الشارع المغاربي : لم يكن أحد حتّى من أشدّ غلاة المتشائمين أو العدميين في علاقة بمستقبل مسار اصلاح الاعلام بعيد حدث 14 جانفي 2011 يتوقع المآلات والوضع الراهن الذي وصل اليه القطاع.لقد كانت الثورة لحظة فارقة ومنعطفا حاسما في تاريخ الاعلام التونسي الذي تخلّص وقتها من كلاكل وكالة الاتصال الخارجي سيئة الذكر بعد حلّها فضلا عن تحرّره من ربقة وزارة الاتصال اليد الطولى للنظام الاستبدادي الذي نجح من خلالها في تدجين القطاع وافساده وفرض الوصاية عليه خدمة لأجندات الحزب الواحد والزعيم الاوحد.
فعلى امتداد فترة حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي عاش الاعلام تحت وطأة “دولنة” القطاع وفق تعبير الباحث العربي شويخة في كتابه “وسائل الاعلام في تونس: التحوّل الصعب” ما جعل منه أداة للتضليل والدعاية الفجّة وتزييف الحقائق والنكوص الفكري والمجتمعي فكانت البلاد تئن بسبب احتضار السياسة وضرب أبسط مقومات المواطنة من حقوق وحريات واقصاء لكلّ نفس منتقد أو معارض للنظام الحاكم الذي زجّ بالمجتمع في سجن كبير وصادر الفضاء العمومي.
غير أنّ الثورة حرّرت الأقلام ورفعت الحظر عن جميع الاراء والافكار والاصوات والاحزاب والتنظيمات بما في ذلك المتطرفة والدغمائية ايذانا بظهور حقبة جديدة دخلت غمارها البلاد في معترك تجربة انتقال ديمقراطي كان من البديهي أن يرافقه انتقال اعلامي يقوم على الاصلاح والنقد الذاتي واعادة التنظيم والتعديل من أجل التأسيس لمنظومة اعلامية ديمقراطية وفق متطلبات المرحلة التي عادة ما يكون فيها الاعلام حسب التجارب المقارنة أحد أهم المرتكزات والمفاتيح لترسيخ البنيان الديمقراطي المنشود وذلك باعتباره حجر الزاوية في المجال العمومي الذي يدار فيه التنافس والتدافع حول قضايا الشأن العام ومؤسسات الحكم ومراكز السلطات السياسية.
اليوم وفي خضم التعثرات والمخاطر الوخيمة التي باتت تتهدّد تجربة الانتقال الديمقراطي في بلادنا ومانتج عن ذلك من تمظهرات متعقلة بتتالي الازمات السياسية وضبابية الافق والذي يشي ببوادر تعطلّ يكتنف المسار برمته، يطرح هذا الوضع على المحك أسئلة ملحة وعاجلة حول دور الاعلام ضمن سيرورة المنعطف التاريخي الراهن. فهل يمكن الجزم بفشل مسار اصلاح الاعلام الذي يكاد يتحوّل إلى مجرد شعارات شعبوية جوفاء ؟وإلى أي حدّ يمكن اعتبار أنّ الاعلام قد ساهم في افساد الحياة الديمقراطية الناشئة؟ ولماذا لم تتحقق بعد شروط الصحافة الحرّة في تونس؟ وهل يمكن النظر بعين الارتياح لحصيلة تجربة انتقال الاعلام من قبضة النظام السلطوي إلى سطوة وهيمنة لوبيات المال والسياسة والاجندات الاقليمية والدولية اذا ما توقفنا عند المسألة بالتمعن والتدبر من منظور المسؤولية الاجتماعية والوطنية؟
*في أسباب انتكاسة مسار اصلاح الاعلام
لا مناص في مقدمة هذا التحليل الذي ينطلق من قراءة تأريخية ومعطيات مستقاة من داخل المنظومة الاعلامية الحالية من التذكير بأنّ وسائل الاعلام التي عادة ما يكون لها صدى وتأثير على توجهات الرأي العام والسياسات العمومية للدولة ومواقف التنظيمات الحزبية في مختلف المجالات والقطاعات يفترض نظريا أن تكون من بين أبرز وأهم روافد وأدوات تدعيم الانتقال الديمقراطي بالتوازي مع دور النخب من أحزاب سياسية ومجتمع مدني وكذا المؤسسات الدستورية والمستقلة التي قال عنها رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي بأسلوب ينطوي على نبرة ازدرائية غير ديمقراطية “العزري أقوى من سيدو ” في احدى حوارته الصحفية علاوة عن بقية الاجهزة التي تساهم في تشكل الوعي الايديولوجي من قبيل الفضاءات التربوية والجامعات ومراكز البحوث وقطاع الثقافة.
