الشارع المغاربي – الناشر شوقي العنيزي لـ"الشارع المغاربي": وزارة الثقافة المُنكّل الأوّل بالدستور ومعرض الكتاب مجرّد وليمة

الناشر شوقي العنيزي لـ”الشارع المغاربي”: وزارة الثقافة المُنكّل الأوّل بالدستور ومعرض الكتاب مجرّد وليمة

قسم الأخبار

25 أبريل، 2024

الشارع المغاربي: حاورته- عواطف البلدي: الناشر شوقي العنيزي صاحب “دار مسكلياني” للنشر، شاعر ومثقف تونسي ملمّ بكل تفاصيل الكتاب ومجالاته قراءةً ونقدًا وكتابةً ونشرًا وتوزيعا ومع ذلك لم نره خلال الأيام الأولى للدورة الحالية لمعرض الكتاب الدولي مما أثار لدينا تساؤلات عدة عن سبب غياب الرجل الذي تميّز في مجاله وفي مجالات أخرى كالترجمة والأدب والفلسفة..

“الشارع الثقافي” حاور العنيزي حول هذا الغياب وحول رؤيته لمعرض الكتاب الدولي ولدورته الحالية تنظيما ولجانا وإدارة ومشاكل وحلولا…

ما هي توقّعاتك لهذه الدورة من المعرض؟

أتوقّع دورةً ناجحة كسابقتها تُقدَّم فيها دروسٌ في التنظيم وفي وضوح الرؤية وجماليّة الصورة، ولعلّ أكبر درس في التنظيم ما ينفكّ المشرفون على المعرض يرسّخونه من دورة إلى أخرى هو الدقّة المتناهية في تكرار نفس الأخطاء بنفس الأدوات وذلك في تقديري أحد مظاهر العبقريّة، فليس من السهل أن تصيب الخطأ ذاتَهُ في الموضِع ذاتِه إلّا إذا كنتَ من الرُّماة المهَرة. وفي هذا السياق يمكن تشبيه حكاية معرض تونس الدولي للكتاب بحكايةٍ مرويّةٍ عن تيمور لنك زعيم المغول وأعنف قائد عسكريّ في التاريخ، فقد أراد تيمور لنك حين طعن في السنّ أن يُخلّد نفسه بصورة، ففتح الباب أمام الرسّامين كي يرسموه على حقيقته دون تجميل يُراد منه التزلّف والكذب أو تحقير يُشوّه صورة هذا القائد المتجبّر، وكان مصير أيّ رسّام يقع في إحدى هاتين الخطيئتين هو قطع الرأس. ولمّا كان تيمور لنك أحدب وأعور في الآن ذاته، فقد وجد الرسّامون أنفسَهُم في مأزق كبير، هذا يُزيل الحدبة ويمحو العور فيطير رأسه، وذاك يُبقي الحدبة والعور فيطير رأسه. وأمام تساقط الرؤوس الذي قطع دابر الرسّامين من البلاد، دخل على القائد المغولي في يوم من الأيّام رسّام مُعدم فقير ليس له ما يخسر فرسمه في وضع رامي السهم الّذي يُحني ظهره ويُغمض إحدى عينيه، وبذلك أخفى العور بالعين المغمضة وجعل الحدبة طبيعية بوضع بحَنْي الظهر. ربّما لذلك يصرّ المشرفون على معرض تونس على إصابة الأخطاء الماضية بدقّة تيمور لنك. فهل قدَرُ معرض تونس الدولي للكتاب أن يظلّ أحدب وأعور؟

بعيدًا عن هذه الصور المجازيّة وأمثولة تيمور لنك الطريفة، هل يمكن أن تحدّد لنا عيّنة من هذه الأخطاء؟

سأبدأ إذن بوضوح الرؤية، لأنّ الصورة السرياليّة التي يُتحفنا بها المشرفون على المعرض كلّ سنة هي نتيجة طبيعيّة لعبقريّة الرؤية. فمن الطبيعيّ أن يكون لكلّ تظاهرة هدف واضح من تنظيمها حتّى لو كانت حفل ختان، وعلى أساس ذلك الهدف يبحث المنظّمون عن الوسائل الكفيلة بتحقيقه. فما هو الهدف من إقامة معرض دولي للكتاب؟ يمكننا الاستنجاد بتلميذ في السنة التاسعة من التعليم الأساسيّ، وسيُحدّد لنا هدفًا منطقيًّا واضحًا هو:

إطلاع القارئ التونسيّ على أحدث الإصدارات تونسيّا ودوليّا بما يعكس المشهد الإبداعي والمعرفيّ لكل بلد مشارك.

