الشارع المغاربي – حول "جبهة المثقفين" بقلم/ محمّد أبو هاشم محجوب

حول “جبهة المثقفين” بقلم/ محمّد أبو هاشم محجوب

27 أكتوبر، 2018

الشارع المغاربي: أحترم وجهة نظر الأستاذ يوسف الصديق، ولا أريد هنا أن أناقشها إلا في حدود، رغم أنه يمكنني أن أقول دون تفاصيل إنني أتفهّمها تمام التفهّم : فعندما يبلغ الأمر بشعب ما مثل السوء الذي نرى منذ سنوات، ولاسيما في هذه البلاد، فإن أول ما يتداعى له بالتأثر والضيق والرفض هو وعي المثقف. ولذلك لخص المثقف يوسف الصديق موقفه هذا في

ذلك الحرف العربي البسيط : “لا” النافية، الناهية، المانعة، وفي كل ذلك “لا” التي تظل أقصى درجات إثبات الحضور.

إنها عبارة غير مفصلة عن رفض خطر داهم لم يعد يتعلق بهذا الجزء من الوضع أو ذاك وإنما بجماع الحالة التونسية التي يرفضها المثقف رفضا يعني أولا أن الأمر لم يعد متعلقا بتفصيل من التفاصيل، بل بات يمس جوهر الوجود المدني لهذا الشعب : الدولة. الدولة هي المستهدفة، الكيان المدني للشعب هو المستهدف، الحرب الأهلية هي المآل الحتمي لهذا

الوضع، ولذلك يصرخ المثقف صرخة واحدة :”لا”.

ولو كان الأمرُ متعلّقا بالعبارة عن موقف الرّفض هذا، وحتى بالكتابة فيه وشرحه والحجاج له أو عليه، لكان كل ذلك من طبيعة الأمور ما دام الوعي الثقافي هو الأرهف والأحد إحساسا بالحال. ولكن الدّعوة إلى جبهة المثقفين هي التي لا بدّ أن تدعو إلى التفكير وإلى إعادة صياغة الفكرة: فهل المثقّف “عون”احتجاج (في معنى فاعلية العون  Agency؟ إذا أقررنا بذلك وقبلناه فعلى أي معنى ينبغي ساعتها أن نحمل هذا الاحتجاج وأن نفهم آلياته ؟هل جبهة المثقفين جبهة فعل ؟ أم هل هي جبهة إمكان للفعل، أي جبهة إبداع معرفي وروحي وفني وفكري وعلمي ؟

لا شك أنه يمكننا أن نجد معنى وحتى سوابق تاريخية للانضواء العملي للمثقف، لعل أهم عنصر فيه هو الوزن بكامل ثقله الرمزي الذي يجد إحدى عباراته الوجيهة في ما نسب إلى الجنرال ديغول من رفضه إيقاف المثقف سارتر واعتراضه بجملته الشهيرة :”لا يمكن حبس فولتير”. ولكنّ سارتر وفولتير لم ينتميا إلى حزب ولا جبهة، ولذلك يمكن لأي فرنسي، بل لأي إنسان، أن يتعرف إلى نفسه فيهما، وأن يتماهى معهما، مهما كان انتماؤه السياسي : ليس المثقف ملكا لأي حزب، ولا هو يصدر عن أي برنامج سياسي يرتب أولويات العمل فيقدم الصناعة على الفلاحة مثلا أو يتنقص الأنموذج الاقتصادي ويقترح بديلا عنه، أو يرفع من شأن مرجعية فكرية على حساب مرجعية أخرى. لا شك أنه قد وُجد مثقّفون وقفوا مثل هذه المواقف وانحازوا لهذا البرنامج دون ذاك، وفضلوا هذا الرمز السياسي على غيره، أو هذا الشعار على شعار آخر. ولكنهم وهم يفعلون ذلك إنما كانوا يتصرفون بوصفهم مواطنين لا بوصفهم مثقفين.

