ألشارع المغاربي: انطلاقا من قراءة سليمة للوضع الحالي بالبلاد، نفترض أن الانتخابات القادمة، سواء كانت سابقة لأوانها، أو في أوانها، ستفرض علينا بالضرورة استقطابا محددا إحدى تبعاته الأساسية تتمثل في نسب المشاركة المرتقبة والمصيرية لكل انتخابات. فالاستقطاب الضروري والمحمود هو ذاك الذي يوفر خيارا مقبولا ومتماسكا ومجزيا، وهو ما يؤثر ايجابيا، نظريا على الأقل، في نسب المشاركة ويحقق نتائج أفضل على مستوى الممارسة الديمقراطية المتعلقة بالانتخابات.
إلا أن المشهد السياسي الحالي يتميز بالتشظي والتذرر والتردد في الذهاب إلى الاستقطاب. ذلك أن موازين القوى لازالت متحركة في ظل وضع داخلي مأزوم وضبابي، يضاف إليه وضع إقليمي غامض ومتعثر، بالإضافة إلى هموم الجائحة وقسوة الانكماش الاقتصادي. في ظل هذا الوضع، تبدو المشاريع السياسية مبعثرة ومعطلة، وفي نفس الوقت تشتد المنافسة وتزداد المناورات بغاية التموقع الجيد في أفق الاستقطاب الذي لم يتشكل بالقدر الكافي والذي لا مناص منه. فالحديث عن التوافق أضحى من الماضي ونتائجه كانت هزيلة ومثيرة للجدل وفي الحصيلة لم نجن الاستقرار المنشود ولا الانتقال السلس ولا الظروف السياسية المناسبة للإصلاح الاقتصادي.
أسئلة عديدة يطرحها اليوم التونسيون وهم يقاومون صورة نمطية مستقرة منذ مدة عن عبث المشهد السياسي وكذلك عن تيه السياسيين وخواء خطابهم وضعف أدائهم. كيف لأعداء الأمس أن يلتقوا على هدف مشترك؟ وكيف لفصائل عديدة ومتناحرة في بعض الأحيان أن تجتمع على مهمة موحدة؟ كيف لنرجسيات مشبعة نخوة بسرديات النقاوة أوالجدارة أو الكفاءة المتصنعة والمنتفخة أن تتواضع للوطن؟ كيف لزعماء أو هكذا بدا لهم الأمر في مرآة النرجسية المستنفرة أن يترجلوا ويتقبلوا العزاء في أوهامهم وطموحاتهم ؟
نتيجة لهذا الوضع المعقد أنتجنا بضاعة فاسدة وأفنينا الوقت في الاختلاف. اختلفنا على “الثورة” واختلفنا على “الانتقال الديمقراطي”، واختلفنا على “منوال التنمية”، واختلفنا على “المصالحة”، واختلفنا على “الأولويات”، واختلفنا على “المحاور الأستراتيجية”، واختلفنا على السيادة الخارجية، واختلفنا على “الهوية”، واختلفنا على معنى “الكفاءة والفساد والاستقلالية” وغيرها من المصطلحات، ولا زلنا نواصل سلسلة اختلافاتنا بلا كلل ولا ملل. فهل قدرنا الاختلاف، وهل تصمد هذه المقولة أمام قراءة أخرى للأحداث وللتاريخ؟
عرفت البلاد حركات تاريخية عديدة غيرت بصورة عميقة وطويلة ومستدامة الوضع العام بها وأحدثت قطيعة مع أنماط وسلوك ومواقف وممارسات. نذكر منها “الحركة التنويرية” التي حاولت تجديد الفكر الديني ومؤسساته ومناهجه بغاية التأقلم مع العصر وتحقيق التقدم، و”الحركة الوطنية” في سياق الاستعمار المذل والرغبة الجامحة في التحرر وتكريس السيادة الوطنية، و”الحركة العمالية” في إطار التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ بداية القرن العشرين، والنضال المستميت من أجل الحقوق العمالية والاجتماعية، والحركة “النسوية” في سياق النضال من أجل المساواة والتحرر، وأخيرا وليس بآخر “الحركة الديمقراطية” بأجيالها العديدة وقاماتها العتيدة ومحطاتها المختلفة ونضالاتها البطولية من أجل الحرية والكرامة والحق في المشاركة وفي التأسيس لمجتمع العدل ودولة القانون واحترام حقوق الإنسان وصون كرامته.
تشكل هذه الحركات التي وقع ذكرها بإيجاز شديد إرثا تاريخيا ونضاليا وفكريا مشتركا يعتد به، وله امتداداته اليوم ويعبر عن الثقافة التونسية ويعكس ثراءها وإبداعها وحيويتها، وقدرتها على الفعل الحضاري. كان لهذه الحركات وما راكمته من منتجات تأثيرات عديدة في محيطنا الإقليمي والدولي وتشابكت هذه الحركات مع مثيلاتها في عديد بقاع العالم وتفاعلت معها بالقدر الذي جعلها فعلا منتج حضاري.
