الشارع المغاربي- وليد أحمد الفرشيشي: رغم وضعه على دكة البدلاء خلال المدّة الأخيرة، اختار إياد الدهماني، الناطق الرسمي باسم الحكومة، العودة من بوّابة التفصي من المسؤولية عند خروجه الإعلامي الأخير. ورغم أنّ عموم المتابعين كانواينتظرون إقرَارًا بالمسؤولية والذنب، أي “Mea Culpa” حكومية تصارحُ ولا تكابرُ، فإن “تقني البروباغندا” فضّل مواصلة التقدّمِ داخل طموحه الشخصي أي أن يكون “غوبلز” الحكومة الرخوة.
لقد فضّل إياد الدهماني مغالطة الرأي العام بل والكذب المباشر في الوقتِ الذي نادى فيه الخبراء وأولي العلم والمعرفة بخفايا التصنيف الأخير لتونس، وهو يرمي عن قصد الكرة في ملعب “لجنة التحاليل المالية” ومن ورائها محافظ البنك المركزي المستقيل/ المقال، الشاذلي العيّاري، مبرئا ذمّة الحكومة كأيّ “تقني بروباغندا” ساذج ومكذّبا في ذات الوقت كلّ المعلومات المنشورة قبل أشهر (ومن بينها مقال الشارع المغاربي)حول اعتزام الاتحاد الأوروبي إدراج تونس ضمن القائمة السوداء للدول الأكثر عرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مكتفيًا بتعداد اكثر من 240 طلعة ديبلوماسية أنجزتها الحكومة ومتغافلاً في الآن نفسه عن الإشارة إلى حضوره هو وحاتم الفرجاني، كاتب الدولة المكلّف بالديبلوماسية الاقتصادية، في ستراسبورغ يوم تصويت البرلمان الأوروبي على إدراج تونس في القائمة السوداء
سلسلة أكاذيب إياد الدهماني… !
إنّ الوضع الذي تعرفهُ بلادنا لم يعد يتحمّل عمليات “البوتوكس” اللغوي أو التخفيف من حدّة الكلمات لوصفِ سلوك الناطق الرسمي بما يتعيُّ وصفهُ حقيقة، ذلك أنّه “في وجه العبيد بالعادة والغريزة، لا تنفع غير الصراحة المطلقة”، على حدّ تعبير الشاعر اللبناني أنسي الحاج. وهنا تحديدًا سُجّل إياد الدهماني “كذّابًا” في سجلّ المسؤولين عن كارثة التصنيفات الأخيرة التي سيدفعُ ثمنها في النهاية الشعبُ التونسي. وللأمانة، فإنّ سلسلة أكاذيب إياد الدهماني لم تبدأ مع التصنيفات الأخيرة، وإنّما مع خرجاته الإعلامية السابقة سواء في تغليفه الوضع الاقتصادي بالتفاؤل، قائلاً ذات تصريح أنّ الحكومة حققت أغلب الأهداف التي جاءت من أجلها أو في دفاعه المستميت عن ميزانية 2018، رغم غضب الأطراف الاجتماعية والنواب، ومن بينهم نواب الحكم، من طريقة “تصميمها” بل و”فبركتها”، وغيرها من الأحداث التي تضعُ الواقع في واد وتصريحات الدهماني في واد آخر.
أما عن آخر الأكاذيب المسجّلة على إياد الدهماني فهي تصريحاته في المؤتمر الصحفي المنعقد يوم الخميس الماضي، حين نفى أن يكون “إخلال الحكومة بواجباتها هو الذي أدى إلى إدراجها من قبل مجموعة العمل المالي ضمن قائمة الدول الأكثر عرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب”.
بل نفى الدهماني “عدم إجابة الحكومة عن 50 مراسلة تلقتها من البنك المركزي”، تماما مثل ما نفى “عدم قيام تونس بتعهد رفيع المستوى مع مجموعة العمل الدولية، مؤكّدا وجود مراسلة بتاريخ 30 أكتوبر 2017 تثبت هذا التعهّد وتلقي الحكومة مراسلة أخرى تؤكّد قبول مجموعة العمل الدولية بهذا الالتزام السياسي”.
بل إنّ هذه الأكاذيب تصلُ إلى ذروتها حين يؤكّد: “إنّ لجنة التحاليل المالية لم تراسل الحكومة لإعلامها بوجود إمكانية لتصنيف تونس ضمن قائمة البلدان المعرضة لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لكن بعد ورود معلومات تفيد بذلك، قامت الديبلوماسية التونسية بعدة تحركات مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي دون جدوى “.
