الشارع المغاربي : صرح السيد يوسف الشاهد رئيس الحكومة يوم السبت 7 جويلية بأن “سنة 2018 سوف تكون آخر سنة صعبة في المالية العمومية“. و بقدر ما نتفهم حرص السيد رئيس الحكومة في الدفاع عن سياسته والتعبير عن تفاؤله وحرصه على التمكين من أساليب التواصل لبعث الطمأنينة في شعب أنهكه سيل المؤشرات السلبية شبه اليومية ودب فيه الخوف الشديد على مستقبل البلاد وعلى مستقبل أجيالها، بقدر ما يجب أن نؤكد من جهتنا أيضا وبكل جدية كم يسعدنا جميعا أن نرى بلادنا تتخطى أخطر أزمة ذات بعد اقتصادي واجتماعي عرفتها تونس منذ الاستقلال.
و لكن مع الأسف عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وطبيعتها الهيكلية في بلادنا بالتوازي مع واقع التدخل الخارجي الإقليمي الخطير والمكشوف الذي استباح السيادة الوطنية وفرض هيمنته في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بقرارات صادرة من البرلمان الأوروبي وعبر التسرب إلى كل مفاصل أجهزة الدولة لا يبشر بقرب الخروج من هذه الأزمة التي أصبحت ذات بعد سيادي بالأساس. و هذا ما سنحاول تبيانه للقراء الكرام ولكل المسؤولين و المعنيين بمستقبل تونس.
أحداث تسارعت تنبئ بانفجار الوضع الاجتماعي وعملية استباقية تسارع لاحتواء الوضع
في إطار برنامج ما يسمى “بالإصلاحات الكبرى” التي فرضه صندوق النقد الدولي بتدبير من بروكسيل والذي يتمحور حول ضرورة التفويت في مؤسساتنا الوطنية الإستراتيجية والضغط على الأجور ووقف الانتدابات في القطاع العمومي وبعد تململ أمام حالة الاحتقان الكبرى سارعت الحكومة منذ بداية السنة الحالية تحت ضغط الدائنين، إلى الشروع في تنفيذ ما التزمت به. نذكر من ذلك:
• الزيادة في الأداء على القيمة المضافة بنقطة وتوظيف بعض الأداءات على قطاعات حساسة مثل البعث العقاري في قانون المالية لسنة 2018.
• الترفيع في سعر المحروقات على مرتين أي بمعدل مرة في كل ثلاثي استجابة لطلب صندوق النقد الدولي و بنسبة تناهز 9 بالمائة و يترقب المزيد في ما تبقى من السنة.
• الزيادة بنسبة 10 بالمائة في سعر الطاقة بالنسبة للمؤسسات بداية من غرة ماي 2018
• الترفيع بنسبة 175 نقطة في سعر الفائدة الرئيسية على دفعتين الأولى في شهر مارس 2018 بـ75 نقطة و الثانية في شهر جوان الفارط بنسبة 100 نقطة بدعوى مقاومة التضخم المالي والحال أن هذه الزيادات سوف تؤدي إلى الزيادة في الأسعار والزيادة في نسبة التضخم.
• كما تعهدت الحكومة بوقف الانتدابات في القطاع العمومي رغم ارتفاع نسبة البطالة و ارتفاع حاجات القطاع العمومي خاصة في قطاعي التعليم والصحة.
• ارتفاع متزايد لنسبة التضخم التي بلغت مستوى 7,8 بالمائة في موفى شهر جوان الفارط مما أدى إلى مزيد الإضرار بالقدرة الشرائية للمواطن.
• انهيار متزايد في قيمة الدينار الذي تجاوز 3,13 مقابل الأورو الواحد مما أدى إلى ارتفاع نسبة “التضخم المستورد” وهو المصدر الأساسي لارتفاع التضخم في البلاد وارتفاع نسبة المديونية.
أمام هذه المؤشرات الخطيرة وفي خضم المناورات الخاصة بالصراع المتعلق بالانتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2019:
• فاجأنا رئيس الحكومة اثر زيارته لبروكسيل بتصريح أعلن فيه استعداده للتوقيع على مشروع اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل و المعمق قبل موفى سنة 2019 دون تفويض من مجلس نواب الشعب ودون أية دراسة وطنية معمقة لمعرفة مدى تأثير هذا الاتفاق غير المتكافئ على البلاد.
