الشارع المغاربي: في ظل ازمة اقتصادية واجتماعية خانقة عجزت الحكومات المتعاقبة عن تجاوزها وامام الضغط المتواصل للمؤسسات المالية العالمية تصاعد في الاونة الاخيرة الخطاب حول خوصصة المؤسسات العمومية في تونس. هذه المؤسسات التي، حسب الخطاب الرسمي، اصبحت تعاني من صعوبات مالية كبرى تثقل كاهل المالية العمومية وبالتالي اصبح التفويت فيها امرا ضروريا.
ليست الدعوات الى خوصصة المؤسسات العمومية إلا استكمالا لمسار انطلق في تونس منذ اكثر من عشرين سنة وتحديدا مع دخول «برنامج الاصلاح الهيكلي» حيز التنفيذ في سنة 1986 في سياق عالمي تميز بهيمنة السياسات النيوليبرالية التي ترتكز على الحد من تدخل الدولة لصالح آليات السوق والمبادرة الخاصة. لذلك، في تونس كما في بقية بلدان الجنوب، شكلت الخوصصة أحد الركائز الرئيسية لبرامج الاصلاح الهيكلي المملاة من طرف صندوق النقد الدولي.
في هذا السياق العام شهدت عمليات الخوصصة نسقا حثيثا في تونس بداية من 1987 مسجلة الى حدود 2010 حوالي 250 عملية خوصصة بقيمة 5963 مليون دينار منها 114 عملية تفويت كلي .
وقد شمل البرنامج عدة مؤسسات في مجالات متعددة منها البنوك وشركات الاسمنت والاتصالات. في سنة 2010 تم اقرار برنامج لخوصصة عشر مؤسسات وهي : شركة الفولاذ، الشركة الوطنية لتوزيع البترول، الشركة التونسية للملاحة، الشركة التونسية لصناعة السكر، البنوك العمومية الثلاثة، الوكالة التونسية للتبغ والوقيد، الشركة التونسية للصناعات المطاطية وشركة الخطوط التونسية.
في نفس الاطار، التزمت حكومة النداء – النهضة بمواصلة برنامج إعادة هيكلة المؤسسات العمومية (رسالة النوايا الموجهة من طرف محافظ البنك المركزي ووزير المالية الى مديرة صندوق النقد الدولي بتاريخ 2 ماي 2016) ويشمل هذا البرنامج في بدايته المؤسسات الخمس الكبرى وهى: الشركة التونسية للكهرباء والغاز، الشركة التونسية لصناعات التكرير، ديوان الحبوب، الخطوط التونسية والوكالة الوطنية للتبغ. ويهدف برنامج الهيكلة إلى إعادة النظر في وظيفة «الدولة المساهمة » وهو ما يعني تحويل الدولة من مالك إلى مجرد مساهم في المنشآت العمومية إلى جانب مساهمين آخرين. كما يهدف البرنامج إلى تحديد القطاعات غير الإستراتيجية (من يحددها ؟ ) التي سيقع إقرار انسحاب الدولة منها. إذن، ما يسمى ببرنامج «إعادة هيكلة المؤسسات العمومية» ليس في حقيقة الأمر إلا الخطوة التي تسبق خوصصتها والتفويت فيها.
كلما طرحت مسالة التفويت في المؤسسات العمومية إلا وتصاعد الخطاب الذي يسعى لإيجاد كل المبررات لتمريرها. هذا الخطاب الذي يراوح بين الترهيب (الازمة، المديونية، افلاس الدولة) والترغيب (الاستثمار، التشغيل، التنمية) وان يبدو في ظاهره سليما فانه لا يخلو من الهنات والمغالطات. لذلك قبل الوقوف عند الدوافع الحقيقية لسياسات الخوصصة سنحاول كشف المغالطات التي يروج لها هذا الخطاب.