وسنكتفي هنا تحديدًا بذكر مراسلتين، من جملة مراسلات لجنة التحاليل المالية، وهي منشورة في عدد من المواقع، التي تسقطُ أكاذيب الدهماني في الماء. فالمراسلة الأولى عدد 10607 بتاريخ 2 اوت 2017 ، أعلمت فيه اللجنة الحكومة أنها تلقت دعوة لحضور اجتماع مجموعة العمل المالي في أوغندا يوم 21 سبتمبر 2017 لتقييم تقدم تونس في معالجة أوجه القصور التي خلص إليها التقييم المتبادل، وكشفت اللجنة في ذات المراسلة عن وجود توجهين: إما إقرار ال Gafi بوجود تقدم أحرزته تونس وبالتالي إخراج تونس من المتابعة وإمّا ستطلب ال Gafi من تونس ألتزاما سياسيا رفيع المستوى مع وضع جدول زمني لمعالجة أوجه القصور لتفادي التبعات السلبية.
غير أنّ اللجنة لم تتلّق ردّا على مراسلتها مثلما لم تتلّق ردّا على المراسلة عدد 10738 بتاريخ 24 أكتوبر 2017 التي طالبت فيها اللجنة الحكومة بعقد مجلس وزاري ضيّق تكون من مفرزاته إلتزاما سياسيّا واضحًا حتى لا يقع تصنيف تونس كدولة ذات مخاطر عالية ولكنها لم تتلّق أيّ ردّ إيجابي أو التزام سياسي، مما اضطر كاتب عام اللجنة إلى تحمّل المسؤولية و إمضاء الالتزام شخصيا لتتفادى تونس أية إجراءات مضادة.
ممّا تقدّم يتأكّد علمُ الحكومة بإمكانية تصنيف تونس مثلما يتأكد أيضا رفضها تحمّل المسؤولية أو الالتزام السياسي بمعالجة أوجه القصور. وهذا التفصيّ الواضح من المسؤولية هو من كلّف في النهاية تونس هذا التصنيف مثلما كلّفها التصنيف السابق حين وقع إدراجها ضمن قائمة الملاذات الضريبية ومثلما كان يمكنُ أن يكلّفها حرمانا من القسط الثاني من قرض صندوق النقد الدولي.
لماذا يكذب إياد الدهماني إذا…؟
إذا كانت كلّ الدلائل تشيرُ إلى المسؤولية السياسية والأخلاقية الواضحة لحكومة يوسف الشاهد في تعفّن الأوضاع، فإنّ السؤال الحيّ الذي يطرحُ نفسه هو التالي: “لماذا يصرُّ إياد الدهماني على الكذب إذا؟”. إنّ الإجابة هنا لا تتعلّق بشخص الدهماني فقط، وإنّما تجدُ جذورها في آخر ورقة توت تسترُ بها الحكومة عوراتها وهي “محاربة الفساد”. فهذه التصنيفات وغيرها تدورُ في فلك إدانة الفساد وهي بالتالي إدانة واضحة لعجز الحكومة عن معالجة الملف. بالمقابل، فإنّ الحكومة تدينُ بتماسكها إلى الآن، إلى الحرب العبثية التي أطلقها يوسف الشاهد، وأي إقرار بمسؤوليتها في التصنيفات الأخيرة سيكونُ إقرارًابفشلها في حربها وبالتالي نزع آخر ورقة توت “انتخابية” تسترها.
وهذا ما يعيدنا آليا إلى تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر في شهر ماي 2017 الذيأشار إلى أنّ أحد أسباب غياب الإرادة السياسية يكمن في أن “جزءًا من القيادات السياسية مرتبط بشكل أو بآخر بالاحتكاريين ولذلك لا يرغبون في أن تحقق الإصلاحات نتائجها المرجوّة”.
إنّ ما يرفضُ إياد الدهماني، تقني الدعاية البدائية أن يعترف به علنًا هو الإقرار بالمسؤولية ذلك أن إقرَارًا كهذا يعني مصارحة الشعب بفشل “الحرب على فساد”، وهو ما ينسف أيّ أملٍ للحكومة في تنفيذ أجندتها الانتخابية لسنة 2019 ، بل ويسرّع في مسار سقوطها. ولكلّ هذا فقط يكذب إياد الدهماني، إنّه يكذب ويكذب ويكذب…ولكن لا أحد يصدّقه !