الشارع المغاربي: قد يظن البعض من السياسيين والمواطنين ان فتح ملف الانتخابات اليوم هو سابق لأوانه باعتبار ان موسم الانتخابات يبعد عنا بما يقرب الثلاث سنوات وأن الشغل الشاغل للسياسيين وللمواطنين يتمثل في مواجهة جائحة ‘كورونا’ وفي معالجة الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة؛ إلا أن ما يتعين علينا هو لفت النظر الى ان مراجعة النظام الانتخابي الراهن ضرورية وأكيدة إذا اردنا الا نرتكب الأخطاء والهفوات التي وقعنا فيها في العشر سنوات الفارطة، خصوصا ان المشهد السياسي غير مستقر وان الحديث عن انتخابات سابقة لأوانها اصبح متواترا بقوة.
لقد اجمع التونسيون، وحتى أولئك الذين انتفعوا منه بصورة فضيحة، ان النظام الانتخابي الحالي تسبب في مضارّ جسيمة في حق المواطن البسيط وفي حق السياسي المحنك، وانه يتحتم ابطاله وتعويضه بنظام انتخابي أكثر مصداقية ونظافة وشفافية؛ صحيح ان التشريع ‘الثوري’ قد شرّع لهذه المادة بإصدار القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 مؤرخ في 20 ديسمبر 2012 والمنقح في 2013؛ لكن من الواجب ان نشير ان هذه ‘المجلة الانتخابية’ تحتوي على العديد من الثغرات ونقاط الضعف وانه يجب تداركها واصلاحها؛ وإن هذه الورقة لا تدّعي الإلمام بكل تلك المسائل المطروحة، وإنما هي ستقتصر على اهم التحويرات الضرورية التي سنُبوبها الى قسمين: المبادئ الأخلاقية (1) والمبادئ السياسية (2).
1 – المبادئ الأخلاقية: لا جدال ان تعاطي النشاط السياسي يتطلب احترام مبادئ أخلاقية سامية كشرط مسبق لكسب ثقة الناخبين ولدفعهم الى المشاركة في العملية الديمقراطية والانتخابية؛ أول هذه المبادئ هو عدم ارتكاب جرائم وجنح يعاقب عليها القانون؛ وهذا المبدأ البديهي يعني اصلاحين أساسيين ومتلاصقين: استظهار المترشح بشهادة نظافة السلوك من الجرائم والجنايات او ما يسمى ‘بطاقة عدد 3’، وبتصريح خطي ومسبق بعدم الاعتصام بالحصانة الجزائية الوارد بكل أسف في الدستور، حتى لا تكون الهيئات المنتخبة ملاذا منيعا للمجرمين كما هي الحال عليه الى يومنا هذا؛ والشرط الأخلاقي الثاني يتطلب من المترشحين التقديم المسبق لقائمة املاكهم وللإعلام عن حالات تضارب المصالح، حسب الشروط القانونية؛ ويطلب كذلك من المترشح التصريح بدفع الأداءات والضرائب القانونية؛ ويجب التحري المسبق من اكتمال هذه الشروط من طرف ‘الهيئة العليا للانتخابات’ او من ‘هيئة مكافحة الفساد’ او من الهيئات القضائية مثل ‘المحكمة الإدارية’ أو ‘محكمة المحاسبات’ او غيرهما من المؤسسات القضائية؛ مهمة هذه المؤسسات هي أن تقوم بالبحث والتقصي في كل ملف للترشح وبنشر قائمة المترشحين الرسمية الذين قبلت ترشحاتهم؛ والفائدة من هذه الإجراءات هي ان هذه التحريات يجب ان تقع بصورة مسبقة وصارمة، بخلاف ما وقع في الانتخابات الأخيرة.
2 – المبادئ السياسية: رغم ان التشريع التونسي يحتوي على قوانين مفصلة تُعنى بالعمليات الانتخابية، فإن هذا التشريع مثقل بالكثير من الأخطاء والثغرات تستوجب تنقيحات عديدة وجريئة نتعرض الى أهمها بعجالة في ما يلي:
2 – أ -: إن أهم تحوير يتعين التفكير فيه هو إعادة النظر في تحديد دائرات الانتخابات التشريعية: فحسب التشريع الحالي، يقع التصويت لانتخاب أعضاء مجلس النواب في إطار دائرات انتخابية للمعتمديات أو البلديات، أي دائرات صغيرة لحد ان النشاط السياسي فيها قد يكون في أغلب الاحيان ضعيفا ومتشتتا؛ إلا أن هذا النظام فيه عوائق ومخاطر يتعين تجنبها، منها ما افرزته التجربة الانتخابية الحديثة من صراعات ومواجهات بين مجموعات من الناخبين تكون فرصة لإثارة ‘النعرة’ الجهوية او المحلية التي إذا تأزمت تصبح خطرا على الوحدة الوطنية وعلى استقرار الدولة؛ 2- بـ : لهذه الأسباب، ندعو الى اعتماد النظام الاقتراعي الذي اقترحناه بمعية الزميلين حسين الديماسي وامين محفوظ في أوت 2018 والذي يتمثل في توسيع الدوائر الانتخابية التشريعية على أساس 170.000 ساكن تقريبا لكل دائرة، فيكون بذلك العدد الجُملي للدوائر بالتراب الوطني (140) وفي الدوائر المخصصة للمواطنين في الخارج (6)، وبذلك يكون عدد المقاعد في مجلس النواب 146، وهذه النسبة تقارب المعدلات الانتخابية المعمول بها في اغلب الديمقراطيات في العالم؛ 2 –ج: كذلك، يتعين على المشرع ان تحقيق تقدم جوهري في مجال المساواة بين الجنسين الوارد حرفيا في الدستور؛ ولقد تقدمنا بفكرة الإنجاز الفعلي لهذا المبدئ الفاصل، يتمثل في اعتماد فكرة التناصف بين الجنسين وعلى مبدئ تقديم الترشحات الى الانتخابات التشريعية تكون فيها القائمات مكونة من رجل وامرأة لكل قائمة انتخابية، حتى يقع بذلك التفعيل الحقيقي لما جاء به الدستور بدون أي صعوبة.
3 – لقد أدرك كل المواطنين ان مدة العهدة التشريعية والرئاسية الخماسية فيها الكثير من النقائص، أهمها تقلص الصلة بين الناخب والمنتخب أو حتى انقطاعها وكذلك اعتزال اغلب المواطنين السياسة لاعتقادهم أن لا فائدة في مثل هذه الأنشطة؛ وهذه المدة الطويلة من شأنها أيضا أن تدخل في نفسية النائب الإحساس بتغييب مبدئ المحاسبة والمسائلة من طرف الناخبين، وهذا يكون مدعاة لإضعاف المنظومة الديمقراطية وتشجيعا للمنتخب على الاستئناس بتلك الوظيفة والعمل على احترافها لأطول مدة ممكنة؛ إلا أن في ذلك خطر كبير يتمثل في تكوين طبقة سياسية انتفاعية واستغلالية تؤول الى اتشار الفساد السياسي والى تكوين نوع من المافيا السياسية الخطرة؛ لهذه الأسباب يتعين حصر مدة العهدة الرئاسية والانتخابية في ثلاث سنوات فقط، وحصر عدد العهدات في اثنين فقط تفصلهما مدة ثلاث سنوات؛ كذلك فإنه من الصالح التفكير في جعل الانتخابات الرئاسية والتشريعية غير متزامنة بمعنى ان يقع تنظيم الثانية بعد سنة ونصف من الأولى؛ وهذا الفصل من شانه ان يمكن الناخبين من تقييم أداء أعضاء المجلس التشريعي ومن وضع النخبة السياسية تحت المحك الإعلامي وتحت رقابة الناخبين.
4 – من بين أكبر مخاطر التشريع الانتخابي الحالي تساهل المشرع التونسي مع تصرف الأحزاب مع المال السياسي في مصادرها داخليا او خارجيا، وفي توجيهه وادارته في فترة الحملات الانتخابية وخارجها بشراء الذمم واستهواء الناخبين بشتى المغريات وحتى باللجوء الى مختلف طرق ‘الترغيب والترهيب’؛ وإن اول اصلاح يتحتم سنُه وتطبيقه هو اصدار قوانين زجرية صارمة وذات التطبيق الفوري واثقالُ المجرمين بعقوبات مالية كبيرة ورادعة، وبالخصوص، يجب وضع تشريعات عقابية يمكن ان ترقى الى الحرمان من المشاركة في الانتخابات أصلا او من مواصلة النشاط الانتخابي؛ وكل هذا يجب ان يقع تحت رقابة القضاء الفوري حكما وتطبيقا.
5 – إن من بين غرائب التشريع الانتخابي التونسي أنه لا يضع أي شروط تتعلق بالمستوى الثقافي المطلوب من المترشحين للانتخابات التشريعية او الرئاسية او للانتخابات المحلية؛ فإذا أراد مواطن أمي وجاهل الترشح لأي منصب اداري، فإنه سيلاقَى بالرفض بسبب انعدام شرط الكفاءة فيه؛ أما اذا تقدّم نفس الشخص الى الانتخابات التشريعية او الرئاسية او حتى الانتخابات المحلية، فإنه سيُقبل بالترحيب وبدون أي تردد..؛ إن هذا الأمر في اقصى درجات الغرابة واللامعقولية، وهو الذي يجعل من ‘الديموقراطية’ التونسية شبه مهزلة ومدعاة للانتقادات اللاذعة والمغرضة؛ لذا، وعملا بمبدئ نجد صدا له في الآية الكريمة ” … هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر،39 ،9)، فإنه يتعين التفكير بكل جدية في وضع شروط ثقافية دقيقة ومن مستوى عال تجعل عدم اكتمالها في أي مترشح سببا شرعيا كافيا لرفض ترشحه.
6 – إن من بين ‘روائع’ السياسة ‘الثورية’ ولَع التونسيين بالتكوين اللانهائي للأحزاب، وقد بلغ عددهم الى ما يفوق الـ 220 حزبا؛ إلا أن الطريف في ذلك هو أننا لم نلاحظ حضور العديد من هذه الأحزاب على المشهد السياسي ولا نعلم شيئا عن افكارها ونشاطاتها وبرامجها ولا بالأحرى عن مشاركاتها في الحملات الانتخابية؛ وهذا يدفع بالضرورة الملاحظ البسيط الى التساؤل عن الأسباب الحقيقية لهذه المبادرات؛ وبقطع النظر عن هذه المسألة، فإن ما يهمنا الآن هو ضمان الظروف الملائمة لتحقيق الجدية المطلوبة لإرساء ‘الدمقراطية التشاركية’ الصحيحة والحقُة في بلادنا؛ لهذا الهدف، نتقدم الآن بالاقتراحات التالية: أ – اشتراط عدد معين (مثلا: 10.000 بطاقة انخراط) من المنخرطين في الحزب الذي يعتزم القيام بأي نشاط سياسي أو ينوي المشاركة في الانتخابات وكذلك منع الأحزاب التي لم تكتمل فيها الشروط القانونية من تلك المشاركة؛ بـ – اسقاط الترشحات التي لم تتحصل على عتبة 5 في المائة من الأصوات واسقاط الأحزاب التي لم تتحصل على عدد معين (مثلا: 50.000 صوت) من المجموع الوطني للأصوات لفائدتها.
7 – لقد سجلت ‘الثورة’ مكسبا هاما يتمثل في نقل مسؤولية تنظيم الانتخابات من وزارة الداخلية الى ‘الهيئة العليا للانتخابات’ تقوم بكل استقلالية بتنظيم الانتخابات وبالسهر على سلامة العمليات الانتخابية؛ وإن كان هذا القرار انجازا إيجابيا، فإنه لم تأت بالنتائج المرتقبة، بل وأصبحت الشبهات تحوم حوله وتقلّص من مصداقياته بصورة جدية؛ وإن الأسباب في ذلك واضحة وترجع الى ثلاث عناصر هامة: الأول هو ان الهيئة لم تُمنَح الصلاحيات القوية والفورية التطبيق الملائمة لتمكينها بالقيام بمهامها على احسن وجه؛ والثاني هو ان الهيئة أبليت تركيبتها بداء ‘المحاصصة’، فألحقت استقلاليتها بضرر أعظم مما قد ينتج عن جائحة الكرونا، عفى الله الجميع…؛ والعنصر الثالث فهو أن ‘المحاصصة’ وتسييس الهيئة جراء ذلك تسببا في اندلاع خصومات وصراعات داخلية عميقة أخلّت بنجاعة اعمالها الى حد التشكيك في مصداقياتها؛ لهذا، فإنه يتعين على السلطة المعنية القيام بمراجعة التشريعات المتعلقة بهذه الهيئة، وذلك بالاعتماد على النتائج الموضوعية لهذه التجربة وعلى الدروس الواجب استخلاصها منها.
8 – إن مراقبة العمليات الانتخابية لا تنحصر في دور ‘الهيئة العليا للانتخابات’، فهناك مجال واسع لتدخل المؤسسات القضائية، وبالخصوص، المحكمة الإدارية وهيئة مراقبة المحاسبات؛ وإذ نحيي الدور الهام الذي قامت به هاتان المؤسستان في هذا المجال، فإنه من المؤسف ان لا يظهُر مفعول احكامها الا بفوات الأوان؛ وهنا، لسائل ان يتساءل: ‘ما الجدوى من قرار اداري او من حكم قضائي إذا لم يقع تطبيقه الفعلي الا بعد العديد من السنوات’؟ – لهذا، فإنه يتعين مراجعة التشريع في مراقبة المؤسسات القضائية المعنية بالعمليات الانتخابية بقصد ادخال أكثر نجاعة فيه وأكبر فورية في تطبيق احكامها، وكذلك، التفكير في ادراج مبدئ الرقابة الحينية كلما كان ذلك ممكنا.
بعد هذه النظرة الخاطفة للنظام الانتخابي في بلادنا وبعد لفت النظر الى البعض من عاهاته ونقاط الضعف فيه، فإنه لا جدال في ان التركيبة المؤسساتية والسياسية الحالية هي بصدد الاعتناء بمسائل وبأولويات ربما تعتبرها أكبر أهمية من التي طرحناها في هذه الورقة؛ لكن، فإنه من الضروري ان ننبّهها انه، إذا ما بقيت هذه التشريعات كما هي عليه اليوم، فإن المفاجأة قد تفرض نفسها يوما ما وبين عشية وضحاها، فتضطر تلك الجهات السياسية المسؤولة الى الارتجال والى اختزال الإشكاليات كما هي ‘عادة حليمة’، أي الاكتفاء بالحلول المنقوصة التي، كالعادة، ستخلق إشكاليات أعظم وأخطر من تلك التي هي تتخبط اليوم في حلها …
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ 2 فيفري 2021