاميا بكثافة و بسخاء بمشاركة أربع قنوات تلفزية خاصة بالإضافة للقناة الوطنية الأولى زيادة على خمس محطات إذاعية خاصة إضافة إلى الإذاعات الوطنية المركزية والجهوية والتي خصص لها فريقا متكاملا للتدريب والتلقين.
غير أنه بكل أسف المحتوى لم يخرج من المربع الذي حددته المؤسسات المالية الدولية والتي تتمحور حول «سياسة التقشف ومزيد الضغط على الأجور وشيطنة المؤسسات العمومية واتهامها بكل العيوب واعتبارها جزافا أنها أصبحت تمثل عبئا على الدولة والحال أن تقرير وزارة المالية الصادر في جوان 2020 يبين بوضوح أن مستحقات المؤسسات العمومية لدى الدولة كانت في حدود 6,2 مليار دينار مقابل ديون تابعة لها مُتخلّدة لصالح الدولة لا يتعدى 3,4 مليار دينار أي في حدود النصف تقريبا وهي حقائق يتم التعتيم عليها.
كما تم التطرق إلى التراجع الكبير في الاستثمار وتم تبريره «بفقدان الثقة وعدم الاستقرار السياسي» بطريقة سطحية تجنبت الخوض في اصل الأسباب التي تمكن وراء هذا التراجع الخطير الذي يعتبر اصل المعضلة في البلاد لأنه السبب المباشر في انعدام النمو الاقتصادي لانعدام الإنتاج وخلق القيمة المضافة وانعدام مواطن التشغيل لأكثر من جيل عاطل عن العمل.
من ذلك لم يتم التطرق لنسبة الفائدة المشطة بوصفها المعطل الأساسي للاستثمار وكذلك الشأن لانهيار قيمة الدينار. وهي أسباب يتحمل مسؤوليتها المباشرة البنك المركزي منذ عديد السنوات حيث وصلت نسبة الفائدة الرئيسية إلى ٪7,75 مقابل ٪1,5 في المغرب و ٪2 في الأردن وصفر بالمائة في بلدان الاتحاد الأوروبي. كما ان قيمة الدينار مقابل اليورو انهارت من 1,19 في سنة 2002 إلى 3,3 حاليا؟
كما أن الخبراء الذين دعاهم المعهد العربي لرؤساء المؤسسات لم يتطرقوا إلى تداعيات اتفاقيات الشراكة الملزمة وغير المتكافئة التي دمرت النسيج الصناعي الوطني. ناهيك عن العجز التجاري الذي يهدد الامن القومي الاقتصادي بتداعياته الكارثية وبدوره المباشر في تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج حسب تقرير للبنك الدولي في هذا الشأن. كلها مواضيع محورية ولكنها تعتبر من الممنوعات في هذه الحوارات التي أصبحت أقرب إلى حوارات الطرشان.
المطلوب فتح ملف الشراكة بين القطاع العمومي والقطاع الخاص في تونس وفي التحارب المقارنة
من غرائب هذا الحوار هو تنويه إحدى المنشطات في قناة خاصة على أنه يكرس الشراكة بين القطاع العمومي والقطاع الخاص عبر البث الجماعي. تلخيص هذه المسألة الهامة بهذا النحو لا يعبر عن وعي بخطورة هذا الموضوع الذي أصدرت فيه محاكم المحاسبات في كل من المغرب وفرنسا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا تقارير أدانت هذه الشراكات وأفضت إلى اعتراف بفشلها الذريع من ناحية قيمة التنفيذ المشطة وسوء الجودة وفتح المجال لتفشي الفساد في هذه التجارب الفاشلة. حيث ختمت المحكمة الفرنسية و كذلك المحكمة البريطانية بضرورة التخلي النهائي عن هذه التجارب. في تونس ما زال التسويق لهذه التجارب على قدم وساق رغم ما بدا يظهر جليا من شبهات فساد خطيرة وعديدة.
كان في الحقيقة من الاجدر ان يطرح من خلال هذا الحوار تقييم مشروع مطار النفيضة الذي أنجزته شركة «تاف» التركية في إطار شراكة تحت صفة لزمة إنجاز وتصرف و تحويل للمالك الأصلي (Built operate transfert) والذي تبين انه كارثة وطنية ماليا وتنفيذا واستغلالا وسوف تتبين في القريب العاجل فداحة هذا المشروع.
كان من المفروض أيضا التطرق إلى التجربة التي حصلت في المغرب الذي منح مجموعة «فيوليا» Veolia» الفرنسية بداية من سنة 1999 عقود لزمات لتوزيع الماء الصالح للشراب والكهرباء وكذلك النقل الحضري في عدة مدن مغربية كبرى من بينها الرباط وسلا وطنجة و تطوان والتي تبنت أنها تجربة فاشلة بكل المقاييس أفضت إلى الترفيع في فواتير الماء بطريقة مُشطّة علاوة على عدم الالتزام بتنفيذ الاستثمارات التي تعهدت بها الشركة الفرنسية مثلما جاء بتفاصيله في تقرير دائرة المحاسبات المغربية الصادر في أكتوبر 2014 والذي بين أن هذه الشركة تتحصل على تغطية من قبل السلط العليا في البلاد للتنصل من التزاماتها . كما أنها كانت تقوم بتهريب المرابيح التي تتحصل عليها في المغرب عبر تضخيم فواتير مساعدات فنية مزيفة تصدر عن الشركة الام في فرنسا مما اصبح يمثل نزيف لتهريب العملة الأجنبية في البلاد. كل هذه التجاوزات أدت إلى تصعيد لتظاهرات شعبية غاضبة عمت مدينة طنجة بالخصوص.
شركة «فيوليا» الفرنسية دخلت السوق التونسية من خلال لزمة على مستوى محطة التطهير بالمنستير وهي أكبر محطة تطهير في تونس والتي دأب على صيانتها بكل اقتدار الديوان القومي للتطهير. وهي تترصد أيضا اليوم التصويت على مشروع مجلة المياه الذي سيعرض قريبا أما مجلس النواب للتصويت عليه والذي ينص على ضرورة خصخصة خدمات توزيع المياه والتطهير وغيرها. هكذا تتسرب القوانين الخطيرة على مرافقنا العمومية الحياتية الاستراتيجية بعدما دُمّرت نرافق التعليم والصحة العمومية.
خيبة أمل جديدة من طرف المعهد العربي لرؤساء المؤسسات الذي اختار التستر على الحقائق التي تنخر الاقتصاد الوطني وعدم التطرق للصعوبات الحقيقية التي تعترض المؤسسات العمومية والخاصة حيث لم تلتزم الدولة بكل ما تعهدت به منذ انطلاق جائحة كورونا خاصة على مستوى صغار المهنيين والفلاحين والصناعات التقليدية والمؤسسات الصغرى والمتوسطة لدفع الإنتاج وخلق مواطن الشغل. علاوة على ضرورة ترشيد التوريد وإلغاء قانون البنك المركزي ومراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
يبدو جليا أن الممنوعات تبيح المحظورات للدفاع عن مصالح الأقليات.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020