ثمة في الانحياز إلى هذا الموقف السياسي أو ذاك نوع من وضع العنوان الثقافي، والمنزلة الثقافية، والوضع (statut)  الثقافي بين قوسين، وضرب من القبول بتمييع الهوية الثقافية ولو مؤقتا من أجل تقديم الواجهة السياسية التي لا مهرب من اعتبارها هي أيضا مؤقتة. بل أكثر من ذلك : إنّ المثقفين الذين يقبلون بهذا “الاستثناء الذاتي للهوية الثقافية”

(auto-exception provisoire du Soi culturel)سرعان ما يعودون بدون عناء كبير إلى وضعهم العابر للتموقعات السياسية بما في ذلك في أعين من كانوا– للتو – أضدادهم السياسيين.

وإني أجد أن الدعوة إلى تكوين جبهة المثقفين إنما تنتمي إلى هذا الجنس من الاعتبار :استعمال الوزن الثقافي الرمزي للمثقفين في عمل سياسي بعينه. لماذا أعتبره عملا سياسيا بعينه ؟ لأنه يتحدد وفق مواقف يناهضها ومواقف يؤيدها، حتى إذا ما كانت المواقف التي يناهضها والمواقف التي يؤيّدها مواقفَ واسعة وعريضة يمكن أن يشترك فيها أكثر من حزب واحد. إن اتساع واجهة الأحزاب التي قد تجد صداها في موقف المثقف ليس دليلا على أنه مثقف، وإنما هي دليل على اتّساع رؤيته “السياسية” لا الثّقافية  . ومخاطبته واجهة عريضة من الأحزاب هي مخاطبة سياسية لا ثقافية. وحتى لو اتسعت رؤيته لتشمل جميع الأحزاب كأحزاب فإنه لن يغادر السياسي فيه وتظل الرؤية الثقافية فوق ذلك بكثير.

من الواضح في رأيي إذن أن المثقف ليس مخاطبا للناس بقدر ما يجمع منهم، ولا هو مخاطب لهم بقدر ما يفرق بينهم. هو مخاطب للناس بقدر ما يكون أفقا لهم ينظرون منه ويتفقون أو يختلفون. وها هنا يتبين تحديدا الفرق الذي يفصل الرؤية الثقافية عن المقاربة السياسية. فكلنا يعلم ما أحاط مثلا بكتابة الفصل الأول من الدستور من الجدل العنيف أحيانا. لماذا ؟ لأنه كان جدلا تتراجح فيه رؤى سياسية، سميت بكثير من التسامح، رؤى حضارية. إن المقاربة الحقوقية للدستور، وهنا أتفق مع يوسف الصديق من منظور آخر، لم تكن إلا ترجمة لرؤى سياسية حزبية. فالمنظور الثقافي الوحيد الذي كان يمكن به قيام الدستور على رؤية ثقافية هو منظور الإنسانية، وليس منظور تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة ]إلخ[.

إن المقاربة التي قامت عليها كتابة الدستور هي مقاربة حقوقية لم يكن يهمها، ولم تكن تبالي بأكثر من أن يكون الدستور أساسا للقوانين. ولكن المثقف غير ملزم بمثل هذه الرؤية التي تظل مجرد رؤية تقنية. إنّ دستور المثقف هو في كل مرة إعلان عالمي، وليس أكسيومية ]متفاوتة النجاح، والتضارب، وأحيانا غير مضمونة الخصوبة السياسية التي من المفروض أنها تؤطرها !!![ من القوانين. لا ينبغي أن يغيب ذلك عن المثقف. ولذلك فهو أبدا غير راض، حتى لو كان الحزب الذي صوت له هو الحزب الفائز وحتى لو كان نمط المجتمع الذي ينشأ عن ذلك الدستور هو النمط الذي يرتضيه.

إنني لا أعني بذلك أنّ عمل الدستور عمل عقيم. ولكني أقول فقط إنه ليس غاية نظر المثقف ولا منتهى انتظاره. المثقف والحقوقي وجهان لا يشيّعان بصرهما على مسافة واحدة.

أتفهم جيدا يوسف الصديق حين يعترض على المقاربة الحقوقية للمستقبل. ليس المستقبل من شأن القانون إلا من الناحية التقنية. وإنما المستقبل شأن الفكر لأنه مجال الممكن. الممكن ليس مجال الحقوقي. فغاية مطلوب هذا الأخير تحديد مجال المتاح والمسموح به، وغير المحظور. أما الممكن فهو أفق كيان الشعب، والأفق مجال عمل المثقف. لذلك لا أعتقد أنّ تكوين جبهة المثقّفين هو المطروح اليوم على المثقّفين. فهذا سيلزمهم بنفس الحدود التي ظلوا محبوسين داخلها لحد الآن.

لينظر المرء في ما كتب وما أنجز ثقافيا في بلادنا منذ قرنين. سيتبين ساعتها مدى الفرق بين الرؤى الثقافية التي حملها خير الدين، والطاهر الحداد، والطاهر ابن عاشور، ومحمود المسعدي … مثلا، وبين الرؤى السياسية التي كانت كلها تنزيلات وقراءات وتخصيصات لنصوص فكرية وضعها أولئك المثقفون الحقيقيون دون أن يروموا بها أن يكونوا بورقيبيين أو إسلاميين أو اشتراكيين ناهيك عن أن يتوزّعوا على فسيفساء الأحزاب التي باتت اليوم تمثل زربية ]بل زريبة[ الحياة السياسية البائسة لهذا البلد الصامد.

إني أتفهم جيدا مدى ما يعني الفعل السياسي الذي تلزم إغراءاته المثقف بأن ينخرط فيه ولو إلى حين. ولا حرج عليه في ذلك. ولكنه قبل ذلك وبعده مثقف، إنه راعي الإمكان : ماذا أعني بذلك ؟ أعني أنه ليس على ذمة حزب أو مجموعة أحزاب. إنه روح الشعب. ودعوني أذهب إلى الحد الأقصى من فكرتي : طالما ظل المثقف – ولا سيما التنويري – قابعا تحت يقينه المضحك من أنه لا يخاطب إلا التنويريين، فإنه مجرد سياسي متفاوت المكر. ولكن “المكر” الحقيقي للمثقف، أعني قدرته الحقيقية على النفاذ إلى روح الشعب، إنما هو في قدرته على أن يقرأه الشعب، أعني الإسلاميين أيضا، كأفق له مهما كان الموقع السياسي لهذا الشعب: يساريا كان أو يمينيا، علمانيا أو إسلاميا. لذلك فإن جبهة المثقفين هي عندي مشروع جليل

لا ينبغي أن نستنفده في التموقع مع / أو ضدّ. جبهة المثقفين هي تيقظهم أخيرا إلى أن عليهم أن يعملوا خارج كل تكتل حتى يكونوا مقروئين كأفق للشّعب لا كخيار سياسي إقصائي. جبهة المثقفين هي عندي الجبهة التي تغتني بقدر ما تكون مرجعا للكل. هل من معنى اليوم في أن نصنف المثقف فولتير أو المثقف سارتر أو المثقف فوكو ضمن أحد أحزاب الحكم السياسي ؟ ولكن كل حراك سياسي يتوق إلى الحرية إنما يجد نفسه ويتعرف إلى نفسه في هؤلاء دون استثناء. المثقف ملهم الشعب.. ولكن دون تخصيص إلهامه كمضمون سياسي حزبي، ودون أن يتحول هو – خاصة – إلى جبهة.

من أسبوعية الشارع المغاربي في عددها الصادر يوم الثلاثاء 23 أكتوبر 2018

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING