الشارع المغاربي: أثار المقال الصادر مؤخرا بمجلة مختصة فرنسية حول وجود آثار تلوث بعينات من زيت الزيتون التونسي البيولوجي المصدّر لفرنسا ردود فعل عديدة رسمية وإعلامية غلب عليها طابع الاستهجان لما اعتبر استهدافا غير مبرر وإساءة مقصودة لسمعة الزيت التونسي خاصة أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها هذا القطاع الاستراتيجي إلى حملات تشويه بأوروبا على غرار ما حصل منذ سنتين بايطاليا التي تستولي على أهم الموارد المتأتية من إعادة تصدير زيت الزيتون التونسي الخام بعد تصنيعه.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة يلاحظ أن التنافس في مجال الصادرات الزراعية بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبية، وتحديدا زيت الزيتون، كان من ابرز الملفات المؤثرة في مسيرة المفاوضات التي انطلقت مطلع الستينات لتنظيم العلاقات التجارية بين الجانبين مع الإشارة إلى أن تونس كانت وما تزال أول المنافسين لأوروبا في قطاع زيت الزيتون .
ولعل ذلك من أكبر التحديات التي تواجهها تونس منذ الاستقلال سنحاول التوقف عند هذه المعضلة لبيان أسبابها المتصلة بالعولمة التجارية غير العادلة وما ينجر عنها من خسائر فادحة بالنسبة لتونس مما يقتضي الخوض في سبل تدارك هذا الوضع أو الحد من آثاره السلبية.
أما التحدي الرئيسي الثاني الذي يواجه تونس، فهو تبعيتها التجارية المفرطة للسوق الأوروبية وللتكنولوجيات الأوروبية في تثمين زيت الزيتون التونسي صناعيا وتسويقه وكذلك في تجديد غابة الزيتون التونسي، وسنكشف في هذا المضمار أن أوروبا تعاملت مع تونس منذ البداية كمنافس خطير يتعين احتواؤه وحتى إلغائه من المنافسة من خلال السعي للسيطرة عل قطاع الزيتون التونسي بالشراء والاقتلاع ولكنها فشلت في ذلك.
أسباب السيطرة الأوروبية على قطاع زيت الزيتون التونسي
ليس سرّا أن زيت الزيتون التونسي، وهو من أهم الثروات الوطنية، يصدّر أساسا لأوروبا وبنسبة تصل إلى 90 بالمائة كمنتوج خام وتخسر تونس نتيجة ذلك آلاف المليارات من الموارد بالعملة الصعبة لفائدة الأطراف الخارجية الأوروبية وخاصة إيطاليا التي تستحوذ بهذه الطريقة منذ الاستقلال على جل الموارد المتأتية من إعادة تصدير هذه الثروة بعلامات تجارية إيطالية بعد إنجاز عمليات التثمين الصناعي والتعليب المكونة لما يسمى بشبكة القيمة وهي الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية التي تحتاج إلى تكنولوجيات وتقنيات صناعية متطوّرة.
ويعزى هذا الوضع المأساوي إلى أن تونس لم تستثمر، على غرار الدول الصاعدة، في بناء صناعة وطنية حديثة ومتطورة علميا وتكنولوجيا قادرة على استغلال ثرواتها الوطنية محليا أي أنها عاجزة عن تكوين القاعدة العلمية البشرية والهندسية القادرة على ابتكار وسائل الإنتاج كالمعاصر ومصانع التحويل والتعليب التي تستورد بالعملة الصعبة مما ينعكس سلبيا على الميزان التجاري وعلى سوق الشغل ، بسبب خسارة هذه الأنشطة مع الموارد المالية الضخمة المتصلة بها إضافة لخسارة الكفاءات التي تضطر للهجرة لعدم وجود مجالات العمل المتناسبة مع تكوينها علما أن هذا النزيف يتزايد باستمرار ويشمل كافة القطاعات والاختصاصات العلمية والبحثية والأكاديمية.
هذا الواقع المرير يرتبط أيضا بالخيارات الاقتصادية الخاطئة التي توختها تونس بعد تخليها مطلع السبعينات عن التخطيط الإستراتيجي كمنوال للتنمية وتحولها إلى ورشة صناعية لفائدة الصناعات الأوروبية بعد التراجع عن أولوية استثمار الثروات الوطنية من خلال تركيز أقطاب صناعة تونسية متطورة في الجهات وهو ما ساهم في استمرار سيطرة الأطراف الأوروبية على قطاعاتنا الحيوية والإبقاء على تبعية تونس التكنولوجية إزاءها.
وهكذا يتضح أن الطابع المختل للعلاقات شمال جنوب هو نتيجة حتمية للعولمة الاقتصادية غير العادلة وتحديدا عولمة شبكات القيمة واحتكار الدول الصناعية المتقدمة الأنشطة ذات القيمة المضافة والربحية العالية وتحكّمها في شبكات تصنيعها وتسويقها مع ما تجني من موارد وفرص عمل وطاقات بشرية متعلمة. وهذا ما يفسر انحصار دور تونس الاقتصادي محليا ودوليا في المناولة رخيصة الثمن لفائدة المستثمرين الأجانب وعجزها عن التحكم في مقدراتها والولوج إلى مصاف الدول المتقدمة.
والملاحظ أن قطاع زيت الزيتون هو عينة فقط من عديد القطاعات والأنشطة الاقتصادية الحيوية ذات الصلة بالثروات الوطنية كالأنشطة البترولية والطاقية، والفلاحية المعرضة للنهب المنظم والمقنن نتيجة انخرام موازين القوة الاقتصادية والتكنولوجية بين الضفتين وانخراط تونس المبكر في اتفاقيات التبادل الحر وقوانين الاستثمار غير العادلة.
اتساع نهب زيت الزيتون التونسي في ظل العولمة التجارية
تزامنا مع إتساع انخراط تونس في العولمة التجارية الذي بلغ مداه بإبرام اتفاق التبادل الصناعي مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 تم إقرار مبدأ حرية الاستثمار في جل القطاعات لفائدة الاستثمارات الخارجية وإنهاء احتكار الدولة التونسية تصدير زيت الزيتون وفتح المجال للقطاع الخاص التونسي والأجنبي للاستثمار بحرية في أنشطة التجارية الخارجية المتصلة بالثروات الوطنية.
والملاحظ أنه لم تكن لخوصصة قطاع التجارة الخارجية آثارا إيجابية إطلاقا على الميزان التجاري التونسي بل زادت في تعميق الأزمة لأنها شجّعت القطاع الخاص التونسي والأجنبي على ترك القطاعات الإنتاجية والتوجه إلى الاقتصاد الريعي القائم على أنشطة الوساطة والخدمات التجارية لفائدة الأجانب ومنها قطاع التجارة الدولية والداخلية والقطاعات الخدميّة ذات الربحية السريعة وذلك على حساب المصلحة الوطنية والتوازنات المالية الكبرى للدولة.
ولم يتغيّر الوضع بعد الثورة بل ازداد سوءا بسبب تبني قانون الاستثمار الجديد وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وفقدان تونس سيادتها المالية والنقدية فضلا عن تمسّك الحكومات المتعاقبة، تحت الضغط الغربي الأوروبي، بنفس الخيارات الاقتصادية ومضيّها في توسيع التجارة المختلة مع الاتحاد الأوروبي.
ولا شك أنه كانت للاحتكار الأوروبي شبه الكلي لمبادلاتنا التجارية وثرواتنا الوطنية تبعات خطيرة على استقلالية قرارنا وكاد يؤدي في مرحلة ما إلى نجاح المخطط الأوروبي الذي كان يهدف إلى التخلص من المنافسة التونسية في مجال زيت الزيتون.
اقتراح أوروبي بشراء غابة زيت الزيتون التونس
خلال ندوة علمية التأمت بمؤسسة التميمي للمعلومات والبحث العلمي حول أزمة القطاع الفلاحي بتونس، تم الكشف عن عرض أوروبي قدم إلى تونس – منذ انطلاق المفاوضات حول اتفاق التعاون والتجارة الحرة المبرم سنة 1976– بتقديم مساعدة مالية تعادل عشر سنوات من صابة زيت الزيتون مقابل تخليها عن هذا القطاع لفائدة الجانب الأوروبي. وقد أكد الوزير الأول السابق محمد مزالي في مذكراته أن الموضوع نوقش فعلا بمجلس الوزراء وقوبل بالرفض خاصة أن المطروح كان اقتلاع أشجار الزيتون التونسية وربما استبدالها بزراعات أوروبية .
والغريب في الأمر أن بعض الوزراء ومحافظ البنك المركزي تبنوا العرض الأوروبي مما يؤكد قوة اللوبي المساند للمصالح الأوروبية بتونس المتغلغل داخل أجهزة الدولة وفي أوساط قطاع الإعمال التونسي، وقد اتسع هذا النفوذ باستمرار منذ تلك الفترة مثلما يبينه تطور العلاقة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي قبل الثورة وبعدها.
وعلى صعيد متصل تم الكشف خلال الندوة أن الفلاحة التونسية أصبحت تابعة للخارج في توفير حاجاتها من البذور والمشاتل بنسبة كبيرة تصل إلى أكثر من تسعين في المائة مثلما هو الحال بالنسبة لبعض الزراعات، هذا فضلا عن استيراد تونس حوالي ستين في المائة من حاجياتها من الحبوب.
تداخل المصالح بين أوروبا وقطاع الاعمال التونسي والأجنبي
تجدر الإشارة إلى أن ضخامة المعاملات التجارية التونسية الأوروبية أفضت إلى تشكيل طبقة هامة من رجال الإعمال التونسيين والأوروبيين المستفيدين من هذا الوضع ولكن الإشكال أنهم لا يؤمنون إلا بمنطق الربح والخسارة ولا يعيرون أي اهتمام لتبعات هذا النوع من التعاون المختل الذي يؤدي حتما إلى إلحاق الضرر البالغ بالطرف الضعيف أي تونس التي تشكو من نزيف متواصل لمقدراتها وثرواتها المادية والبشرية التي تغادر بلا رجعة باتجاه الشمال.
وفي ظل غياب أي دور تعديلي أو اقتصادي للدولة التونسية بحكم اكراهات العولمة وشروط صندوق النقد الدولي تزداد الأوضاع خطورة وتعقيدا وأصبح المشهد الاقتصادي التونسي مثيرا للسخط والإحباط خاصة عندما يتحول الأمر إلى استهداف واستنزاف ذاتي بأياد، تدعي أنها تونسية، لقطاعاتنا ومقدراتنا الحيوية.
وعلى سبيل المثال شرعت وزارة الفلاحة في برنامج لزراعة الملايين من أشجار الزيتون المستوردة من اسبانيا والمعروفة بمردوديتها السريعة دون مراعاة المخاطر الناجمة عن حاجة هذه النوعية، بخلاف المشاتل التونسية، إلى مياه الري والحال أن تونس تشكو من حالة شح في المياه ويفترض أن تكون لها خطة لمواجهة هذه المعضلة في المدى المتوسط والبعيد، وهذا دون اعتبار مخاطر المساس بـ“الهوية البيولوجية” لزيت الزيتون التونسي.
ونفس هذا الإشكال مطروح بالنسبة لزراعة زيت اللفت التي أدخلت حديثا إلى تونس من قبل خواص مرتبطين بشريك فرنسي علما أن هذا الصنف من المنتوج يعتمد على البذور المستوردة والمعدلة جينيا المعروفة أيضا بمردوديتها السريعة وحاجتها للمياه. وقد تشكل هذه الزراعة التصديرية خطرا على الأمن الغذائي التونسي في مجال الزراعات الكبرى لما تشكله من إغراء مادي لمزارعي الحبوب التونسيين، مما قد يدفعهم إلى ترك هذا المجال الحيوي لفائدة الزراعات التصديرية التي بدأت تتحول، كما حصل في إفريقيا جنوب الصحراء، إلى تهديد حقيقي للزراعات الأساسية وللأراضي الفلاحية والموارد المائية التونسية فضلا عن مخاطرها البيئية غير المحسوبة.
وهكذا تتضح مخاطر غياب الرؤية الإستراتيجية والاستشرافية في السياسات الاقتصادية والزراعية التونسية الخاضعة لنفوذ اللوبيات الداخلية المرتبطة بالمصالح الخارجية.
هل يمكن لتونس الحد من إهدار ثروة زيت الزيتون التونسي ؟
لاشك أن تونس مدعوة للتفكير في سبل تدارك العوامل التي أدت إلى الاستغلال الأجنبي الفاحش لثرواتها الوطنية ومن بينها زيت الزيتون ، لكن هذا الأمر يتطلب توفر الإرادة السياسية اللازمة لمراجعات إستراتيجية طويلة الأمد للخيارات الاقتصادية والدبلوماسية ذات الصلة وكذلك مراجعة ترسانة القوانين والتشريعات المصاحبة لهذه السياسات الانفتاحية.
ومع ذلك يمكن الحد من هذا النزيف من خلال تعديل بعض القوانين لتحفيز المستثمرين التونسيين والأجانب على الاقبال على التثمين الصناعي المحلى لزيت الزيتون التونسي وهو ما سينعكس إيجابيا على هيكلة الاقتصاد التونسي وعلى الميزان التجاري وميزان المدفوعات وسيمكن تونس من استرجاع نسبة هامة من القيمة المضافة وما يتصل بها من فرص عمل وموارد بالعملة الصعبة.
كما يمكن لتونس العمل على تنويع أسواقها والتقليل من تبعيتها التجارية والتكنولوجية للغرب من خلال البحث عن شراكات تكنولوجية مع البلدان الصاعدة لكسر الاحتكار الغربي لزيت الزيتون التونسي. لكن الحل الأمثل يبقى في تطوير البحث العلمي وتوفير الحماية القانونية الضرورية لتحفيز الشباب ورجال الأعمال التونسيين، بالتعاون مع الدولة، على بعث جيل جديد من الصناعات الوطنية المندمجة القائمة على ابتكار تكنولوجيات محلية منافسة وأدوات إنتاج تونسية لإنجاز عمليات التثمين الصناعي للثروات الوطنية وجوبا بتونس.
——-
* سفير سابق باحث في القضايا الاستراتيجية