أفرزت هذه الحركات وعيا شعبيا واسعا ترجم في محطات تاريخية كثيرة وفي تغييرات مجتمعية جذرية وساهم في دفع تونس في اتجاه التاريخ الحضاري سواء من حيث مواءمة القيم الكونية النبيلة أو مزيد التحرر والأنعتاق وتكريس حقوق الإنسان وتحقيق المكتسبات التي ننعم بها اليوم.
ما يميز هذه الحركات التي شهدها تاريخنا الحديث هو البعد الفكري المتأصل فيها والمؤسس لتجذيرها في الواقع التونسي والموجه لها في خضم تفاعلاتها مع محيطها ومع العالم. أي أنها ليست مسقطة كما يدعي البعض ولا مستوردة ولا متصنعة، بل هي فعل فكري واجتماعي وسياسي متكامل ومترابط ومتواصل مع تاريخ البلاد وارتباطاته بالبعد الاقليمي والدولي وانفتاحه على الفعل الحضاري الإنساني المتاح. ولقد طبع عديد المفكرين بآرائهم وكتاباتهم ومواقفهم هذه الحركات، ما مكنها من الانتشار والتأثير والانغراس وتعبئة الناس حول رؤى وتصورات وسرديات ملهمة ومحفزة غيرت موازين القوى، وفتحت مسالك ودروب جديدة وغيرت الواقع نحو الأفضل وفتحت آفاقا جديدة ورفعت من القدرات ومن مكانة تونس.
التذكير بهذه الحركات مهم وملهم، لأنها لم تكن حركات طائفية أو مذهبية أو شمولية منغلقة (بالرغم من تواجد كل هذا في داخلها وفي دينامكيتها) بل كانت حركات فكرية عالية الهمة تفاعل داخلها وفي إطارها أجيال ونخب وشرائح مجتمعية عديدة. صحيح برزت داخلها انحرافات وصراعات، دموية في بعض الأحيان وحتى مفجعة، ولكنها لم ترتد بالبلاد إلى الوراء وبقيت تتقدم لتحقيق مزيد من التأثير في الواقع والاستفادة من الأخطاء وتصحيح الانحرافات ما أمكن ذلك.
وتعتبر الثورة التونسية التي حصلت في 2010 وما سبقها من إرهاصات وما صاحبها من مجالات نتيجة وامتدادا لهذه الحركات وما أفضت إليه من وعي جمعي متجذر للحاجة للحرية والمشاركة والكرامة. وهي فرصة تاريخية لتثبيت مكتسبات هذه الحركات التاريخية الثقافية التأسيسية لتونس ومناسبة لتثبيت دور تونس الحضاري وتمكين التونسيين والتونسيات من تحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم وانتظاراتهم المشروعة والعيش في كرامة وأمن ورخاء في ظل مؤسسات أفضل ومشهد سياسي أرقى وبيئة ثقافية مشبعة بقيم التحرر والعدالة.
العقل السليم يدعونا الى التحرك للكف عن العبث والاستهتار بالزمن الحاضر وبالتاريخ وبالوطن. فالبلاد مازالت اليوم بحاجة أكيدة إلى مشروع سياسي مستنير ومشرف وملهم. مشروع سياسي متجذر في ثقافة البلاد وتاريخها، ومستلهم حركاته الفكرية وأدوارها الحضارية، ناضج في أفكاره، قابل للحياة ودافع نحو الاستقرار، ومحمول من طرف نخب سياسية واجتماعية مسؤولة ومنفتحة، ومجهز للاستقطاب مع مشاريع سياسية طائفية تدور حول نفسها، تحرق ما حولها، أقل حظوة وبعيدة عن المسار الصحيح للتاريخ.
أعتقد أن العقل السياسي التونسي اليوم على المحك وهو ما يستدعي الجرأة والجدارة وبعد النظر في العائلة الديمقراطية بألوانها وتقسيماتها وتضاريسها. فإما أن تظهر مقدرة عالية على الإبداع والتأقلم والتحرك مع بروز قدوة شامخة ومؤثرة، وإما سيتراجع الوضع لحساب المشاريع الشعبوية الموتورة الناسفة للذكاء وستتدحرج ردود الفعل المنتظرة نتيجة المشهد المأزوم نحو الفوضى والتي ستقودها بالضرورة العصبيات والعصابات والحسابات الفئوية الضيقة. مازال أمامنا متسع من الوقت لنستمع لبعضنا ولنتأمل في المعادلة بكل تعقيداتها ولكي نستميت في الذود عن مكتسبات البلاد حتى وإن بدا الأمر للبعض أضغاث أحلام.