الشارع المغاربي : السيد رئيس الحكومة يوسف الشاهد… بعد تحية مواطنية تليق بمقامكم ، أود في البداية أن أشكركم على الثقة التي حبوتموني بها ذات يوم حينما عرضتم علي الاشراف على ادارة احدى مؤسسات الاعلام العمومي عن طريق مستشاركم الاعلامي وها نحن نجدد لكم الاعتذار مرة أخرى عن قبول مثل هذه المسؤوليات التي ربما قد تجدون من هو أكفأ منّا للاضطلاع بها على أحسن وجه فطريقنا اليوم في ظل هذا الظرف الصعب الذي تمر به تجربة الانتقال الديمقراطي في بلادنا وقطاع الاعلام على وجه الخصوص الذي قدرنا حاليا أن نكون فيه صحفيين قاعديين ضمن السواد الاعظم من بنات وأبناء صاحبة الجلالة هو معاكس لدروب البحث عن المصالح الذاتية والامتيازات الزائلة حتى ان صدقت النوايا لخدمة الدولة التي نحن ندين لها بالفضل لما وفرته لنا من فرصة لامتطاء المصعد الاجتماعي الذي خوّل لنا الوصول لموقعنا الحالي المتواضع.
سيدي رئيس الحكومة ، قد لا يخفى على المهتمين بالشأن العام أنيّ كنت من أشد المتحمسين لتكليفكم بمهمة رئاسة الحكومة قبل أكثر من سنتين فقد قلت يومها مثل لفيف من التونسيين أنّ الفرصة ربما قد حانت لكي يتحمّل أحد السياسيين الشبّان مهمة قيادة الجهاز التنفيذي للدولة كسرا لتقاليد وعقليات متخلفة كثيرا ما كانت تقتل فينا روح الابداع والاندفاع نحوالاصلاح والتغيير وتأسيسا أيضا لديناميكية يمكن أن تساهم في خلق جيل جديد من الشباب المتمرس بالسياسة والقادر على تحويل الحلم إلى حقيقة والشعارات إلى واقع.
وقتئذ كنت أزعم أنّ الروح التحرّرية للثورة وآفاقها الديمقراطية التي أتاحت لي فرصة رئاسة تحرير مؤسسة اعلامية في عمر لم أتجاوز فيه 26 سنة فضلا عن خوض غمار تجربة انتخابات عضوية المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والظفر بثقة مئات المنخرطين من فارسات وفرسان السلطة الرابعة وسنّي لم يتعد الـ28 عاما عن طريق شرعية صندوق الاقتراع ، يمكن أن تفرز قيادة سياسية شابة تكون وفيّة لدماء الشهداء ونضالات آلاف المناضلين في زمن الاستبداد السياسي الذي اغتصب حريّة التعبير والاعلام ومن هناك انطلقت قصّة اغتيال الامل في بناء ديمقراطية استثنائية في فضاء جغرافي عرف تاريخيا بموروثه الثقافي المعادي للحقوق والحريات. ولكني اليوم أصبحت أشكّ في مدى امكانية تحقّق ذلك فالطريق إلى الأنظمة السلطوية حبلى بالنوايا الحسنة وأرجو ألا يأتي اليوم الذي أعتذر فيه عن حماقة ما قد أكون ارتكبتها تحت سحر وهم خدّاع.
ألم يقل الفيلسوف ديكارت يوم اجترح الكوجيتو الوجودي الشهير أنّ في الشكّ طريقا لليقين؟ سيدي رئيس الحكومة، ربما أنتم الان تتساءلون عن ماهية وخلفيات هذه المقدمة التأطيرية التي أرى أنّها ضرورية. فما يهمني شخصيا وبشكل مباشر ليس الجدل حول حصيلة حكومتكم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي والدعوات الموجهة لكم للاستقالة فأنا سأترك لأهل الذكر في هذا المجال ولزملائكم من السياسيين الهواة منهم والمحترفين حرية التقييم والاختلاف عبر الادلاء بدلوهم في قضيّة الحال رغم أنّي بصفتي المواطنية لي رأي في هذا الشأن وان كان للشعب في نهاية الامر الكلمة الفصل في الحكم والاختيار
إنّ شغلي الشاغل اليوم هو الوضعية التي آل اليها مناخ حرية التعبير ولاسيما حالة قطاع الاعلامي برافديه العمومي والخاص في الفترة الاخيرة. هنا بالذات يكمن جزء من الحلّ لازمة البلاد والذي انقلب إلى مشكل عويص وخطير على مستقبل التجربة الديمقراطية الناشئة في بلادنا.