لقد خلقت مناخات الحرية الفجئية والمطلقة غداة الثورة انفجارا اعلاميا وحالة ارتباك داخل الجسم الصحفي حتّم على أهل القطاع والفاعلين السياسيين ضرورة البحث عن آليات لضمان دمقراطة الحياة الاعلامية وتنظيم السلطة الرابعة لكي لا تكون نتائج الانفراج عكسية فتتحوّل إلى فوضى عارمة ما أنزل بها الله من سلطان.
هذا التحدي جاء وليدا لتسارع الاحداث التي فرضت سعيا وقتها لمأسسة مسار اصلاح الاعلام من خلال احداث لجنة فرعية في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كان يترأسها عياض بن عاشور بالاضافة إلى تكوين هيئة وطنية لاصلاح الاعلام والاتصال برئاسة الصحفي كمال العبيدي الذي عاش لسنوات بعيدا عن بلاده لأسباب سياسية تتعلق بنشاطه الاعلامي والحقوقي المعارض لنظام حكم بن علي. كما تمّ أيضا اصدار تشريعات اعتبرت ثورية وتحررية بشكل غير مسبوق وهي تتمثل أساسا في المرسومين 115 و 116 المنظمين للحريات الصحفية والاعلام والاتصال السمعي البصري بعد الغاء مجلة الصحافة التي وظفت منذ صدورها في 1975 كعصا غليظة لضرب القطاع وتحجيم دوره من خلال ما تضمنته من فصول زجرية.
بيد أنّ بدايات تشكلّ هذا المسار في مرحلته الجنينية اتسمت بالتسرّع وباعتماد مقاربة فوقية أحادية اذ أنّ عملية اصلاح الاعلام لم تصاحبها نقاشات مستفيضة وانفتاح واسع على مختلف الاطراف المعنية. لقد كان الصحفيون الحلقة الاضعف والاكثر تهميشا في مسار اعادة بناء منظومة اعلامية جديدة على أنقاض موروث حقبة الاستبداد والفساد. كما أنّ اسقاط تجارب أخرى أجنبية على الحالة التونسية دون مراعاة الخصوصية المحليّة زاد في تعميق بذور المشكل.
إنّ من أهم الملاحظات التي وجب الوقوف عندها هي دور من يسمون بالخبراء الذين أشرفوا وساهموا في ولادة عملية الاصلاح فالعديد منهم ينتمون لفئة الأكاديميين رغم قيمتهم العلمية والمعرفية النظرية فإنّ معظمهم لم يمارسوا البتة العمل الصحفي اليومي الميداني على أرض الواقع وهو ما يجعلهم قاصرين عن فهم كنه طبيعة الرهانات والتحديات والمطبات من الداخل.
لم يكن اذن من السهل معالجة تركة عقود من التخريب الذي طال القطاع الاعلامي بوصفة جاهزة أو بحلول فوقية مسقطة اقتداء بتجارب أخرى في أعرق الديمقراطيات الغربية.
هذا طبعا لا ينفي الحاجة لأن تكون التجربة التونسية في اصلاح الاعلام قائمة على الاستئناس بالمعايير المهنية الكونية في التنظيم والتعديل الذاتي وفي مستوى فلسفة التشريعات التحررية وأخلاقيات المهنة ومواثيق التحرير ومدونات السلوك.
لكن في تقديرنا ليست هذه الاسباب الرئيسية لانتكاسة مسار اصلاح الاعلام في تونس بل إنّ طبيعة المتغيرات السياسية التي عرفتها البلاد بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وصعود أحزاب الترويكا وفي مقدمتها حركة النهضة إلى الحكم وحالة الاستقطاب الايديولوجي الذي أفرزته جعلت الاعلام الوطني إزاء واقع جديد كمن يمشي على رمال متحركة.
فخلال فترة حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض والانقسام الذي شهده المجتمع بعموم نخبه ومواطنيه والفاعلين السياسيين ولوبيات المال والأعمال ظاهريا على الاقل في علاقة بالنمط المجتمعي ومدنية الدولة وقضيّة الهوية التي تجلت في التجاذبات حول الدستور،لعب الاعلام الذي كان في معظمه موروثا عن العهد السابق دورا سياسيا بامتياز برز خاصة في الاصطفافات والاضرابات النقابية لهياكل المهنة ولاسيما النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي كانت تتوجس خيفة من محاولات الهيمنة على وسائل الاعلام وهو ما جعلها تدخل في معارك كسر عظم مع الترويكا ذات صبغة سياسية بالأساس.
من المهم الاشارة إلى أنّ منظومة حكم الترويكا قد حاولت بشتى الاساليب مجابهة الجبهة المعارضة لها من خلال بعث وسائل اعلامية مقربة منها تحت غطاء شعار الاعلام البديل الذي بدا هجينا عن الواقع التونسي وهو ما أفضى إلى فشل مختلف هذه المحاولات.
لقد ساهم هذا المناخ الذي كان يقوم على استقطاب ايديولوجي غابت عنه في الكثير من الوضعيات الروح الموضوعية والعقلانية في بروز صراعات جانبية من قبيل التلويح بنشر قائمة للتشهير بالصحفيين الذين تعاونوا مع نظام بن علي علاوة عن تسريب الكتاب الاسود الذي أعدته مؤسسة رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس محمد منصف المرزوقي وما صاحبه من جدل واتهامات متبادلة وكذلك القيام بتعيينات في الاعلام لاسيما العمومي والمصادر على قاعدة الولاء السياسوي لا الكفاءة في كثيرمن الحالات ودون مراعاة لمبدإ الديمقراطية التشاركية عبر التشاور والحوار.
لا شكّ في أنّ ارادة هيمنة الترويكا على الاعلام وسقوطها في فخّ توسيع جبهة الاعداء رغبة في الانتقام والتشفي أو الترويض والاستمالة فسحت المجال أمام تسرّب من كانوا بالامس القريب دهاقنة منظومة التضليل وقمع الحريات الصحفية في العهد النوفمبري حيث اكتسبوا مشروعية “النضال” ضدّ مشروع الاسلام السياسي المعادي لثوابت الدولة الوطنية.
إنّ هذه الفترة التاريخية من عمر تجربة الانتقال الديمقراطية كانت محدّدة في وقت لاحق لملامح المشهد الاعلامي لما بعد انتخابات 2014.
ربّما قد يتساءل البعض عن حجج أخرى يمكن من خلالها فعلا الجزم بحقيقة تعثّر مسار اصلاح الاعلام في الذي تعطّل خلال عهد حكم الترويكا رغم المجهودات التي ظلت تقوم بها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على وجه الخصوص منذ احداثها في سنة 2013.
من الواضح اليوم أنّ منسوب الثقة في الاعلام الوطني من قبل المواطنين قد تراجع في السنوات الاخيرة ولا أدلّ على ذلك ما نعاينه من مواقف وردود فعل في الشارع وفي صفحات التواصل الاجتماعي وخاصة من خلال عمليات سبر الاراء.
حصل كلّ هذا بعد بوادر مصالحة هجر من خلالها المواطن التونسي المتابع للشأن العام وسائل الاعلام الأجنبية التي كانت ملاذا له خلال أواخر عهد الرئيس بن علي والتي كانت تسلط الضوء على الاوضاع في تونس بمهامش كبير من الحرية والموضوعية رغم المآرب التوظيفية لبعض القنوات التلفزية العربية خصوصا التي فضح مسار الانتقال الديمقراطي أجنداتها الداعمة لأطراف بعينها مثل قناة الجزيرة القطرية.
*التعددية الشكلانية ومخاطر اللبننة
أفضت نتائج انتخابات 2014 إلى تشكلّ مشهد جديد مختلف عمّا عاشته البلاد خلال فترة كتابة الدستور وحكم الترويكا.
