الشارع المغاربي- القسم الثقافي:
لا يمكن تنزيل اللقاء الذي جمع هند الزيادي بالقراء والمبدعين والروائيين كأوّل نشاط رسميّ لبيت الرواية إلا من حيث التحقيب الزمني لهذه السنة الثقافية الجديدة، إذ سبقته في الموسم الفارط جملة من اللقاءات مع العديد من الروائيين، من حسنين بن عمو وعبد الواحد براهم إلى شادية القاسمي ومحمد عيسى المدب، ومنهم إلى شكري المبخوت ولطفي الشابي، حيث تمّ تسليط الضوء على مساراتهم الابداعية وتجاربهم الروائية، مثلما تمّ النظر في اشكالات وموضوعات متعدّدة ومختلفة تناولوها بالتسريد والكتابة بعد أن كانت تعدّ قضايا اجتماعية وسياسية وتاريخية محض.
لقد حاول بيت الرواية كسر الصمت المحيط بالتجارب الروائية التونسية، وتلك إحدى مهمّاته التي يسعى من خلالها إلى التعريف بالرواية التونسية، لكن هل ثمّة في هذه التجارب من كتبت المسكوت عنه في صلب مجتمعنا وقوّضت هالة الصمت المحدّقة به؟ أين يمكن موضعة دلالة هذه العبارة اللغوية؟ ما مصدرها وما هي مظاهرها ومجالاتها؟ ما هي الأجهزة المفهومية التي تتحرّك من خلالها؟ هل يأتي صمتنا نتيجة للخوف من تقويض العادات والقيم ومواجهة السلطة وعدم القدرة على ابتكار المستقبل؟ وهل تعني مواجهة المسكوت عنه ضربا من ضروب الإقامة التفكيكية في مناخات الممنوع؟ ما هي أهمّ الظواهر والقضايا الحارقة التي نتجنّب الخوض فيها ونحن نعيش سياقات اجتماعية وسياسية ودينية أقلّ ما يقال عنها إنها مرعبة فعلا؟ كيف ساهمت هذه المنعطفات في تعددّ أشكال العنف والجرائم من الأفيون إلى الإغتصاب ومنهما إلى زنا المحارم والمحارق الأسريّة؟
حين يتخلّى علماء الاجتماع وغيرهم عن تفسير هذه الظواهر، وحين يجبر الناس على الصمت كي لا تتمّ اثارة هذه القضايا خوفا من الفضيحة التي قد تلحق بهم، يأتي دور الفنّ بوصفه مطرقة تخلخل الثابت واليقين، وتعرّي الحقيقة الراكدة والمحجوبة، وتكشف لنا عن أدران المجتمع وعالمه السفلي المحفوف بمستنقعات الهمجيين وطوابير الضحايا الذين تمّ الجامهم ومنعهم من الكلام: المسكوت عنه هو الصمت إزاء شيء مّا، مخيف، ومرعب، ويجب أن يظلّ غامضا ومقنّعا، وهو نتيجة لسلطة عنيفة، والأكثر عنفا منها هو امكانية ولادة سلطة ثانية في حالة مواجهة الأولى.
ضمن هذا السياق، ساهم بيت الرواية وكل من حضر في اللقاء في كسر الصمت عن رواية الصمت بما هي رواية من مهمّاتها كتابة المسكوت عنه، وذلك من خلال التعرّف على تجربة هند الزيادي الروائية ومساراتها وسيرة دخولها أحراش الكتابة، وفتح النقاش حول ما تطرّقت إليه من موضوعات حارقة في روايتها الصمت. هند الزيادي روائية وسيناريست وناقدة سينمائية ، متحصلة على الاجازة في الأدب العربي وعلى الماجستير في الفنون المرئية، أصيلة تاكلسة من ولاية نابل، حائزة على جائزة دار سيراس للقصة القصيرة سنة 1996، وأصدرت روايتها الصمت سنة 2008، وروايتها لافيات سنة 2016، ولها مجموعة غرفة الأكاذيب ورواية ممرّ آمن.
قدّم اللقاء حاتم التليلي محمودي بعد الكلمة التي ألقاها محمّد حباشة مرحبا بالضيوف، ومن ثمّة تمّ التطرّق إلى عدّة محاور، أوّلها التجربة الروائية والكتابية لهند الزيادي التي تحدّثت بالقول: “إن الأكثر طرافة في علاقتي بالكتابة والحكي هو مسألة ترتيبي في أسرتي وسط إخوتي حفظهم الله جميعا.كنت البنت الوسطى.فلا انا البكر فيسمع صوتي ويُعتدّ برأيي، ولا أنا الصّغرى فاكون محط اهتمام الجميع ودلالهم وكنت دوما البنت الهادئة التي تمسك بكتاب منتبذة من البيت ركنا قصيّا بينما تضج الجماعة بالحديث والضحكات.لذلك كانت الكتابة فيما بعد هي صوتي لأعلن عن وجودي . والقلم هو بطاقة تعريفي وهويّتي وسط عائلتي. ويبدو أن مؤلفاتي هي الرّد على سنوات صمتي تلك”، وثانيها مسألة المسكوت عنه في الكتابة وخاصة مع روايتها الصمت، إذ صرحت بالقول ” في رأيي المتواضع منذ اخترعت الإنسانية الحمقاء مجموعة تابوهاتها وهي لا تكفّ عن انتهاكها. وكانت هذه التابوهات دوما مقترنة بالمقدرة المطلقة وبمن بيده المقاليد كلها لذلك يسهل للبعض تصنيف هذا المسكوت عنه إلى ديني وسياسي وجنسي ولكني أعتقد أن الأمر أكثر تعقيدا من هذا. فبامتداد العالم والتاريخ و”تطور” الإنسانية، تعقّدت الحياة أكثر وصار كل المختلف والمخالف “تابوها” مسكوتا عنه قائما بذاته”، وثالثها النقاش الدائر مع الجمهور، إذ تمّ التطرّق إلى العديد من المسائل، منها ماهيّة المسكوت عنه وكيف يمكن ترجمته كتابيا، ومنها مجالات المسكوت عنه ذاته، وما إذا كان متعلقا بذهنية التحريم الدينية، أما بما هو سلطوي سياسي، أم متعلق بالرعب من الافصاح عن وضعيات اجتماعية قائمة على الفضيحة والعنف كاغتصاب الأب لابنته وغير ذلك.
امتدّت فترة اللقاء لساعة ونصف بين التقديم والاستماع لشهادة هند الزيادي والنقاش الدائر بين مختلف الحضور، لتؤكد هذه الروائية التي اسقبلها بيت الرواية حول مسألة المسكوت عنه بالقول إنّ الفنّ وحده من يخترق المسكوت عنه، والابداع وحده من يحرّر الانسانية، والرواية وحدها يمكن أن تقول ما لا يجب أن يقال.