مغالطات الخطاب حول الخوصصة
يستند الخطاب حول الخوصصة الى جملة من المبررات اولها العجز المتفاقم لميزانية الدولة. لذلك يصبح التفويت في المنشآت العمومية ضروريا للضغط على عجز الميزانية وتلافي اللجوء الى التداين. إلا ان هذا التبرير يحجب العديد من المغالطات اولها ان عجز الميزانية العمومية لا يمكن ربطه آليا بالصعوبات المالية للمنشآت العمومية (ولا ايضا بكتلة الاجور او بنفقات الدعم) بل يرتبط اساسا بالتداين المجحف والتهرب الضريبي والفساد وسياسة الامتيازات والاعفاءات الجبائية التي تمنح تحت غطاء تشجيع الاستثمار. من ناحية اخرى، رغم العدد الكبير نسبيا للمؤسسات التي تمت خوصصتها فان العائدات التي قاربت 6000 مليون دينار بين الفترة 1986 و2016 لم تتجاوز نسبة 1,6 % من الموارد الجبائية و1 % من الموارد غير الجبائية و0,6 % من مجمل الموارد الذاتية للدولة ولم تغطّ لنفس الفترة سوى 6,6 % من خدمة الدين و11 % من عجز الميزانية. لهذا لم تمكن هذه العائدات لا من التحكم في عجز الميزانية العمومية ولا ايضا من الحد من المديونية التي ارتفعت نسبتها في الناتج المحلي من 57 % سنة 1986 الى اكثر من 64 % سنة 2016. ذلك ان عمليات الخوصصة ولئن مكنت في بعض السنوات من انتعاشة ظرفية فإنها حرمت ميزانية الدولة من موارد ذاتية قارة، فالمؤسسات التي تمت خوصصتها كانت، على عكس ما يروج له الخطاب الرسمي، في أغلبها مؤسسات رابحة وهنا تكمن المغالطة الثانية.
ينطلق خطاب الخوصصة (و الخطاب الليبرالي عموما) من فرضية ان المؤسسات العمومية غير مجدية وتعيش صعوبات مالية لأنها عمومية. هنا يجب اولا أن نفرق بين صنفين من المؤسسات العمومية، الصنف الأول يتمثل في المؤسسات ذات الطابع الخدماتي الاجتماعي ( المؤسسات الصحية، المؤسسات التعليمية…) التي لا يمكن التعامل معها بمنطق الربح ومن الضروري إذن أن تتحمل الدولة تكاليفها المالية. أما الصنف الثاني فيشمل المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي وهى مؤسسات يمكن ان تكون رابحة وذات جدوى
وقدرة تنافسية عالية. ذلك ان الجدوى الاقتصادية والمالية غير مرتبطة بالملكية بل بأساليب وطرق التصرف. فطرق التصرف العلمي يمكن تطبيقها في أية مؤسسة بقطع النظر عن طبيعة ملكيتها ان كانت خاصة او عمومية. وللتأكيد، فان المؤسسات التي تمت خوصصتها الى حد الان كانت في أغلبها (ان لم نقل كلها) مؤسسات رابحة. لا أحد يمكن ان يشك في الارباح الهائلة التي كانت تحققها مثلا اتصالات تونس او بنك الجنوب او شركة النقل لتوريد السيارات او شركات الاسمنت التي كانت مصنفة من بين افضل 12 شركة في العالم في صناعة الاسمنت.
ولئن كانت بعض المؤسسات تعيش صعوبات مالية فليس لأنها عمومية بل لان التسلط البيروقراطي والفساد وسوء التصرف هي التي تحكمها. على سبيل المثال، حسب معطيات البنك المركزي، في سنة 2014، بلغ عجز البنوك العمومية الثلاث حوالي 2،5 مليار دينار في حين بلغ حجم الديون المنهوبة من طرف رجال اعمال فاسدين حوالي 12،5 مليار دينار. بل اكثر من هذا فان العديد من المؤسسات يقع اليوم دفعها عمدا نحو الافلاس لتبرير خوصصتها. لذلك يمكن ان نستنتج ان الحل لا يكمن في خوصصة المؤسسات العمومية بل في مقاومة الفساد المتحكم فيها وإخضاعها إلى طرق تصرف علمية وآليات تسيير ديمقراطي من شانها أن تجعل منها مؤسسات ذات جدوى اقتصادية عالية قادرة على توفير موارد قارة لخزينة الدولة.
