الشارع المغاربي – موقف الأسبوع: لم يعد من المستغرب أن يتحول يوم العلم في تونس إلى مناسبة لمهاجمة التكنولوجيا. ففي عهد التمرّد على الحكمة والمنطق تُستغلّ الرموز لأضدادها. ألم يقع قبل ذلك الاحتفاء بخرق الدستور في يوم الاحتفال بعيد الجمهورية بمباركة عدد كبير من أساتذة القانون الدستوري؟ ألم يتم وصم يوم الثورة بأنه كان يوم الانقلاب عليها؟ ألم يقع التعريض بموروث الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في ذكرى وفاته، دون أن يحرّك جل من ينتسبون إلى بورقيبة ساكنا؟ لماذا يبقى العلم والتكنولوجيا عصّيين عن موجة الإرادة التي تدكّ حصون كل القيم في تونس ؟ في الحقيقة ليس كل القيم. فهناك قيمة مستثناة: الدولة وقمّتها. ذلك من المقّدسات حاشى لله أن تتعرّض لها ألسنتنا.
في أصول رفض التكنولوجيا
في عهد الإمبراطور الروماني فازباسيان، الذي حكم الإمبراطورية الرومانية بين عامي 69 و79 ميلادي، اخترع أحد العبيد وسيلة لتقليص الجهد البشري في حمل الأثقال الضرورية لإعادة بناء روما بعد إحراقها في عهد نيرون. فجاء القرار الإمبراطوري من فازباسيان نفسه، وذلك بمنع استخدام التقنية المذكورة، وبحرمان مخترعها من إمكانية ترويجها. ولمّا سئل الإمبراطور عن ذلك أجاب مستغربا السؤال: “وماذا يفعل العبيد إن عوّضت عملهم الآلة؟”
لم يكن الإمبراطور المذكور شعبويا في خطابه. ولذلك لم يتحذلق في القول. فلم يدّع أن تلك الآلة مؤامرة على الإنسانية، أو أنها تهدد مستقبل البشرية. لقد اكتفى بالإشارة للدور الاجتماعي للعمل. فهو ليس فقط في نظره وسيلة لإنتاج الثروة، وانما أيضا طريقة ضرورية تحتاجها السلطة لفرض الانضباط في المجتمع. وهذا صحيح فعلا. وهذا ما يعني أن أيّ تطوّر يتضمّن بالضرورة كلفة. ولكن من الغباء الوقوف عند تلك الكلفة وتجاهل الإيجابيات.
إن أتباع فازباسيان كثيرون. ومن أبرزهم اللوديون في بريطانيا الذين ثاروا في بداية القرن التاسع عشر على آلات النسيج فأقدموا على تكسيرها، ودفع بعضهم حياته ثمنا لذلك عام 1811.
مطرقة الذكاء الاصطناعي
إن التاريخ حافل بالتجارب التي تثبت أن التطور التكنولوجي ليس مؤامرة، ولا يمثّل تهديدا لا للإنسانية ولا للذكاء البشري. هذا الكلام لا يعني أن التطور التكنولوجي لا يطرح تحديات. بالعكس تماما. إن تحديات التطور التكنولوجي جسيمة. وليس أقلها أن الذكاء الاصطناعي هو اليوم بصدد تدمير عالم قديم، بوسائله وقيمه وكفاءاته ومهنه وعاداته وتقاليده وأطره الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال إنشاء عالم جديد لم تبرز إلى حد الآن جلّ معالمه.
هناك في تونس، كما هو معلوم، من لا يتوقّف عن الحديث عن “عالم جديد” وحاجته إلى “فكر جديد”. وأطرف ما يميّز بعضهم، أنهم يسعون إلى المناصب السياسية كي يقرّعوا الناس مطالبين إيّاهم بإيجاد تلك الأفكار. ذلك أن بعضهم قضّوا في الجامعة التونسيّة عقودا، لم تكن كافية ليأتوا بفكرة تستحق الذكر أو النشر. ثمّ ها هُم بعد ذلك يستفيدون من موجة الذكاء الاصطناعي، ربما من دون وعي منهم، فيجدون أنفسهم في السلطة. فماذا يفعلون يا ترى؟ إنهم لا يفوّتون فرصة كي يذكّروا بأن العالم “دخل مرحلة جديدة، يحتاج فيها إلى فكر جديد”.
لكن لا تنبغي القسوة عليهم. فكلامهم، وإن بدا سمجا، سواء جاء بعربية فصحى عقيمة، أو بدارجة تونسية سقيمة، هو في الحقيقة كلام موغل في الصدق. بل إن الباطل لا يكاد يأتيه من بين يديه ولا من خلفه. فكيف للباطل أن يدرك من لا يقدر إلا على ترديد البديهيات؟ كالمنجّم تستشيره، فيبشّرك بأن صباحك جديد، وبأنك تحتاج إلى طاقة جديدة، بل وإلى طعام جديد.
إن هذا المُنجّم لا يذهب بالبديهيات إلى درجة إخبارك بأنك لا تقدر أن “تعود بعقارب الساعة إلى الوراء”. أي أن المنجّم الأحمق أكثر حكمة من بعض أبرز المسؤولين في تونس. فبعضهم لا يكتفون بأن يخبروك بأن “عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء”. ولكنهم بعد أن يفعلوا ذلك مرارا وتكرارا، ينتهون إلى الدعوة بالتحديد إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. مثال ذلك أن يتحوّل يوم العلم إلى مناسبة لنشر شعبوية مناهضة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
سندان الغباء الطبيعي
لا أحد ينكر التحديات الجسيمة التي يواجهها الاقتصاد التونسي بسبب التغيرات التكنولوجية الحالية. والحقيقة أن حالنا في تونس أخطر من حال جلّ بلدان العالم. ذلك أنه يصعب جدا إيجاد بلد آخر تتحول فيه مناسبة وطنية للتشجيع على المعرفة والتطور، من قبيل يوم العلم، إلى محطّة للتنفير من تكنولوجيا العصر.
كل البلدان تعمل على تأطير الذكاء الاصطناعي لأن مخاطره وانحرافاته لا تخفى على أحد. ولكنها تبذل، قبل ذلك وبعده، الجهد الأكبر في تطوير الكفاءات البشرية القادرة على استيعابه وإنتاجه والتحكم فيه. وذلك هو السبيل الوحيد للاستفادة من ايجابياته الجمة. كما أنه السبيل الوحيد لتجنب أسوأ احتمالاته.
إن الغباء الطبيعي هو في الحقيقة ما يجعل تونس اليوم في وضع حرج. فهو السندان الذي قبلت تونس أن تضع عليه رقبتها وهي تبصر مطرقة الذكاء الاصطناعي تهوي عليها. فلا هي قادرة على دفعها، ولا هي مستعدّة للتأقلم معها.
إن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. فالذكاء الاصطناعي ماض في تغيير عالمنا. فآلاته هي التي تطور اليوم الفلاحة والصناعة. وخوارزمياته هي التي تغيّر أيضا وسائل نقلنا وتعلُّمنا واطلاعنا. ولن يبقى مجال لن يتأثّر بالذكاء الاصطناعي. في المقابل، سيبقى فازباسيان وأتباعه من أصحاب العروش أو من رعاياهم ينظمون الهجاء ضد أصحاب الجدارة وضدّ منجزاتهم. وحالهم لن يكون أفضل من حال من يطلع إلى الشمس فيبصق عليها. فلا يحصد بعد ذلك إلا وجها ملطّخا لا يحميه اللعاب من أن يكويه شعاعها.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 أوت 2023