الشارع المغاربي – في صفع الدولة والأخلاق / بقلم: نادر الحمامي

في صفع الدولة والأخلاق / بقلم: نادر الحمامي

قسم الأخبار

9 يوليو، 2021

الشارع المغاربي: إنّ أمر الصفع في الوعي والمتخيّل الجمعيّين لدينا لعجيب. فلئن كان كلّ شكل من أشكال العنف، ماديّا كان أو رمزيّا، يُعتبر في المنظور الحديث المؤمن بحقوق الإنسان في كلّيتها ضربًا من التعدّي على الذات البشريّة وحُرمتها ممّا يستتبع بالضرورة عقابًا مَا، فإنّ الأمر يختلف عن ذلك بصورة تكاد تكون جذريّة في الذهنيّة القديمة الّتي مازالت مجتمعاتنا بصورة عامّة واقعة تحت تأثيرها وتحدّد رؤيتها للعالم والأشياء والعلاقات.

إنّ ما أشرنا إليه من مسألة تلك البنية الذهنيّة القديمة والوعي الجمعي نجد صداه بشكل واضح في صنف من المؤلّفات القديمة الّتي نقدّر أنّها الأكثر تعبيرا عن ذلك الوعي وتمثّلاته، ونقصد ما يسمّى بكتب تعبير الرؤيا والأحلام الّتي برزت من بينها مصنّفات من قبيل ما يُنسب إلى ابن سيرين وما وصلنا عن النابلسي بعده بقرون، وهما أشهر من صنّف في هذا الباب. سيجد الناظر “الحديث” في هذين الكتابين روايات وتأويلات تتعارض كليّة مع التصوّرات الحديثة للعنف وللصفع على وجه التدقيق. إذ ما يرتبط بالصفع هناك يحمل معانيَ إيجابيّة إلى أبعد حدّ، ويرتبط بالبشارات بالخير والفرح والفرج.

إنّ الضرب عموما في الذهنيّة القديمة يحمل شحنة إيجابية ولا علاقة لها بالعنف بالمفهوم الحديث، ودوننا معاني الضرب في القواميس القديمة، فالضرب فيها إذا تعلّق باليد دلّ على الجود والكرم، وكان دالاّ على الرزق حين يتعلّق بالطير، ومنه الضرب في الأرض بمعنى التجارة والربح والغزو أيضا. ويرتبط الضرب أيضا بالخصوبة والإنجاب إذا اقترن بالناقة الضارب الباحثة عن الفحل للتزاوج. أمّا الضريب والمضروب فهو “المطر الخفيف، والعسل الأبيض”. ويرتبط الأمر بالقداح وما يشير إلى من علم بالغيب، والضارب هو المكان الّذي يُطمأنّ إليه وبه شجر، ويستعمل الفعل ضرَب للدلالة على إصابة المجد. هذه بعض المعاني ونكتفي بها للدلالة على الفرق الشاسع بين تمثّل ذهنيّتين متقابلتين تماما في ما يتعلّق بالضرب، الّذي يغدو في بعض التصوّرات أيضا تحقيقا لواجب شرعي مأمور به في الآية الشهيرة المتضمّنة لكلمة “فاضربوهنّ”، فالضرب في هذا التصوّر لا علاقته له بالتعدّي على المرأة، ولا بحقوقها، ولا بما نسمّيه العنف الزوجي بل هو امتثال لأمر إلهي يُثاب عليه، ولا حاجة لنا بالعودة إلى تأويلات بعيدة ومتعسّفة لا علاقة لها بالسياقات التاريخيّة، وهدفها الأساسيّ الدفاع عن النصّ وتبرئته أكثر ممّا يسمّى “قراءة حداثيّة للنصّ” ونشير هنا إلى ما ذهب إليه محمّد الطالبي منذ زمن بعيد.

والضرب والصفع تحديدا في التمثّل العام مرتبط في المتخيّل الجمعي بقوّة الحجّة وهو ما تعبّر عنه اللغة في كثير من المواضع إذ تستعمل أفعال من قبيل أفحم أو أبكت وألزم وغيرها للدلالة على الغلبة في المناظرات التي لا علاقة لها بمفاهيم الحوار أو النقاش بالمعنى الحديث. بل إنّ الحجّة القويّة في لغتنا توصف بأنّها “دامغة” وتعني في أصل اللغة الضربة المسبّبة لجرح عميق يصل إلى الدماغ. ويمكن أن نستحضر أيضا عبارة مستعملة للحجاج في لغتنا فنقول “مقارعة الحجّة بالحجّة” فيصبح الأمر أشبه بحرب ونزال في معركة وهو ما تحيل إليه عبارة “المقارعة” بوقعها الصوتي الدالّ على الصوت العنيف المرتفع، وما تحيل إليه من القارعة وأهوالها. بل إنّ الأمثال عندنا وفي الاستعمال اللغوي لا تقدّم أو تعطى أو تُسرد بل هي تُضرب أيضا، وإذا كان من وظيفة ضرب الأمثال تحقيق عبرة ما، فإنّ العبرة عندنا والاعتبار لا يكونان إلاّ بشكل من أشكال الضرب الاستعاريّ.