سيدي رئيس الحكومة، أعلم أنّه من حقّكم البحث عن تكوين حزام اعلامي للتسويق لرؤيتكم بخصوص اصلاح أوضاع البلاد والعباد وهذا مشروع في الأنظمة الديمقراطية ولكن على ما يبدو أنّ انحرافات عديدة قد سجلت خلال فترة حكمكم نتاجا لا فقط للأزمة السياسية بل أيضا بسبب سياسة حكومتكم في المجال الاعلامي الذي اختلط فيه الحابل بالنابل بدرجة كبيرة انتهكت فيها أخلاقيات المهنة وميثاق الشرف الصحفي من الموالين لكم قبل معارضيكم
من العار علينا اليوم أن يكون هناك قائمات لشخصيات ممنوعة من الاستضافة في وسائل اعلام عمومية وخاصة محسوبة عليكم بالنظر لمواقفها المعارضة لحكومتكم
كما أنّه من المخزي أن يتم اتهامكم بشراء ذمم منتمين للقطاع -وأنا أنزهكم وأنزه غالبية الزميلات والزملاء- عبر استغلال «الخزينة السوداء « وتمويلات مشبوهة محليّة وأجنبية. كم وددت أن تضع حدّا لهذا النزيف والتبرؤ من ممارسات تؤشر على العودة بنا إلى نقطة البداية يوم كانت وكالة الاتصال الخارجي ونظام الرئيس الأسبق بن علي يستبيحان القطاع من أجل صناعة مجد سياسي الجميع يعلم مآلاته وحجم الفساد الذي أفرزه ونحن إلى اليوم مازلنا نعاني من ارثه المقزّر.
سيدي رئيس الحكومة، يوم خطاب منح الثقة في البرلمان وفي أكثر من تصريح اعلامي كنتم قد وعدتم باحترام حرية الاعلام والصحافة وبالسعي من أجل تعزيزها ففي ذلك استثمار في الديمقراطية والتربية والتثقيف وحتى ان وجدت بعض الاخلالات والتجاوزات فلابد من التحلي برحابة الصدر وتجنب ردود الفعل القمعية والزجرية.
بيد أنّه بعد سنتين ونيف من توليكم مهام رئاسة الحكومة فإنّ لا شيء تقريبا تغيّر في علاقة بمسار اصلاح الاعلام العمومي الذي أصبح أكثر من أي وقت مضى سجنا مقيّدا للكفاءات والطاقات الباحثة عن منافذ لتكريس مرفق عام ينتصر لقضايا الشعب الحارقة وينير درب الساسة.
إنّ الاخطر من تدجين هذا الصنف من الاعلام عبر تعيينات تقوم على الولاء لا الكفاءة وعن طريق آليات الضغط والابتزاز لكبار المشرفين على المرفق الاعلامي العمومي هو التدخل السياسوي لتوجيه المضامين بمقاربة عبثية ستعود بنا حتما إلى بوتقة الاعلام الحكومي الدعائي الذي تغيب عنه الروح النقدية ووالاستقلالية الحقيقية.
سيدي رئيس الحكومة، تعلمون جيدا أنّ وضع الاعلام الخاص والمصادر أدهى وأمر ففيه تمرر أجندات المال السياسي الفاسد وقد وعدتم بأن تلتزم الدولة بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية بدعم هذا الصنف من خلال تنظيم عملية الاشهار وقيس الجمهور والحرص على تعزيز دور الهياكل الرقابية والتعديلية باعتبارها الضامن الشرعي للشفافية والتعددية وتفعيل أخلاقيات الصحافة الحرّة والنزيهة التي تتنوع فيها الرؤى التحريرية لكن هناك حدود دنيا متعارف عليها تتعلق بالمعايير المهنية.
غير أنّه إلى حدّ الان معظم وعودك ظلّت حبرا على ورق وفي بعض الحالات تحولت إلى أوراق للمناورة والضغط والاستمالة. من المهم أيضا الاشارة إلى أنه لم يعد من المقبول تواصل سياسة تفقير القطاع والعاملين فيه الذين كانوا منذ 2011 في مقدمة المدافعين عن المسار الديمقراطي من خلال رعاية النقاشات في الفضاء العام فلم يدخروا أي جهد في نقل الاخبار وفسح المجال لمختلف الفاعلين في الحياة السياسية لايصال أفكارهم وبرامجهم لعموم المواطنين والناخبين وهم إلى اليوم مازالوا بصدد انتظار قرارات جريئة من الدولة من شأنها أن توفر لهم ظروفا اجتماعية واقتصادية أفضل.
سيدي رئيس الحكومة، ليس غرضي من هذه الرسالة ارتداء جلباب الواعظ أوالناصح بل ان هدفي الأول والاخير هو اشعاركم بخطورة الوضع الذي أضحى عليه قطاع الاعلام في تونس بسبب ما يقوم البعض من عناصر بطانتك في القصبة من افساد وتخريب للحياة الاعلامية التي يفترض أن تتجه صوب الدمقرطة وتعزيز الحريات وصون الأخلاقيات وتحقيق مكاسب للقطاع دون المسّ من استقلاليته وحياده عن الصراعات الضيقة،طالما أن المصلحة الوطنية هي الاهم والاجدى نفعا للدولة والمجتمع على حد السواء. ان الاعلام هو من أهم الوسائط التي يمكن من خلالها تحصين المسار الديمقراطي وبناء انسان تونسي جديد على قاعدة المواطنة الراشدة يحترم واجباته الفردية والوطنية ويسعى للالتزام بها قبل مطالبته بحقوقه.
فهذا القطاع هو الاكثر تأثيرا لدى الناشئة وعموم الجماهير وهو فضاء للتعليم والتعلّم لا يقلّ أهمية عن مدرسة الجمهورية والجامعة العمومية التي أفرزت خيرة كفاءات البلاد. لكنه في المقابل سلاح ذو حدين ومثلما اليوم في جزء وازن فيه يزيّن لكم الواقع ويتحمس لتشويه خصومكم ومنتقديكم عبر بث الاكاذيب والاشاعات واقصاء المعارضين فهو حتما قد ينقلب عليكم بين عشيّة وضحاها حالما يسحب منكم بساط السلطة التي هي كما تعرفون فانية وقديما قالوا: لو دامت لغيرك لما آلت اليك.
سيدي رئيس الحكومة،في ختام هذه الرسالة التي أتمنى أن لا تكون صرخة في واد غير ذي زرع أرجو أن تعدّلوا بوصلتكم في علاقة بسياسة حكومتك تجاه قطاع الاعلام وأن تكونوا عنوانا للسياسي الديمقراطي ورجل الدولة الذي يفكر في مصلحة الاجيال المقبلة لا في الانتخابات القادمة فالتاريخ المشرف يصنعه فقط المسؤول المستنير الذي يصغي للأصوات الناقدة قبل المتملقة التي تبحث عن مصالحها الذاتية وتنساق لاغواءات نرجسياتها الفجة التي لا ترى من مكاسب في الشأن العام غير الغنائم الشخصية
إن الحقيقة وحدها ثورية والواقع الموضوعي يؤكد أنّ الاعلام الوطني اليوم يمرّ بمفترق طرق وأنّ حرية الصحافة تختنق ولكنّ طريق التدارك والاصلاح مازالت متاحة رغم كل الشوائب والفرص المهدورة وقد قال وقت ما عمر بن الخطاب الذي سبق ان استشهدت به:» رحم الله اِمرَأ أهداني عيوبي». أخيرا وليس آخرا،
وفقكم الله لما فيه الخير لتونس الحبيبة.
محمد اليوسفي عضو المكتب التنفيذي بنقابة الصحفيين المكلف بالحريات.
صدر بالعدد الأخير من اسبوعية الشارع المغاربي بتاريخ 18 سبتمبر 2018.