وما دام القارئ التونسيّ المنصوص عليه في الهدف متعدّدًا متنوّعًا حسب تكوينه المعرفيّ وحسب مجالات اهتمامه، فإنّ المعرض سيسعى إلى تلبية رغبات هؤلاء القرّاء باستقطاب أبرز دور النشر محليّا وعربيّا ودوليّا بما يناسب حاجات كلّ شريحة من القرّاء.

وأين السرياليّ في ذلك؟ ألا تعمل إدارة المعرض على تحقيق هذا الهدف كلّ سنة؟

مرّة أخرى سيُجيبنا تلميذ السنة التاسعة من التعليم الأساسيّ بأنّ إطلالة سريعة على عمل كلّ لجنة من لجان المعرض سيكشف بجلاء أنّ الباحث عن القارئ في برمجتها مثل الباحث عن الملح في السكّر:

1/ لجنة شؤون العارضين:

ويتمثّل دورها في قبول مشاركات دور النشر وتوزيع الأجنحة. أمّا قبول مشاركات الناشرين المعمول بها في كلّ المعارض العربيّة فيقوم على معيارين أساسيّين، أوّلهما معيار كميّ يشترط في الحدود الدنيا ألّا تقلّ إصدارات الناشر عن ستين عنوانًا، ويبلغ هذا المعيار المائة عنوان في بعض المعارض الدولية، وذلك لضمان مشاركة دور نشر نشطة في المجال والحدّ من الوسطاء وكلاء وموزعين، بما يضمن أسعارًا معقولة للكتب تراعي قدرة القارئ الشرائيّة. ومن مبادئ التجارة البسيطة أنّه كلّما زاد الوسطاء زادت الأسعار، وهكذا ظلّ معرض تونس الدولي للكتاب المعرض الوحيد اليوم عربيّا الذي انقطعت عن المشاركة فيه أهم دور النشر العربية مثل “دار الآداب” و”دار الساقي” و”المركز الثقافي العربي” و”دار الشروق” والقائمة تطول… وكلّ ما يمكن للقارئ التونسي أن يظفر به من كتب هذه الدور هو بعض الكتب القديمة المرمية في بعض الأجنحة هنا وهناك.. أمّا المعيار الثاني فهو معيار زمني ويشترط على الناشر أن تكون نسبة 30 بالمائة من إصداراته إصدارات جديدة، لأنّ المعرض ليس مجرّد سوق للكتب، بل هو مرآة للحراك الثقافي والفكري في البلاد التي ينحدر منها كل ناشر وكل كاتب. ولا وجود لهذا المعيار في معرض تونس الذي كاد يصبح في ما يخص الناشرين العرب سوقا للكتب القديمة، بل صار المعرض الوحيد الذي يفتح أبوابه لدور نشر لا ترى لها أثرًا في المعارض المحترمة التي تسلّط عقوبات صارمة بسبب الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، فصرنا نرى دورا متخصّصة في القرصنة والاعتداء على الحقوق تتنفّس من خلال معرض تونس، ويمكن لتلميذ السنة التاسعة من التعليم الأساسي أن يُسمّي لك بعض هذه الدور، فقد قاده ولعه بأدب الجريمة المناسب لسنّه إلى البحث عن أعمال أغاثا كريستي، فوجدها بجناح الدار الذهبية عدد 1708، لكنّ حقوق النسخ القانونية التي يمتلكها هذا التلميذ من أعمال كاتبته المفضّلة تعود إلى دار الأجيال للترجمة والنشر، ولن يسمح المجال لهذا التلميذ بتفصيل القول في السطو على ترجمات مترجمين آخرين تبلغ بالواحد منهم أن يترجم كلّ أعمال دستويفسكي فجأةً ودفعةً واحدة وهكذا تنبت هذه الأسماء وتترعرع في معرضنا. فهل صرنا معرض تونس الدولي للقرصنة والاعتداء على الملكية الفكرية؟

ولعلّك تتساءلين عن توزيع الأجنحة وعلاقته بالقارئ محور المعرض الأساس، وفي هذا السياق أقول لك ما دام القارئ قرّاء لكلّ واحد منهم ميوله في القراءة ورغباته، وما دامت دور النشر تختلف في ما بينها حسب خطّها التحريري، فإنّ المعارض المحترمة توزّع الناشرين حسب تخصّصاتهم فتضع كل فئة من الناشرين بشكل متجاور، فتكون الدور المتخصّصة في الكتب الأكاديمية متجاورة، والدور المتخصّصة في الكتب القانونية متجاورة، والدور المعروفة بالروايات والأعمال الإبداعية متجاورة… وهكذا لا يصبح القارئ في فضاء المعرض تائها مثل تاكسي بلا عدّاد، بل يجد بغيته في المساحة المحدّدة، دون إرهاق. أمّا معرض تونس فعلاوة على كونه المعرض الوحيد في العالم العربي كلّه الّذي لا يملك بنك معلومات على الأنترنيت بالكتب المشاركة فيه وأسعارها (باب للفساد)، فإنّه يتفنّن في إعداد القارئ التونسي للألعاب الأولمبية، فيضع له جناحا متخصّصا في الكتب الأكاديمية الدقيقة يقابله جناح متخصص في الكتاب المدرسي، يجاوره جناح متخصص في الأدب والعلوم الإنسانية، حتّى يصيب القارئ المسكين شدّ عضليّ في الذهن. ولعلّ ذلك يدخل ضمن هدف خفيّ اختاره المشرفون على المعرض وهو تحريك الدورة الدمويّة للقرّاء المتعوّدين على الجلوس والقضاء على شتّى مظاهر السمنة.

2/ لجنة الجوائز:

قد يذهب الظنّ إلى أنّ جوائز معرض الكتاب التي تخصّصها وزارة الثقافة كلّ سنة في مجالات مختلفة كالرواية والشعر والترجمة والدراسات الإنسانيّة، هي جوائز موجّهة إلى الكُتّاب فحسب، لكنّنا إذا تأمّلنا أهم الجوائز العربيّة والآليات التي تعمل بها انتبهنا إلى أنّها موجّهة إلى القرّاء أساسا كي تتخيّر لهم أهمّ الأعمال المرشحّة كلّ سنة في مختلف المجالات، لذلك تعمل بعض هذه الجوائز على الإعلان عن قائمة طويلة تليها بعد مدّة زمنية قائمة قصيرة يليها بعد مدّة زمنيّة الإعلان عن الكتاب المتوّج، (البوكر، الشيخ زايد، كتارا، جائزة بن عيّاد في تونس، جائزة نادي القصّة…) وتعود هذه الآليّة إلى منح القرّاء الوقت للاطلاع على النصوص ومنح الإعلاميين والصحافيين المدّة الكافية لاستضافة أصحاب النصوص المرشّحين للتتويج، وإضفاء طابع التشويق على المشهد الثقافيّ برمّته. أمّا جوائز معرض تونس الدولي للكتاب فإنّ الإعلان عنها يكاد يشبه عمليّة الاقتراع في الانتخابات، إذ يأتي في كل دروة محكوما بالسريّة ومدفوعًا بالسرعة القصوى، في تغييب تامّ للقارئ وللمعلومة، ذلك أنّ الإعلان عن القائمة القصيرة يتمّ قبل افتتاح المعرض بثلاثة أيّام فقط، يعقبها الإعلان عن المتوّج، وأغنية نهاية الزفاف “انزاد النبي وفرحنا بيه..”.

3/لجنة الاتصال والإعلام:

الحمد لله أنّها بدأت تعمل لتخبرنا بضيوف المعرض والنشاط الثقافي مع انطلاق المعرض، حتّى انّني كدتُ أُصدر خبرًا عاجلًا مفاده: “قريبا جدّا يُتوقّع الإفراج عن الفريق الاتصالي لمعرض الكتاب بحلول الثامن والعشرين من شهر أفريل”.

أليس من المفروض أن تقدّم لنا هذه اللجنة أخبارا يوميّة عن ضيوف المعرض وبعض أنشطته قبل المعرض بمدّة كي يعرف القارئ الكتّاب المدعوّين ويُجهّز نفسه لما يهمّه من الأنشطة؟ ربّما نحن نغالي في قراءتنا والمهمّ أنّ فريق الاتّصال ظهر أخيرا وأنّه بخير.

 هل ترى أنّ مدير المعرض الحالي محمد الصالح القادري الشخص المناسب في المكان المناسب؟

تقصدين الأستاذ الدكتور محمد صالح القادري؟ نعم طبعا، فهو رجل ديمقراطي وتعيينُه يفتح باب الأمل. أمّا صفة الديمقراطي فليس أدلّ عليها من الكلمة الافتتاحيّة التي صدّر بها دليل أنشطة المعرض وبرنامجه الثقافيّ، فقد جاء مضمونُها مُطابقًا لعنوانها: “التنمية الثقافيّة شأن جماعيّ”، وفيها سعى الدكتور إلى إجلاء شتّى أشكال الديمقراطيّة ممارسةً لا مجرّدَ قول، فبدأ باللغة نفسها، فكان عادلًا مُنصفًا في ارتكاب شتّى أصناف الأخطاء اللغويّة رسمًا وإعرابًا وتركيبًا وصرفًا حتّى تعدّى عدد الأخطاء العشرين خطأ في نصّ صغير (أخطاء الرسم: فرار الهمزات فزعًا من كلمات كثيرة لعلّ أبرزها ضيف الشرف نفسه “إيطاليا” فلم تُكتب مرّة بشكل صحيح، والحمد لله أنّ أخطاء الرسم في اللّغة لم تتسبّب يومًا في أي أزمة ديبلوماسيّة بين بلدين./ الصرف: مقاومة الثقافة الذكورية البائدة وتكريس تأنيث المذكّر مثل قوله “إحدى روافدها” وليس “أحد روافدها”./التركيب: الحرص الشديد على الإمتاع والمؤانسة وإقرار عدم الفصل بينهما مُستقبلًا فلا إمتاع بغير مؤانسة ولا مؤانسة بلا إمتاع، لذلك وضعهما معالي الأستاذ الدكتور كالتوأم في صيغة مُضاف “إمتاع ومؤانسة جميعِ الفئات العمريّة” عكس ما تفرض اللغة المتسلّطة الجبّارة “إمتاع جميع الفئات العمريّة ومؤانستها”، وهل هناك تجبّر ومظلمة أكبر من فصل التوأم أحدهما عن الآخر؟ نصر الله الأستاذ الدكتور على دكتاتوريّة اللغة./الإعراب: الإعلاء من شأن القطاع الخاصّ بتجنيبه النصب ودلالة النصب، لذلك رفعَه رفع الله قَدْره فقال “النهوض بالثقافة شأن الجميع، دولة وقطاع خاص وجمعيّات أهليّة” ولم يقل “دولةً وقطاعًا خاصًّا وجمعيّاتٍ أهليّةً” لتكريس مبدإ حسن النيّة وتجنبيهم النصب.) ولم تتوقّف رؤية الأستاذ الدكتور الحكيمة عند هذا الحدّ بل أقام الأخطاء في كلمته التاريخيّة على التناصف بين “الخطإ” و”الهفوة” فجعلها بذلك مبنيّة على التناصف الجندريّ بين المذكّر ” خطأ” والمؤنّث “هفوة” مثل نسيان حركة أو حرف لعن الله النسيان.