وذلك المتخيّل الجمعي نفسه يستبطن عبارة شهيرة جدّا وكثيرة الاستعمال إلى اليوم حين تقدّم حجّة ما تظهر لصاحبها “دامغة” لا يمكن ردّها وهي عبارة “رُدّها عليّ إن استطعت”، تلك العبارة الّتي طبعت إلى اليوم منذ أربعة عقود المتخيّل الجمعي حول صفع حمزة بن عبد المطّلب أبي جهل في فيلم “الرسالة” لمصطفى العقّاد، بل إنّ الصفع والعبارة شكّلا أشكالا من الفخر والعواطف الجيّاشة والانفعالات الحماسيّة لتنتقل من متخيّل سيرة النبيّ مثلما رسّخها الفيلم إلى مجال من المفترض أن يكون مجال نقاش بالحجّة المنطقيّة، فاستبطن العقل أنّ غلبة الحجّة لا تكون في النهاية إلاّ بممارسة عنف ما، وهو عنف لا يُحكم عليه سلبيّا مطلقا في هذه التصوّرات بل يتحوّل إلى علامة من علامات الفروسيّة والشهامة والحقّ.

وهنا نأتي إلى أمر آخر جدير بالتنبيه. فقد استقرّ أيضا في المتصوّر الجمعي أنّ الرجل الشهم المتحلّي بأخلاق الفرسان لا يضرب امرأة وهذا يدخل في باب ما يسمّى أخلاق المروءة بالمعنى القديم لدى العرب عمومًا. ولكن وإن بدا ذلك ظاهريّا أو كما يتردّد نوعًا من “احترام المرأة” فإنّ الأمر في باطنه ليس إلاّ من باب استبطان قيم ذكوريّة صرف، فالمسألة لا تتعلّق باحترام المرأة بل بالإعلاء من شأن الذكر المترّفع عن ضرب من هو أدنى منه منزلة وقوّة، وما هو إلاّ قياس على فخر الفارس بنزال القويّ تضخيما لفوزه لاحقا مثلما نقرأ في شعر المفاخرة. وعلى ذلك فإنّ من يضرب امرأة هو لا يعتدي في التمثّل على تلك المرأة بل هو يعتدي على “معايير الذهنيّة الذكوريّة”. فالإهانة تعود على الرجل الضارب ولعلّ ذلك ما يفسّر على الحقيقة ما ينتشر شعبيّا من قولنا بالعاميّة التونسيّة: “الّي يضرب مرا موش راجل”، فهذه العبارة هي في الواقع استبطان ذكوريّ عميق.

إنّ هذا الاستبطان الذكوريّ المشار إليه في ما يتعلّق بالضرب بكلّ أشكاله وبالصفع تحديدا نجد له صدى كبيرا في مستويات عديدة من لغتنا اليوميّة راهنا، بل هو محتفى به من خلال تعديد أسمائه في اللهجة التونسيّة، وكلّ محتفى به تتعدّد أسماؤه، فالصفعة يشار إليها بكلمات كثيرة لها وقع ذكوريّ بدوره من قبيل “صرفاق”، و”داودي”، و”حلايبي” و”خفّ” و”كفّ”، إلخ… وغيرها من الكلمات الّتي رأينا الكثير منها خاصّة في صفحات التواصل الاجتماعي الموالية للجهة الّتي ينتمي إليها ذلك “النائب” الّذي صفع زميلته تحت قبّة البرلمان في نوع من التشفّي وحتّى الاحتفاليّة ووصفه بـ “راجل”.

هذا “الراجل”، وفي السياق الّذي نتحدّث فيه ومن المنطلقات الّتي قدّمناها سابقا يتلخّص سلوكه وبنيته الذهنيّة في جملة من النقاط الأساسيّة يمكن أن نختزلها في التالي:

– الضرب أو الصفع الّذي مارسه لا يمثّل بالنسبة إليه شكلا من أشكال العنف، بل إنّ الضرب عنده يحمل ربّما معنى إيجابيّا، وما يعتبر في الذهنيّة الحديثة عنفا هو عنده سبيل لتحقيق ما يعتبره “خيرًا” وهذا من دعائم من يحمل فكرا عنيفا قد يوصل حتّى إلى ممارسة إرهاب ما، باعتبار أنّ الإرهابي يؤمن في كثير من الأحيان بأن ممارسته الإرهابيّة هي الطريق المثلى لما يعتقد أنّه خير، فذهنه لا يرى في العالم إلاّ الخير المطلق الّذي يمثّله هو والشرّ المطلق الّذي يجسّده من يخالفه.

– تنتمي ذهنيّة هذا النائب إلى ما قبل فكرة الحقوق والقانون، وبالخصوص إلى أولئك الّذي يعيشون بيننا في الدولة التونسيّة ولكنّهم يؤمنون بشيء ينتمي إلى ما قبل الدولة. ونقدّر أنّ الأمر تتقاسمه جهات عديدة بات من الأكيد أنّها تعادي ظاهرا وباطنا الدولة التونسيّة بمفهومها الحديث ويريدون العودة إلى ما قبل الدولة وهذا ما ينبغي الوعي به اليوم وتوجيه الصراع الحقيقي نحوه.

– هذا النائب لم يرق حتّى إلى مستوى أخلاق المروءة الذكوريّة كما بيّنا سابقا بعدم احترام ذلك الصنف من الأخلاق القديم، في حين أنّنا نخال أحيانا أنّنا ندعو إلى أخلاق وقيم جديدة قوامها المواطنة وعلويّة القانون واحترام المؤسّسات، ممّا يجعل ذلك النائب لا خارج الدولة فحسب وإنّما خارج الأخلاق قديمها وحديثها، ومن كان كذلك كان متاحًا للبيع والتلوّن بلون كلّ سلطان بنفسجيّا كان أو أزرق.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 6 جوبلية 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING