الشارع المغاربي-أيمن البوغانمي: في الوقت الذي تستعد فيه تونس كغيرها لطي صفحة سنة من الأحزان وعقد من الأزمات، فإنها تستقبل غدها كما يستقبل المجهول. ورغم أن الإحباط قد أصبح منذ مدة طويلة سيد المشاعر، فإن سلالته التونسية تبدو قد تطورت مؤخرا كما تتطور الفيروسات كي تصبح أسرع انتشارا أو أكثر ضراوة أو أمكر حيلة.
حلول أسوء من المشاكل
إذا كانت الفيروسات تتطور بعامل الصدفة ووفقا لمنطق الانتقاء الطبيعي حسب نظرية داروين، فإن الإحباط التونسي يتطور اليوم أيضا بفعل ما تقترحه السلطة من أدوية. هي أدوية تقدمها الحكومة في كل مرة على أنها ترياق شاف، فإذا هي سمّ زعاف.
حدث ذلك مع أزمة الكامور حين تبنت الحكومة ممثلة في شخص رئيسها سياسة الابتزاز الذي مورس عليها، وذلك في سابقة يندر نظيرها. ألم يقل حينها أنه يطمح إلى تحويل الحل الذي اتبعه لتجاوز أزمة الكمور إلى نموذج قابل للتعميم؟ لعله حين قالها كان يريد أن يخادع مرارة الخضوع إلى الابتزاز التي كان يشعر بها. أو لعله كان يحاول أيضا أن يخفي خضوعه للابتزاز عن الناظرين، بحيث يظهر في مظهر المحاور لا المتفاوض، وفي ثوب المبادر للحوار لا الخاضع للضغط. ولكن هيهات. فمن المعلوم أن أوراق العنب لا تصلح لإخفاء العورات. وإذا كانت تصلح لشيء، فإنها تصلح لجلب الانتباه لتلك العورات التي تزعم إخفاءها.
لقد استجابت التنسيقيات في كل مكان لإيحاءات رئيس الحكومة، ولسان حالها يقول: إذا كنت تطمح لتحويل الكمور إلى نموذج قابل للتعميم، فها نحن نمنحك الفرصة بتعميم ممارساتها، فنهيئ لك كمورا في كل مكان. ولعل بعضهم كانوا يتمتمون أيضا: سل رئيسك الذي عيّنك عن معنى عبارة «لجان في كل مكان».
لا يختلف الأمر كثيرا مع القضاء وأزمته المستمرة منذ أكثر من شهر. الفرق الأساسي أن الوحدة في هذه الحالة ليست جغرافية، بل قطاعية. تفاوض الحكومة، فيمعن وزير العدل فيها في التصريحات المستفزة التي أحيانا ما لامست الإهانة. تنقسم الهيئات الممثلة للقضاء. تزايد جمعية القضاة على نقابة القضاة، فتزايد النقابة بدورها على الجمعية. ثم تقتفي أثرهما نقابات كتبة المحاكم. تعلن جمعية القضاة اتفاقا مع الحكومة يوم 18 ديسمبر، فترفضه النقابة. ثم تعلن النقابة حلا تصفه بالتاريخي، فإذا بالجمعية تصمه بالمخاتلة. أما الحكومة، فقد اختارت التكتم عن محتوى الاتفاق، فلم يجد الرأي العام من سبيل لمعرفة ما تخفيه بنوده إلا اللجوء إلى إجراءات حق النفاذ للمعلومة.
بعد كل ذلك، هل عاد السير العادي لمرفق القضاء؟ كلاّ بطبيعة الحال. لا بد من انتظار حسم الصراع مع كتبة المحاكم الذين يقولون: وماذا عنا نحن؟
خطاب العرق والدم والدموع
مع تأزم الأوضاع اقتصاديا واجتماعيا، وسعي الكثيرين لتطوير الأزمة سياسيا، يخشى أكثر الملاحظين أن يكون القادم أدهى وأمر. ولا نملك اليوم إلا أن نسأل: لماذا؟ لماذا تفاوض الحكومة لحظة الأزمة من خارج منطق الأزمة؟ ألم يسمع وزراءها ومستشاروهم بخطاب العرق والدم والدموع؟ أم أن الحديث عن الحرب ضد الكورونا لا يعدو أن يكون من باب الللهو الإعلامي واللغو التواصلي؟ أم لعله سبق لسان شبيه بقول القائل: من يذكر الهجرة غير النظامية يذكر الإرهاب؟
لقد جددت حكومة هشام المشيشي بأخطائها الاتصالية وبسوء إدارتها للأزمات الظرفية شباب عدوى الاحتجاجات في تونس. هو مارد يشبه ذلك المخلوق الأسطوري الذي حاربه هيرقل، والذي كلما قطع له رأس، نبت محله رأسان. كذلك اليوم في تونس، كلما قالت الحكومة إنها أغلقت ملفا، نكاد نندم بعد بضعة أيام على إغلاقه.
السؤال: ما العمل اليوم؟ لعل أفضل من يجيب عن هذا السؤال هو هيرقل نفسه. حين علم أنه لا قبل له بحيّة ينبت لها رأسان في محل كل رأس يقطعه، التجأ إلى طلب المساعدة من صاحبه يولاوس الذي أخذ يحرق منابت الرؤوس بعد قطعها من قبل هيرقل من أجل الحيلولة دون تكاثرها.
إذا كان رئيس الحكومة هشام المشيشي ليس هيرقللا، فإن رئيس الجمهورية قيس سعيد ليس يولاوس. ولئن كان الأول يطعم العدو وهو يحسب أنه يروّضه، فإن الثان يفضّل أن يبدو في ثوب هيرقل، حتى إذا كانت حربه لا تعدو أن تكون ضد طواحين الهواء، على أن يلعب دور يولاوس في معركة ضد عدو حقيقي.
مع هذا، ليس ثمة في المستقبل القريب من حل آخر. ولذا لا يبقى لنا إلا الأمل في أن يتطور أداء رأسي السلطة التنفيذية، بحيث يستفيد الأول من صلاحياته الدستورية في سياق أزمة تسمح له بأن يدعو الجميع إلى الصبر حتى تضع الحرب على كورونا أوزارها، وبحيث يستغل الثاني ما يتمتع به من شعبية لخدمة الصالح العام ولخدمة الدولة التي يرأسها.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020