اما المبرر الثالث الذي يقدمه المدافعون عن الخوصصة فيتمثل في مساهمة هذه الاخيرة في دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تحسين مردودية الشركات المخوصصة والترفيع في حجم الاستثمار وخلق مواطن شغل. من المؤكد ان الاستثمار يشكل احد العوامل الرئيسية للتنمية، إلا ان الخوصصة، بما هي نقل للملكية (من العام الى الخاص) فهى فقط تحول جزءا من الاستثمار العمومي الى استثمار خاص ولا تؤدي ضرورة الى الترفيع في حجم الاستثمار الجملي. اما بخصوص المردودية (التي يوازيها البعض خطأ بالربح المالي) فمن المنطقي جدا ان ترتفع ارباح الشركات بعد خوصصتها ولكن يجب الاّ ننسى ان هذه الارباح هي ارباح فردية وان الترفيع في ارباح المؤسسات المخوصصة يمر عادة عبر الترفيع في الاسعار والضغط على الاجور والتنقيص في حجم المشتغلين. بهذا المعنى تصبح الخوصصة خوصصة للأرباح ومشركة للفقر والبطالة. حتى صندوق النقد الدولي نفسه اقر في دراسة صادرة سنة 2002 ان « الخوصصة هي احد اهم الامثلة على الاصلاحات الهيكلية التي يمكن ان تكون لها انعكاسات اجتماعية ضارة على الاقل في المدى القصير، فهي تؤدي الى فقدان مواطن الشغل وتدهور ظروف العمل».
في تونس لم تقم اية حكومة بدراسة تقييمية جدية وموضوعية حول المؤسسات التي تم التفويت فيها وانعكاسات الخوصصة على الاستثمار والتشغيل (وهو موضع تساؤل) ولكن من المعلوم ان كل عمليات الخوصصة رافقتها عمليات تسريح كبرى للعمال. في سنة 2001 قامت وزارة التنمية الاقتصادية بمسح شمل 34 مؤسسة وقع التفويت فيها وتشير المعطيات الى فقدان 16192 موطن شغل كما تشير معطيات أخرى الى ان الخوصصة ادت الى فقدان مواطن شغل بمعدل 10 آلاف سنویا بین 2002 و2004 . عموما يمكن ان نستند الى ارتفاع معدلات البطالة حتى نفهم ان الخوصصة حتى وان لم تساهم في تعميق البطالة فمن المؤكد انها لم تساهم في التخفيف من حدتها.
المبرر الأخير، وهو ذو طابع ايديولوجي، يعتبر ان تدخل الدولة معيق للنمو الاقتصادي وانه لذلك لا بد من انسحابها لفائدة آليات السوق لضمان الجدوى الاقتصادية. إلا أن التجارب التاريخية تبين عكس ما تذهب إليه النظريات الليبرالية. فالدولة (الرأسمالية) كانت دائما تدخلية ويعود ذلك إلى تناقضات عملية التراكم ذاتها التي تستدعي ذلك التدخل وما يختلف من مرحلة إلى أخرى هو شكل ومدى وأسباب التدخل الذي تمارسه الدولة في النشاط الاقتصادي والمستفيدين والمتضررين منه وابرز مثال على ذلك تدخل الدولة في اوروبا وامريكا لإنقاذ المؤسسات المالية الخاصة خلال ازمة 2008 . من ناحية أخرى، حيثما حققت بعض البلدان نجاحات كان ذلك أساسا بالاعتماد على تدخل نشيط للغاية من طرف الدولة. وينطبق هذا على البلدان التي كانت، إلى وقت قريب، تعتبر نماذج ناجحة مثل كوريا الجنوبية، تايوان، ماليزيا، تايلاند، البرازيل والمكسيك. في تونس مثلا مازالت الدولة تحتفظ بدورها، فالضغط على الأجور وتنقيح مجلة الشغل والتضييق على العمل النقابي وتفكيك المعاليم القمركية والحوافز المالية والإعفاءات الجبائية وتحرير التجارة وخوصصة المؤسسات العمومية وغيرها ليست إلا أشكالا متعددة لتدخل الدولة ولكن لمصلحة الرأسمال العالمي والكمبرادور الطفيلي.
إن قضية تدخل الدولة من عدم تدخلها قضية مغلوطة إذ لا وجود لاقتصاد (رأسمالي) بدون دولة بل ان تدخل الدولة هو احد شروط وجودها. لذلك فان النقاش يجب ان يكون حول آليات وأشكال وأهداف هذا التدخل وطابعه الاجتماعي/الطبقي اي المستفيدين منه.