هذا مع التأكيد على أن كل الأطراف المتواجدة في السلطة سواء على مستوى الأحزاب الحاكمة أو على مستوى المسؤولين في أعلى هرم السلطة و كذلك العديد من بعض أحزاب المعارضة متفقة على التوقيع على هذا الاتفاق الجائر باعتباره ورقة رابحة لنيل التأييد و التزكية من الخارج.
• و قد أكد رئيس الحكومة هذا التمشي حين اجتمع بسبع سفراء دول كبرى معتمدة في تونس بدار الضيافة بقرطاج يتصدرهم سفير الولايات المتحدة و سفير الاتحاد الأوروبي و السفير الفرنسي الذي صرح اثر هذا الاجتماع أن السبعة سفراء يدعمون تجديد الثقة في رئيس الحكومة الحالي في تدخل غير مسبوق في شؤوننا الداخلية لم تعهده بلادنا في السابق مما استدعى احتجاج عديد الجهات الوطنية و في مقدمتها اتحاد الشغل.
• في خضم تسارع هذه الأحداث احتدت الأزمة السياسية المتعلقة بضرورة تغيير الحكومة برمتها من عدمه و أصبحت البلاد تعيش مواجهة شبه مباشرة بين أحزاب الأغلبية الحاكمة و بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية.
• في الأثناء أكدت المنظمة الشغيلة أنه إذا لم يُحسم أمر تغيير الحكومة برمتها عبر المفاوضات فسوف تطالب بحسم الأمر عبر التعبئة الشعبية خاصة في ما يخص التفويت في المؤسسات الوطنية الإستراتيجية
الذي تعتبره خطا أحمر و قررت تنظيم يومي احتجاج في العاشر و الثاني عشر من شهر جويلية الحالي.
غير أن يد الإرهاب كانت سباقة لتفتك بستة من أبناء تونس استشهدوا فداء للوطن يوم الثامن من جويلية …و تتمكن في نفس الوقت… من إبطال (أو تأجيل) الاحتجاجات النقابية !!
• أمام هذا الوضع الذي بات يهدد بالانفجار مثلما عبرت عنه عديد الجهات، و في خطوة لاحتواء الوضع سارع الاتحاد الأوروبي برئاسة “جوهانس هان “مفوض السياسة الأوروبية للجوار، بتجنيد كل الجهات الدائنة المتكونة من ثماني مؤسسات مالية يتصدرهم البنك الدولي و فرعه الشركة المالية العالمية (la SFI ) و صندوق النقد الدولي و البنك الإفريقي و البنك الأوروبي و البنك الأوروبي للتنمية و البنك الألماني (KFW) الذراع المالي الخارجي للتدخل الألماني و وكالة الفرنسية للتنمية (AFD) الذراع المالي الخارجي الفرنسي ليحل ممثلوها بتونس ويكون لجميعهم لقاء برئيس الحكومة يوم الخميس الفارط 12 جويلية وبرئيس الجمهورية و برئيس مجلس نواب الشعب و كذلك بممثّلي المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف.
• و قد نتج عن هذه الزيارة إعلان الدائنين بقيادة المايسترو الأوروبي عن استعدادهم لمزيد ضخ ديون جديدة لتونس مقابل الالتزام بتنفيذ ما سمي بـ“الإصلاحات الكبرى” والتوقيع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق “أليكا” مع تأكيدهم على تزكية رئيس الحكومة الحالي. هذه الإحاطة المشروطة خلقت شعورا بمؤازرة قوية لرئيس الحكومة جعلته يسارع بالإعلان أن “سنة 2018 سوف تكون آخر سنة صعبة في المالية العمومية“.
فأين حقيقة الوضع الاقتصادي التونسي مما يجري اليوم؟
لمعرفة هذه الحقيقة يجب في البداية التذكير بما جاء بقرار البرلمان الأوروبي الصادر بتاريخ 14 سبتمبر 2016 حيث ذكر في النقطة الاعتبارية الخامسة أنه:
• باعتبار أن الاقتصاد التونسي يعتمد بشكل كبير على الاستثمار الخارجي وعلى السياحة وعلى تصدير المنتوجات (يقصد إرجاع المنتوجات الأوروبية التي يتم تحويلها بدون رجوع مداخيلها إلى تونس وهي مغالطة كبرى يقوم بها البرلمان الأوروبي)، وأن الاقتصاد التونسي لا يمكن أن يتطور إذا لم تتمكن الديمقراطية من التقدم.