لقد مثّل صعود حركة نداء تونس إلى الحكم إلى السلطة والتي يمكن اعتبارها حزب الدولة العميقة بكلّ ما تحمله الكلمة من معان تحيلنا على موروث منظومة الحكم الاستبدادي في تفاعلاتها مع الاعلام والثقافة السياسية غير المتشبعة بالمبادئ الديمقراطية وما تفترضه من هامش كبير لدعم الحريات الصحفية واستقلالية الوسائل الاعلامية منعطفا آخر في مسار اصلاح الاعلام الذي أضحى تقريبا مجرد شعار فضفاض يتلخص في بعض الندوات الحكومية والبرلمانية الفلكلورية والخطاب الرسمي المتعارض مع الممارسات على أرض الواقع.
بدا من الواضح تراجع منسوب الجرأة الاعلامية في البرامج الحوارية السياسية وقد تقلصت فجأة الحصص المخصصة للكوميديا الساخرة النقدية في علاقة بقضايا الشأن العام واختفت بعض الوجوه التي لم يعد مرغوبا في حضورها في الاذاعات والقنوات التلفزية بعد أن كان تؤثث المشهد الصدامي مع أحزاب الترويكا ولاسيما حركة النهضة والرئيس المرزوقي.كما أنّ معظم الحوارات المتلفزة لرئيسي الحكومة والجمهورية كانت مسجلة وعمليات المونتاج التي تمت لها لا مراء فيها وهي تكاد تكون مساحات خطابية دعائية مفتوحة أقرب منها إلى المقابلات التلفزية الجدية والمهنية القائمة على فكرة المواجهة الموضوعية بين سلطتين حقيقيتين.
هكذا تحوّل المشهد الاعلامي إلى واقع ملموس يقوم على تعدّدية شكلانية وتنوّع ما انفك يتراجع تحت ضغط سوق الاشهار والعوامل التجارية التي تحركها مصالح وأجندات أصحاب كبار المؤسسات الاقتصادية ورؤساء مكاتب سبر الاراء التي تعدّ هي الاخرى معضلة كبرى لا تقلّ خطورة على مستقبل الحريات الصحفية.
كان هذا الوضع عنوانا لحقيقة بادية للعيان مؤداها أنّ شروط الصحافة الحرّة لم تتحققّ بعد في تونس رغم مرور زهاء 8 سنوات عن الثورة خاصة مع تعاظم خطر الاحتكار الاعلامي بارادة سياسية واضحة.
لقد وصل الاعلام إلى منزلق التعددية الشكلانية والحال أن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري تفيد في موقعها الرسمي على الانترنات بوجود 10 قنوات تلفزية متحصلة على التأشيرة القانونية بالاضافة إلى 19 إذاعة مرخص لها و 9 قنوات اذاعية جمعياتية.هذا دون احتساب قناة الزيتونة -المحسوبة على حركة النهضة- غير المرحض لها واذاعة القرآن الكريم مثلا التي تبث خارج اطار القانون.
اليوم لم تعد السلطة السياسية لوحدها تمثل خطرا على حرية الاعلام بل أيضا قوى الضغط المالي من مستشهرين وممولين لوسائل الاعلام ومؤسسات سبر الاراء الخاصة التي تحكمها شريعة الغاب دون حسيب أو رقيب في ظلّ غياب نصّ تشريعي ينظم هذا القطاع في اطار من الشفافية والاستقلالية والمقاييس العلمية الموضوعية.
لكن الخطر الاكبر يمكن في تقديرنا في انزلاق المشهد الاعلامي شيئا فشيئا نحو اللبننة،فبعض القنوات التلفزية تحولت إلى مزارع خاصة لخدمة أجندات غير مهنية مفضوحة شخصية وسياسية وحزبية في ظلّ عجز شبه تام من المؤسسات الرقابية والتعديلية على ممارسة سلطتها لفرض احترام القانون وأخلاقيات المهنة ومراقبة مصادر التمويل المشبوه في كثير من الحالات.وحتّى بعض الهياكل المهنية أضحت تغضّ الطرف عن ممارسات مثيرة للريبة لحسابات سياسوية وفي حالات أخرى تتعامل مع بعض الملفات بمنطق سياسة المكيالين.
يتزامن هذا الوضع الذي يعيشه الاعلام الخاص لاسيما بسبب تعاظم دور المال السياسي والذي لا يقتصر فقط على المجال السمعي البصري بل طال أيضا الصحافة المكتوبة الورقية والالكترونية التي تكاد تتحوّل إلى صحافة منكوبة جراء ازمتها الهيكلية والمضمونية مع واقع لا يقلّ بؤسا بالنسبة للاعلام العمومي الذي كان من المفترض أم يكون القاطرة التي تقود عملية الاصلاح.
فالتلفزة التونسية على سبيل المثال تتخبط في مشاكل داخلية جمّة زادت في تعميقها التدخلات السياسية وعودة التعليمات التي اصبحت مكبلة لأي محاولة للاصلاح.يكفي هنا أن نشير إلى تعاقب حوالي 13 رئيس مدير عام على رأس المؤسسة منذ 14 جانفي 2011 ولكن الحصيلة تقريبا هي نفسها وقد تكون تسير من سيء لأسوإ.
طبعا حال وكالة تونس افريقيا للأنباء ودار سنيب لابراس والاذاعة التونسية لا يختلف كثيرا عن وضعية التلفزة مع الفويرقات في التفاصيل والجزئيات وخصوصيات المشاكل الداخلية.
إنّ الحديث اليوم عن اعلام عمومي في الوقت الراهن لم يعد ذا مصداقية فهو أقرب الى اعلام حكومي همّ المسؤولين عليه الاول والاخير رغم الارادة الصادقة للبعض ترضية من هم في الحكم والبحث عن مسايرة التوازنات النقابية في حالات عديدة. هذا الصنف من الاعلام يتم التعامل معه بعقلية رزق البيليك لدرجة أن يسمح أحد المسؤولين في القصبة لنفسه باسستغلال سيارة ادارية تابعة لمؤسسة التلفزة التي له من القدرة داخلها ما يتيح تعيين منشطين ومحللين تابعين له في برامج حوارية لها تأثير مباشر على الجمهور والمتلقي حتى يكون الوضع كلّه تحت السيطرة وفي مأمن من أي انفلات قد لا يتماشى والرغبة في التدجين والتوظيف السياسوي لصالح هذا الطرف أو ذاك عشيّة سنة انتخابية وسياسية على غاية من الاهمية في تاريخ تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر بطبعه.
لكن هذه الهنات لا يجب أن تحجب حقيقة التحسن الذي عرفه أداء بعض المؤسسات الاعلامية الجهوية على غرار اذاعة تطاوين التي ما انفكت تلعب دورا هاما في ترسيخ اعلام القرب رغم كلّ المشاكل والعقبات المادية والسياسية.
إنّ تواصل هذا الوضع المخيف والبلاد تتأهب لاسحقاق انتخابي هام في سنة 2019 مبدئيا سيؤدي حتما إلى مزيد الدفع نحو لبننة الاعلام التونسي.هنا لا نتحدث عن كلّ وسائل الاعلام بل على جزء منها والذي نرى أنّه يهيمن على المشهد السمعي البصري باعتباره الاكثر تأثيرا وولوجا إلى بيوت المواطنين وسياراتهم ومكاتبهم وهواتفهم النقالة بفضل قوّة المال السياسي الذي قد يكون في جزء منه متأت من الخارج بأشكال مختلفة يمكن أن تكون مقنعة.(أنظر الوثيقة المسربة في جوان 2017 والمنسوبة لمركز الامارات للسياسات تحت عنوان” الاستراتيجية الاماراتية المقترحة تجاه تونس” فضلا عمّا سميت اعلاميا بفضيحة الاموال البريطانية التي كشفتها صحيفة الغارديان الغرّاء)
*من أجل رؤية عمومية تشاركية لاصلاح الاعلام
كثيرة هي المفارقات التي عرفها الاعلام التونسي بعد الثورة،فعلى الرغم من وجود ترسانة هامة من القوانين والنصوص التي تتيح نظريا هامشا كبيرا من الحرية للاجتهاد من أجل تطوير المضامين الصحفية وتحسين جودتها فإنّ الاداء الاعلامي مازال قاصرا عن الوصول لمرحلة بناء منظومة اعلامية ديمقراطية تجعل من الصحفي سلطة قويّة مضادة لكل قوى الجذب إلى الوراء.
يكفي الاشارة في هذا المضمار إلى ندرة التحقيقات الاستقصائية والمضامين التفسيرية العميقة التي يمكن أن تعدّل بوصلة الساسة نحو القضايا ذات الاهمية القصوى التي تخص مباشرة المواطنين ومشاغلهم. أليس الصحفي هو ضمير الشعب كما يردّد البعض؟
إنّ المشهد الاعلامي الحالي تكاد تغيب عنه المقاربات الصحفية التي تقوم على الانارة لا الاثارة والابتذال ما جعل صورة الاعلام والاعلاميين تهتز لدى المجتمع الذي هو بدوره في حاجة ماسة إلى التثيقف والتوعية والتربية على التعامل وسائل الاعلام لفهم طبيعة الوظيفة الاجتماعية لهذه الاجهزة وأساليب التلاعب الممكنة. لقد بات الاعلام في منافسة محتدمة مع وسائط الميديا الجديدة ما ساهم في انتشار صحافة “السندويتش” والاخبار الكاذبة والاشاعات المفبركة وجنس صحافة التسريبات الموجهة وهو وضع يعكس الظرفية السياسية الانية التي انقسم معها الاعلام الى ملل ونحلل وقد ألقى هذا الواقع بظلاله على أخلاقيات المهنة وميثاق الشرف الصحفي حيث تعددت الانتهاكات والتجاوزات بشكل مفزع.
الصحفيون أنفسهم ليسوا بمنأى عن واقعهم المعيش وظروف الاقتصادية فقد كشفت دراسة أعدها مركز تونس لحرية الصحافة في سنة 2017 حول استقلالية الاعلام والمناخ الاجتماعي للعاملين في القطاع أنّ 50 بالمائة من المستجوبين يتقاضون أجورا من المؤسسات المشغلة تقل عن 400 دينار شهريا و 80 بالمائة منهم يحصلون على رواتب أدنى مما تنص عليه الاتفاقية القطاعية المشتركة.
كما أفادت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ابان ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة في ماي 2017 أنّها رصدت خلال سنة واحدة أكثر من 180 حالة طرد تعسفي لصحفيين وأكثر من 480 اعلام بعدم خلاص أجور اعلاميين في أوانها خلال نفس الفترة.
فهل يمكن أن تتحمّل هياكل المهنة لوحدها مسؤولية هذا الواقع المرير الذي يصبح معه الحديث عن اعلام حرّ ونزيه ومنظومة اعلامية ديمقراطية مجرد عبث هلامي؟
إنّ هذه المعطيات غير القابلة للتشكيك تجعلنا إزاء ضرورة التفكير بشكل عاجل لا آجل في الحلول الممكنة لانقاذ القطاع الاعلامي من سياسة التفقير التي تمارس على الصحفيين ومن براثن المال السياسي الفاسد والأجندات المشبوهة لبعض اللوبيات التي تحاول توظيفه لخدمة مصالح لا علاقة لها بأهداف الثورة ومقتضيات الانتقال الديمقراطي وانتظارات المواطن التونسي الحالم بالتغيير عوض التفصي من المسؤولية أو التطبيع مع هذا الواقع الأليم من خلال التعايش معه والقبول به أو ربما لعب أدوار سياسية بعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية وجوهر المشروع الديمقراطي الذي تاهت بوصلته في زحمة الباحثين عن الغنائم والمنافع الخاصة.
من الاجحاف في نظرنا تحميل المسؤولية فقط لهياكل المهنة الصحفية بمختلف مشاربها وتنظيماتها ولكن من المهم اليوم التعجيل بفتح نقاش وطني للردّ عن تساؤلات مركزية: أيّ اعلام نريد؟ وكيف السبيل لاصلاح الاعلام والحدّ من سطوة اللوبيات التي ستظلّ مؤثرة وموجودة مهما كانت درجة النجاح في تحجيم دورها وتجفيف منابع روافدها وأجنداتها؟ وهل يمكن قلب المعادلة لجعل الاعلام الوطني في خدمة تجربة الانتقال الديمقراطي عوض أن يكون أحد أبرز المخاطر التي تعتريها في ظلّ المحاولات المحمومة الرامية لجعله أداة لافساد الحياة الديمقراطية من خلال الهيمنة على المجال العمومي والتلاعب بعموم الجمهور لاسيما من الناخبين؟
إنّ طريق الاصلاح تتطلب لزاما التوافق حول رؤية عمومية تشاركية في علاقة بالاعلام تنخرط فيها مؤسسات الدولة وأساسا الحكومة ومجلس نواب الشعب وهياكل المهنة الصحفية والهيئات الدستورية والمستقلة ذات العلاقة بالقطاع من أجل تحديد الاولويات وآليات التنفيذ لتحصين الجسم الاعلامي وجعله رافدا للبناء الديمقراطي.
هذه المقاربة لا يجب أن تنطلق من ورقة بيضاء بل من الضروري أن ترتكز على فلسفة المراكمة والاخذ بعين الاعتبار بكل ما تحقّق من ايجابيات في السنوات الماضية ويمكن من هذا السياق أن يكون التقرير العام الختامي للهيئة الوطنية لاصلاح الاعلام والاتصال الصادر في أفريل 2012 أحد الوثائق المرجعية التي من المهم الاستناس بها،علاوة عن برنامج دعم الاعلام الذي انخرطت فيه الدولة التونسية بالشراكة مع الاتحاد الاوروبي منذ سنة 2015 والذي خصصت له اعتمادات مالية تقدرّ بحوالي 30 مليارا.
كما أنّه لابدّ من فتح ملفات الفساد في القطاع الاعلامي بكلّ جديّة ومسؤولية خارج بوتقة الانتقائية وتصفية الحسابات وفي كنف الشفافية والاستقلالية بالنسبة للسلطة القضائية التي هي وحدها الكفيلة بأن تكون ضامنة لسلامة هذا المسار الشائك.
الدولة لا الحكومة فقط مطالبة بدورها بتعديل سياساتها تجاه الاعلام من خلال دعم الحريات الصحفية بالنظر إلى كون ذلك يمثل استثمارا في الديمقراطية والتأسيس لفكرة المواطنة والتنمية الشاملة.وهنا من الضروري التحذير من خطورة المنعطف التشريعي المرتقب المتعلق بالمصادقة على مشاريع القوانين التي تخص حرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر والاتصال السمعي البصري والهيئة العليا الدستورية التي تعنى بهذا الاختصاص والتي تعوض كلها المرسومين 115 و 116.
كما ينبغي بشكل عاجل تفعيل مجلس الصحافة الذي يعدّ الاول من نوعه عربيا والذي ولد من رحم مبادرة صادرة عن المجتمع المدني من أجل التصدي لنزيف التجاوزات والاخلالات التي مست أخلاقيات المهنة وميثاق الشرف الصحفي.
من الممكن أيضا التفكير في صياغة ما يمكن أن نسميه ميثاقا اعلاميا وطنيا تشارك فيه جميع الاطراف المعنية بعملية الاصلاح وتتم في تضاعيفه تحديد أرضية مبدئية مشتركة ملزمة من الناحية الأخلاقية وهي تدور في فلك ماهية دور الاعلام والصحافة الايجابية في علاقة بثلاثية الاخبار والتثقيف والترفيه وبالمشروع الديمقراطي في ابعاده التربوية والثقافية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إنّ الشخصية القاعدية الصحفية هي الاخرى في حاجة ملحة إلى إعادة البناء لتجاوز حالة الفقر العلائقي بين الصحفيين أنفسهم وأزمة الأداء الاعلامي انطلاقا من منظومة التكوين الجامعي وصولا لعملية التعديل الذاتي من خلال الدورات التدريبية التي يجب أن تكون ذات جدوى ومحلّ تقييم مستمر.
علاوة عن ذلك، من الضروري التعجيل بحسم ملف المؤسسات الاعلامية المصادرة عبر التفويت فيها وفقا لآليات موضوعية وشفافة تكون فوق الشبهات والأجندات السياسوية والمالية ما يسمح باستمراريتها وعدم توظيفها مستقبلا في قادم الاستحقاقات الانتخابية،بالاضافة إلى تفعيل قرار الحاق اذاعة الزيتونة للقرآن الكريم بمؤسسة الاذاعة التونسية والذي ظلّ حبرا على ورق منذ سنوات نظرا لخصوصية طابعها الديني مع توفير ظروف مواصلة نجاحها في استهداف شرائح واسعة من المجتمع التونسي ضمن مقاربة تقوم على خطاب معتدل متسامح يمكن أن يساعد على مجابهة الارهاب والفكر الديني المتطرف.