الدوافع الحقيقية لسياسات الخوصصة
لا يمكن فهم سياسات الخوصصة والدوافع الحقيقية التي تقف وراءها بمعزل عن السياق العام الذي انتجها وتحديدا الازمة العميقة التي يعيشها الرأسمال العالمي منذ بداية ثمانينات القرن الماضي وما افرزته من هيمنة للسياسات النيوليبرالية وبرامج الاصلاح الهيكلي بما هي الجزء (من هذه السياسات) الموجه لبلدان الجنوب. في الواقع لم تقتصر هذه الازمة على فوائض الانتاج بل تمظهرت ايضا في ازمة تراكم وهو ما يعني انحسار مجالات الاستثمار امام الرأسمال الاحتكاري العالمي ونزعة واضحة لمعدلات الارباح نحو الانحدار. لذلك لتجاوز هذه الازمة او على الاقل للتخفيف من حدتها كان لا بد من فتح اسواق جديدة لتصريف البضائع المتكدسة وايجاد مجالات جديدة للاستثمار ومراكمة الارباح. من هذا المنطلق فقد تمحورت السياسات النيوليبرالية وبرامج الاصلاح الهيكلي المملات من طرف المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد والبنك العالمي) حول ركيزتين اساسيتين: تحرير المبادلات التجارية وتحرير الاستثمار وحركة رؤوس الاموال.
إلا ان تحرير الاستثمار وحركة رؤوس الاموال وان كان شرطا ضروريا لم يكن كافيا لفتح مجالات استثمار جديدة امام الشركات المتعددة الجنسيات. ذلك ان الازمة بطابعها العالمي لم تستثن بلدان الجنوب ذات الاقتصادات الهشة التي تضيق فيها موضوعيا امكانيات الاستثمار. لذلك لم يكن امام المؤسسات المالية من خيار سوى الاستيلاء على المجالات التي تتحكم فيها الدولة عبر خوصصة المؤسسات العمومية. اي ان الخوصصة، كأحد ركائز برامج الاصلاح الهيكلي، لم تكن كما سوق لها صندوق النقد الدولي بدافع انقاذ هذه البلدان ومساعدتها على تلافي التداين المجحف وتطوير اقتصاداتها بل تحديدا بدافع فتح مجالات جديدة امام الشركات المتعددة الجنسيات التي كانت المستفيد الرئيسي من عمليات التفويت في المؤسسات العمومية.
في تونس تفيد المعطيات الاحصائية المتوفرة ان الرأسمال الأجنبي كان المستفيد الرئيسي من عمليات الخوصصة. بين 1986 و2010 مثلت حصة الرأسمال الاجنبي حوالي 75 % من عمليات الخوصصة واذا اقتصرنا على المؤسسات التي تجاوز سعر التفويت فيها 10 ملايين دينار فان هذه النسبة ترتفع الى حوالي 95%. ويحتل الرأسمال الاوروبي مرتبة الصدارة بحوالي 43 %. على سبيل المثال حصلت شركة secil البرتغالية على مصنع الاسمنت بقابس وشركة umpor البرتغالية على اسمنت جبل الوسط وشركة unilandالاسبانية على اسمنت النفيضة كما حصلت شركة colacem الايطالية على الاسمنت الصناعي التونسي وشركة eranaxالسويسرية على شركة المرافق في الصحراء. وتجدر الاشارة هنا الى ان هذه الشركات الاجنبية تتمتع، بمقتضى قانون أفريل 1972، بحرية تحويل كامل ارباحها الى الخارج مما تسبب في مزيد استنزاف رصيد العملة الاجنبية ومزيد دفع قيمة الدينار نحو التدهور.
لئن مكنت الخوصصة من فتح مجالات جديدة للاستثمار والمضاربة فإن الرأسمال العالمي والكمبرادور الطفيلي المرتهن به لن يقبلا الاستثمار إلا بشرط ضمان الحد الأدنى من الربح عبر الضغط على كلفة الإنتاج التي تمثل الاجور أحد اهم عناصرها. لذلك تضمنت برامج الاصلاح الهيكلي جملة من الاجراءات التي تهدف الى الضغط على هذه الكلفة مثل الاعفاءات الجبائية ومنح الاستثمار والتخفيض في قيمة العملة وعلى وجه الخصوص الضغط المتواصل على الاجور في القطاع العام.
يعتبر صندوق النقد الدولي أن أجور القطاع العام تشكل مرجعية لأجور القطاع الخاص (وهى مقاربة صحيحة). هذا يعني أنه كلما ارتفعت الأجور في القطاع العام إلا وارتفعت بالضرورة الأجور في القطاع الخاص. أي، قياسا، إذا أردنا الضغط على الأجور في القطاع الخاص والمحافظة على مستوياتها المتدنية لا بد من تجميد الأجور في القطاع العام. إلا ان هذه الالية تبقى محدودة ( من وجهة نظر الرأسمال العالمي والمؤسسات المالية العالمية) فمثل هذا التجميد قد يجابه باحتجاجات من طرف الموظفين والمشتغلين في القطاع العام كما ان وظيفة الدولة «كضامن للسلم الاجتماعيي» قد تمنعها من الضغط على هذه الاجور الى الحدود التي يرتضيها الرأسمال العالمي اللاهث وراء الربح الاقصى. لذلك فان الحل الامثل يكمن في التخلص من الدور التعديلي للدولة عبر خوصصة المؤسسات العمومية.
اذا كانت الدولة عبر المؤسسات العمومية تساهم في خلق الثروة ومواطن الشغل وتؤمن جزءا من حاجات المواطنين وموارد مالية قارة للخزينة فإنها أيضا تلعب دورا تعديليا هاما في علاقة بتحديد مستويات الأجور. في تونس مثلا يشغل القطاع العام (وظيفة عمومية ومؤسسات عمومية) حوالي 850000 شخص أي ان مساهمة الدولة في التشغيل ترتفع الى حدود 22 % وهو ما يؤهلها الى لعب دور رئيسي في تحديد المستوى العام للأجور. من هذا المنطلق فان احد الاهداف الرئيسية للخوصصة يتمثل في ازاحة الدولة من دائرة التشغيل وبذلك يصبح تحديد الاجور خاضعا تماما لآلية السوق أي في الحقيقة لمصالح راس المال ومنطق الربح الاقصى. . هذا بالإضافة ان اقالة الدولة والتقليص من قدرتها التشغيلية سيعمق واقع البطالة ويخلق «جيشا احتياطيا» يتمكن من خلاله راس المال من تحويل البطالة الى آلية للضغط المتواصل على الأجور.
اما الهدف الثالث لسياسات الخوصصة فيتمثل في تفكيك الدولة وتجريدها من قدرتها على التدخل وتعميق ارتهانها باملاءات المؤسسات المالية العالمية. فقدرة الدولة على التدخل من ناحية والبقاء خارج دائرة التداين المجحف من ناحية اخرى مرتبطة بقدترتها الذاتية على تجميع الموارد. وكما اشرنا سابقا فان احد الانعكاسات المباشرة للتفويت في المؤسسات العمومية يتمثل في حرمان الدولة من موارد ذاتية قارة واذا أخذنا بعين الاعتبار الاجراءات الاخرى الواردة في وصفات الاصلاح الهيكلي مثل الاعفاءات الجبائية والتفكيك التدريجي للمعاليم الديوانية فان ذلك سيؤدي الى تراجع الموارد الذاتية للدولة ويجعلها عاجزة عن مجابهة نفقاتها. امام هذا الوضع لن تجد الدولة من حل سوى اللجوء المتزايد للتداين وو ما يعني رضوخا متزايدا لاملاءات المؤسسات المالية العالمية. من ناحية اخرى يثقل التداين كاهل الميزانية (خاصة مع تدهور قيمة العملة الوطنية وانعكاساتها على خدمة الدين) ويجبر الدولة على الضغط على نفقاتها الاقتصادية والاجتماعية مما يؤدي الى تدهور هذه الخدمات ويفتح المجال امام خوصصتها. من هنا يمكن ان نتبين ان خوصصة المؤسسات العمومية ليست إلا فاتحة لمسار سينتهي الى خوصصة الخدمات الاجتماعية وربما خوصصة الدولة في حد ذاتها.