وقد وددنا تقديم عيّنة من هذه الأخطاء لا لشيء إلّا لنرد على كل من تسمح له نفسه الأمّارة بالسوء بتشويه صورة الأساتذة الدكاترة والتشكيك في كفاءتهم، وهو تشكيك قد يذهب إلى حدود اتّهامهم بتشويه صورة المنظومة التعليمية في تونس لدى زوّار المعرض من الأجانب وسوء الظنّ في درجات الترقّي العلميّ في تونس التي تجعل أستاذا دكتورا يرتكب ما ارتكب من أخطاء تبدو لغير العارف خطِرةً مُفزعة، لكنّها سرعان ما تنجلي لكلّ عارف متناسقةً محكومة برؤيةٍ وبصيرةٍ نافذتين. ولو سلّمها الأستاذ الدكتور إلى أحد الأساتذة الدكاترة ممّن معه في لجنة إدارة المعرض لأصلحها له وعيناه مغمضتان، غير أنّ حرص سي محمد صالح القادري على العمل الجماعي وإيمانه به، جعله يتجنّب إرهاق الآخرين ويكتفي بكتابة كلمته وحيدًا، ولتونس من التونسيّين من يدافع عن صورة معرضها وصورة مديره. ثمّ لماذا الاهتمام بالهامشي والشكليّ مثل أخطاء اللغة وإهمال الميزة الأساسيّة التي ظلّ سيادة مدير المعرض (أو رئيس لجنة تنظيمه) يردّدها في كل لقاء صحفي وفي كلمته الافتتاحية، وهي “مواكبة التطوّرات الحاصلة في مجال التكنولوجيا وإنجازاتها غير المسبوقة… وامتلاك مفردات الثورة الصناعيّة الرابعة وثقافة المعلومات”؟ فالرجاء من أيّ أحد من العمّال في إدارة المعرض أو موظفيه إعلام السيّد الأستاذ الدكتور بأنّ معرض تونس الدولي للكتاب الذي هو رئيس لجنة تنظيمه لا يملك إلى الآن موقعا رسميّا على شبكة الأنترنيت وبأنّ ذلك لا يمكن الراغب في الاطلاع على العناوين الموجودة في المعرض من أهلنا في الجنوب إلّا بامتطاء الحافلة والسفر يوما كاملًا للوصول إلى المعرض ثمّ السفر ثلاثة أيام داخل المعرض للاطلاع فقط على ما تختزن أجنحته من عناوين.

أمّا كيف يفتح تعيين الأستاذ الدكتور باب الأمل، فلأنّه يمنح الأمل لكلّ مفتقر إلى الرؤية والتجربة كي يظفر بمنصب، ويكرّس دمقرطة الثقافة. وأمّا المُطالبون أمثالي بتعيين مدير من الشخصيّات الثقافيّة الفاعلة أو من أصحاب التجارب الإداريّة الطويلة أومن أهل مهنة الكتاب مثلما حصل مع الأستاذ رابح الدخيلي رئيس اتحاد الناشرين التونسيين الأسبق، أو مع الأستاذ منصف بن عيّاد، فذلك يندرج ضمن تاريخ المعرض المجيد، والتاريخ كالمتحف نزوره ولا نأخذ منه شيئًا.

 لاحظنا تهكّما كبيرًا على برنامج المعرض الثقافي. هل تصفحته وما رأيك في ما تضمّن من أنشطة وأسماء وندوات؟

تهكّم معهود من المحرومين من مآدب الإفطار، لا يقدّم تصوّرات أو اقتراحات بنّاءة، لذلك لا أودّ الدخول في نوبة العويل بالاستنقاص من الجهد الجبّار المبذول في النشاط الثقافيّ الحافل بالندوات والمحاورات الأكاديميّة الرصينة، وهي ندوات تخيّرت القضيّة الفلسطينية أمّ القضايا محورًا لها، يُشرف عليها “أساتذة دكاتير” من خيرة ما أنجب البلد، يدعون إليها بدورهم “أساتذة دكاتير” لتعميم الفائدة وتفكيك المفاهيم المفصلّية والمصطلحات الجوهريّة ووضعها تحت عدسات النظّارات التي لا يخلو منها أيّ وجه من وجوه دكاتيرنا. أمّا المشهد الثقافيّ الفلسطيني الداخليّ وما يعج به من تجارب ومن مقاومة إبداعيّة، فلا أظنّه يعني القارئ التونسيّ في شيء. لماذا سندعو الكتّاب المتوّجين بجائزة الدولة الفلسطينية في فلسطين الداخل والحال ان دعوتهم قد تكلّف ميزانية وزارة الثقافة ما تكلّف؟ ولماذا نسلّط الضوء على كتاب عمر نزال الذي أثار ضجة في فلسطين نفسها وفي العالم العربيّ، وأتحدّث هنا عن كتاب “كباسيل” وهو كتاب يعنى بمنافذ الاتصال والتواصل لدى الأسرى في السجون الصهيوينة وبآليات تهريب كتابات المساجين إلى الخارج؟ لماذا نرهق أنفسنا بذلك و”أساتذتنا الدكاتير” لم يحسموا بعد في فلسطينية عمر نزال، وقد يكون الرجل مكسيكيًّا أو أشوريّا أو مغوليّا ونقع في الفضيحة مثل كلّ سنة؟ وما الّذي يهمّ القارئ التونسيّ من دعوة الدكتورة آمنة حجّاج التي أهدرت عُمرها في أطروحة دكتورا عن روايات الداخل الفلسطيني؟ فالمشرف عليها هو الدكتور صالح بن رمضان وهو تونسيّ ويمكنه عقد حلقات في المقاهي والمطاعم الشعبيّة ليحدّثنا عنها نيابة عن الكاتبة. إنّما نحن في حاجة إلى تقليب المفاهيم وتدقيقها وتحقيقها كي تتّضح لنا الرؤية وتتلاشى الغشاوة. لهذا كلّه لا أودّ تقزيم الجهد الجبّار المبذول في النشاط الثقافي، وإنّما أدعو هؤلاء المشرفين على الدورات القادمة إلى فتح باب التسجيل أمام الطلبة وعموم الباحثين لاختيار إحدى المواد العلميّة المدرجة في برنامج المعرض الثقافيّ والظفر حال نهاية المعرض بشهادة علميّة يحتاج إليها سوق الشغل، فليس أشرف من العمل لتحصيل الخبز، وليس أكرم بالخبز من فلسطين. وهكذا “نوكّلو صغيّراتنا خبيزة باهية”.

البرنامج الثقافي برنامج دسم ولكنّه غير متوازن فإمّا أن يتعامل مع القارئ بوصفه طفلا قادما للمعرض من أجل الترفيه، أو بوصفه باحثا أكاديميا متخصّصا، وإذا استثنينا النقطة المضيئة في هذا المعرض التي قام بإعدادها شباب مثقّف حيّ من مجموعات القراءة وعشّاق الكتب، بدعوتهم كتّابًا يعكسون المشهد الثقافي في بلادهم ولم تسبق لهم زيارة تونس مثل عادل عصمت وسعود السنعوسي وبثنية العيسى، فإنّ البرنامج يمكن أن يختزل في المثل الروسي: “إذا كنتَ لا تملك إلّا مطرقة فلن ترى الأشياء إلّا مسامير”.

هناك استياء من كثير من المثقفين التونسيّين من عدم دعوتهم إلى المعرض. كيف ترى تغييبهم عما وصفوه “الزردة”؟

اسمحي لي بأن أعقّب أوّلًا على عبارة “الزردة” لأنّها طقس كامل يتقاطع فيه الروحاني بالاحتفالي بالوليمة، ونأمل أن يرقى المعرض في يوم من الأيّام إلى مستوى “الزردة”، لكنه في تقديري مجرّد وليمة يتغيّر المدعوّين فيها بتغيّر المسؤولين، وما دام ترسّخ في أذهان الطبقة المثقّفة أنّ المعرض وليمة فلا بأس من المطالبة بما يسدّ فاتورة ماء أو يسدّد فاتورة كهرباء لا قطع الله عنهم فاعل خير… لكنّ ما يؤلم حقّا إزاء هذا المشهد هو ضجيج الصمت الذي أسمعه من فاعلين حقيقيّين في المشهد الثقافي. فهل يُعقل ألّا تدعى أميرة غنيم ولا مرّة واحدة إلى أيّ نشاط من أنشطة المعرض وهي التي جمعت في كتاباتها بين إقبال القرّاء إذ وصلت روايتها “نازلة دار الأكابر” الى الطبعة العاشرة، واعتراف لجان التحكيم المتخصصة، بفوز كتابها بالكومار الذهبي فئة لجنة التحكيم وبالقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربيّة؟ وفي الآن ذاته نرى كتّابا عربًا كانوا مع أميرة غنيم مثلا في القائمة القصيرة يدعون إلى المعرض في مناسبتين متتاليتين حتّى صار غياب أحدِهم عن هذه الدورة دافعًا للاستغراب وصار “أبغض الحلال عند الله جلال..”

ما دام ليس هناك معيار واضح في توجيه الدعوات ينسجم مع الهدف الرئيسي للمعرض، لا يمكننا قمع أيّ صوت يُطالب بدعوة. ومن يرفع صوته أكثر سيكون أوّل المدعوّين في الدورة القادمة، ما دامت التجارب أكّدت أنّ الحبال الصوتيّة معيار.

كناشر ومثقف خاض تجارب طويلة في معارض دولية كبرى عربية وأجنبية ماذا ينقص معرضنا حتى يحقق انتظارات الناشرين والمثقفين على أكمل وجه؟ وحتى يتساوى مع المعارض الدولية الكبرى إن لم نقل يتفوق عليها؟

ينقصه وضوح في الرؤية والأهداف، وينقصه أن يعلم المشرفون عليه بأنّ التكليف مسؤوليّة وليس تكريما.

يرى البعض أنه لا توجد إرادة ولا رغبة في صناعة مشهد ثقافي حقيقي. ما رأيك في ما يُقال وماذا ينقصنا لصناعة هذا المشهد؟

إذا أردنا أن نصنع مشهدًا ثقافيًّا حقيقيًّا فعلينا إغلاق وزارة الثقافة، فلا يمكن للحمار الجريح أن يحمل غير نفسِه، ويكفي أن نُلقي نظرة على تاريخ هذه الوزارة من خلال التسميات كي نعرف ما حلّ بها، فقد كانت “وزارة الثقافة” ثمّ حين اكتشف آل الطرابلسي قيمة المتاجرة بالآثار صار اسمها “وزارة الثقافة والمحافظة على التراث” والمقصود نهبه، وحين أقنعهم متعهّدو الحفلات بما تدرّ به الوساطة في استجلاب الفنّانين وإقامة المهرجانات صارت “وزارة الثقافة والترفيه”. أمّا اليوم فهي ربّة بيت لا حول لها ولا قوّة تعنى بـ”الشؤون الثقافيّة”، فمن يحاسب ربّة البيت على جهلها بالدستور؟ لستُ مطلّعًا على المشهد الثقافيّ التونسيّ بمختلف أشكاله الفنيّة والثقافيّة، لكنّني يمكن أجزم لك في ما يخصّ الكتاب بأنّ وزارة الثقافة هي المُنكّل الأوّل بالدستور التونسيّ، ويكفي أن أسوق إليك وإلى قرّائك الكرام المثال التالي المتعلّق بلجنة اقتناء الكتب التونسيّة، وهي لجنة موجّهة لتزويد المكتبات العموميّة بأحدث الإصدارات التونسية كلّ سنة، فإذا علمنا أنّ عدد المكتبات العمومية في تونس يتخطّى 400 مكتبة، وأن الوزارة تقتني من الكتب الثقافية التي يحتاج إليها مرتادو هذه المكتبات ما بين 100 و200 نسخة، ومن الكتب المتخصصة التي لا تعني مرتادي هذه المكتبات ما بين 30 و50 نسخة (وهي كتب موجهة إلى مكتبات الجامعات) أدركنا أنّ الوزارة هي الخارق الأوّل للدستور التونسي الذي ينصّ فصله الأوّل على أنّ تونس “جمهورية” بمعنى تكافؤ الفرص، فحين تقتني الوزارة 100 نسخة من كتاب ثقافي، فإنها ستضعها في المكتبات المركزية، أمّا قرّاء أمّ العرايس في قفصة وقرّاء سجنان في بنزرت وقرّاء حاسي الفريد في القصرين فقد حكمت عليهم لجان الوزارة بأنّهم ليسوا تونسيّين، ويصبح الأمر جريمة تدعو للتحقيق حين تتبرّع الوزارة بنسبة من كتب الاقتناءات لمهرجان قرطاج في حفل الفنان لطفي بوشناق كي يحصل كل من قطَع تذكرة لدخول ذلك الحفل على نسخة مجانية من كتاب، والغريب أنّ الصحافة في ذلك الوقت باركت هذه اللّفتة النبيهة، ولم يتفطّن أحد إلى أنّ كلّ نسخة مجانية من كتاب من تلك الكتب سُحبت من بين يدي قارئ تونسيّ في الأرياف والمناطق المحرومة، في ظلّ فوضى عارمة شعارها المظاهر والإفلات من المحاسبة. فمن يحاسب الوزارة على التنكيل بالدستور؟ أمّا إغلاق الوزارة، فليس المقصود به غير إغلاق حنفيّة الدعم في غير محلّها، وغير إغلاق عقليّة التعامل مع تظاهرات الوزارة بوصفها كعكة، وهي عقليّة عمل على تكريسها أبناء الوزارة قبل سواهم، وليس المقصود به غير إغلاق هذه الصورة المؤلمة لتونس الجريحة.