إنّ الهياكل المهنية الصحفية لها دور محوري في انجاح أي مسار لاصلاح الاعلام وهي مطالبة بالنأي بنفسها عن الاصطفافات السياسية من أجل الحفاظ على استقلاليتها والدفاع عن مطالبها النقابية المشروعة بكلّ الاشكال المدنية الديمقراطية فالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين على وجه الخصوص قادرة على أن تكون لها أدوار أهم وأكبر في خضم واقع سياسي متعفن ومتقلب وذلك من خلال العمل على اصدار قائمة سنوية لاعداء حرية الصحافة والاعلام وهي وسيلة من وسائل الضغط على لوبيات المال والسلطة السياسية،زيادة عن امكانية احداث جوائز سنوية للتميز والابداع الصحفي من أجل التشجيع على صحافة الجودة مع تفعيل دور اللجان الفرعية مثل لجنة أخلاقيات المهنة حتّى تكون حارسا أمينا ضدّ كلّ أشكال التجاوزات والاخلالات الجسيمة التي لا تشرّف القطاع وتشرعن لبروز اعلام المجاري والصحافة الصفراء.
من جهة أخرى، وجب الضغط أكثر فأكثر على الهياكل الرقابية للدولة ولاسيما وزارة الشؤون الاجتماعية وتفقدية الشغل من أجل اجبارها على القيام بمسؤولياتها في علاقة بمدى احترام أصحاب المؤسسات للقوانين والتشريعات ذات العلاقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين.
صحيح أنّه لا توجد حلول سحرية أو وصفة جاهزة لتحسين واقع قطاع الاعلام في تونس بين عشيّة وضحاها لكنّ الاصلاح يبقى ممكنا فما أضيق العيش لو لا فسحة الامل كما يقول الشاعر الطغرائي في احدى قصائده.
إنّ عملية الاصلاح الشامل هي مسألة مترابطة ومتشعبة وهي تقتضي لزاما توفر مقاربة تشاركية من شأنها أن تفرز سياسة عمومية ورؤية استراتيجية عميقة للنهوض بأداء الاعلام وظروف العاملين فيه وذلك من أجل معاضدة تجربة الانتقال الديمقراطي الذي هو في نهاية الامر مسار مرهق وسيرورة شاقة وحتمية تاريخية لا مناص منها.
فاعلامنا اليوم هو دون أدنى شكّ يمثل انعكاسا للأمراض والأنوميات بلغة عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركايم صاحب كتاب الانتحار التي يعاني منها الشعب التونسي بنخبه ومواطنيه وسياسيه نتيجة تحلل قيمي وغياب لمشروع وطني جامع يكون القطاع الاعلامي أحد مرتكزاته.وان كتب لنا السقوط في مطب اعادة انتاج نفس المنظومة الاعلامية القديمة الصدئة بشكل مشوّه مع اختلاف جزئي في العناصر المؤثرة ومراكز النفوذ ودوائر التخطيط في الغرف المغلقة سيؤدي ذلك بالضرورة إلى سطوة لوبيات المال والاجندات السياسية المحلية والخارجية على حساب الدور الطبيعي المهني والوظيفة الاجتماعية لوسائل الاعلام بمختلف أصنافها.
إنّ الاعلام التونسي في الوقت الراهن -رغم ضرورة التنسيب- أضحى فضاء لتدمير القيم والمبادئ والمثل فانخرط في صناعة “نجوم” من ورق هم في حقيقة الامر مجرد كومبارسوات للوبيات وشبكات مصالح وفاعلين يسيرون المشهد السياسي والثقافي والاقتصادي ومستقبل البلاد من خلف الستار لتزويق الصورة والتلاعب بالرأي العام لتوجيه الانظار عن القضايا الحارقة ذات الاولوية وعملية الاصلاح لا يمكن أن تكون ملخصة في بعض الندوات والملتقيات التي تجتر فيها نفس العبارات والتوصيات بل إنّ المراجعات والتقييمات الموضوعية وحدها الكفيلة بالنظر إلى المرآة بكل شجاعة وبوجه سافر قصد مواجهة قبح ليس من العيب التأمل فيه مادام واقعا نعيشه ولا يمكن الهروب منه.
وأفضل ما يمكن أن نختم به هذه المقالة هي الاقتباس من معجم شكسبير الذي قال ذات يوم “اعطني مسرحا وخبزا أعطك شعبا مثقفا” ونحن نقول:” اعطونا اعلاما حرّا وديمقراطيا نعطكم شعبا متحضّرا وتقدميّا.”