مما يعني أن الاتحاد الأوروبي حدد المنوال التنموي لتونس في المناولة التي تقوم بها مؤسساته في تونس وفي قطاع السياحة بالأساس و هذا لبّ المعضلة الاقتصادية في بلادنا الذي نبه إليه تقرير البنك الدولي الصادر في سنة 2014 ولم تقم أية حكومة بمراجعة هذا المنوال الفاشل مثلماا سنبينه لاحقا.
كما ذكر البرلمان الأوروبي في الفصل الثالث من نفس هذا القرار ما يلي أيضا:
• أنه بالرغم من الوضعين الاقتصادي والاجتماعي الكارثيين (بهذا اللفظ) يتطلّب التحول الديمقراطي التاريخي في تونس شراكة أكثر طموحا بين الاتحاد الأوروبي وتونس حتى تتعدى بلادنا المرحلة الحالية.
بمعنى أن المطلوب هو التوقيع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق ليشمل الفلاحة والخدمات بعدما تم القضاء على النسيج الصناعي الوطني عبر اتفاق 1995 لنجاح التحول الديمقراطي في تونس. وهكذا بكل سخافة تتحدد منهجية السياسة التنموية في البلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة.
من هذا المنطلق نتبين من خلال الجدول المتعلق بالوضع الهيكلي للاقتصاد الوطني من خلال مؤشر نسبة القيمة المضافة في القطاعات الاقتصادية بين 1998 و 2016 حسب إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء أن:
1/ نسبة القيمة المضافة في كل القطاعات كانت في حالة ركود كامل منذ سنة 1998 إلى اليوم .
2/ أن قطاع الصناعات المعملية عرف تقهقرا كبيرا حيث كان في حدد 23 بالمائة في بداية التسعينات ثم انخفض إلى 16,5 بالمائة فقط في سنة 2016. مما يثبت التصحر الصناعي التي أصبحت عليه البلاد نتيجة اتفاق الشراكة المبرم في سنة 1995 والذي دمر النسيج الصناعي الوطني وأفقده القدرة على خلق القيمة المضافة وعلى خلق مواطن شغل ذات قيمة علمية عالية.
3/ كما يثبت هذا الجدول أن قطاع السياحة لا يمثل تقريبا إلا معدل 5 بالمائة من القيمة المضافة في الناتج الإجمالي المحلي فقط مقابل 10 بالمائة لقطاع الفلاحة والصيد البحري أي الضعف والحال أن قطاع السياحة يتحصل على ضعف القروض البنكية الممنوحة بشهادة التقرير السنوي للبنك المركزي. مما يدل على سوء تصرف في اختيار الأولويات وفي صرف الإمكانات المالية في القطاعات.
4/ كما يدل هذا الجدول على أن التقهقر في خلق القيمة المضافة بمعنى خلق الثروة الوطنية انطلق منذ التسعينات بصفة مسترسلة وأن كل ما يتردد منذ سبع سنوات حول أسباب هذا التقهقر هي مغالطات كبرى لتبرير هيمنة الاتحاد الأوروبي والتغطية على منوال تنموي أظهر فشله وأصبح متكلسا.
وهذه الاستنتاجات الموضوعية تتأكد من خلال الجدول الثاني الذي يبين التطور الخطير للعجز التجاري الحقيقي في البلاد الذي ارتفع من 7,5 مليار دينار في سنة 2006 إلى 12,8 مليار دينار في سنة 2010 ثم إلى 25,2 مليار دينار في سنة 2017. وهو ما زال على نفس وتيرة الارتفاع في النصف الأول من سنة 2018 حيث فاق 13 مليار دينار.
هذا العجز الذي شمل كل القطاعات باستثناء قطاع المناجم والفسفاط يدل بوضوح على أن الاقتصاد التونسي لم يعد اقتصادا منتجا بقدر ما أصبح اقتصاد تجارة وتوريد في القطاع المنظم وفي القطاع الموازي. وهذا ما يفسر تطور نسق خلق الفضاءات التجارية الكبرى التي تستنزف رصيدنا من العملة الأجنبية.
لذلك نعتقد أن ما جاء على لسان رئيس الحكومة مجرد تسويق لا يمت إلى واقع وعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بأية صلة.