قد يكون كلامك صحيحا لكنّك تنظر دوما إلى الجوانب السلبيّة، فتونس مثلا هي الدولة الوحيدة التي تمنح الناشر 75 في المائة نسبةَ دعمٍ على الورق؟

ملاحظتك في محلّها تمامًا، لكن للأسف يبدو أنّ عدوى المطارق أصابتني فصرت أرى كلّ شيء مسمارًا. لذا فلْتسمحي لي بتوضيح النقطة التالية: إنّ الدعم على الورق موجّه أوّلا إلى القارئ التونسيّ وليس إلى الناشر ونسبته في صناعة الكتاب تعادل بالضبط نسبة الضريبة التي يدفعها الناشر ويُعفى منها القارئ. وهو من زاوية ثانية شكل من أشكال العبث بالكتاب لا دعمه، لأنّ توريد الورق في تونس منذ اتفاقية التبادل التجاري الحرّ التي أبرمها بن علي، حكرٌ على الدول الأوربية، لذلك فإنّ الطابع أو تاجر الورق يجد سعر نوعية ما من الورق على سبيل المثال بدولار في الصين أو الهند لكنّه مجبر على اقتنائها من أوروبا بعشرة دولارات، تمنح الدولة دعما للناشر عليها فتصبح بدولارين ونصف، فأيّهما أجدى: إلغاء الدعم على الورق وإلغاء بند توريد الورق من هذه الاتفاقيّة، فنورّد ذلك الورق بدولار، أم إهدار ملايين الدنانير كلّ سنة تحت راية الدعم؟

إنّ النظر في مشاكل صناعة الكتاب هو مسألة تخصّ المهنيّين من طابعين وتجار ورق ومختلف الأطراف الفاعلة في صناعة الكتاب، أمّا وزارة ثقافتنا النبيهة فإنّها تعقد كل سنة جلسات مع كتّاب، يخرجون في ختامها بأنّ “الكتاب قيمة ثابتة في حياة الشعوب”. ما دخل الكُتّاب بالكتاب؟ للكُتّاب علاقة بالكتابة. أمّا الكتاب فإنّه حزين أمامكم في معرض الكتاب فاستمعوا إلى أنين اليد التي اقتطفت حَلْفاءه.

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 افريل 2024


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING