الشارع المغاربي : تصاعدت في الأسابيع الأخيرة وتيرة التصريحات المتعرّضة للجيش راغبة، تلميحا أو تصريحا في تدخّله ل”ينهي” أو ل”يؤجّل” في أدنى الحالات مرحلة الانتقال الديمقراطي. النائب علي بنّور أعلن في أفريل 2018 في البرلمان عن رغبته في أن يتلو الجيش التونسي البيان رقم 1 ويتسلّم الحكم. في شهرسبتمبر النائب المؤسّس صالح شعيب رئيس حزب الخيار الثالث يدعو علنا في إذاعة “جوهرة آف أم” هو الآخر إلى انقلاب عسكري ووجوب تلاوة البيان الأول معتبرا أنّ الجيش هو سور الوطن الحامي من المخاطر الداخلية والخارجية.
لطفي زيتون المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة يلمّح إلى إمكانية استيلاء الجيش على السلطة في تونس لإعادة ما أسماه ب”ترتيب الأوضاع وتطهير المؤسّسات العمومية” معتبرا في تدوينة نشرها صباح الجمعة الفارط على صفحته الرسمية بموقع الفايسبوك أنّ “الواجب الوطني قد يدفع الجيش إلى إيقاف التحوّل الديمقراطي مؤقّتا”، وأنّ “في حال انهيار الدولة يمكن للجيش باعتباره آخر القلاع لحماية الوطن الاستيلاء على السلطة لمدّة يقوم خلالها بترتيب الأوضاع وإصلاح المؤسسات وتطهير إدارة متضخّمة وضارّة وتهيئة المؤسّسات العمومية التي تتسبّب يوميا في مزيد إفلاس البلاد”.. وقد جاء حذف “التدوينة الصادمة” ( وهي تدوينة منقولة عن نصّ لعبد العزيز بلخوجة كتبه باللّغة الفرنسية) بسرعة ليزيد من حدّة الجدل الذي أحدثته ومن طرح تساؤلات عن إمكانية قرصنة الحساب بما يعني أنّ مضمونها لا يلزم صاحب الحساب الفايسبوكي. هذا ويجدر أن نشير إلى أنّ بعض المصادر القريبة من لطفي زيتون تفيد أنّه هو من نشر التدوينة مبرزة أن لا علم لها بأسباب حذفها، ولفتت أيضا إلى أنّ ما جاء في تدوينة زيتون قد يكون ردّا على تصريحات وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي التي نبّه فيها إلى أنّ الشعب سيحاسب السياسيين يوما ما.
الزبيدي وعمّار معا على الخط !
الأسبوع الفارط ( 4 أكتوبر) وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي ( وهو المسؤول و”الرئيس السياسي” للمؤسّسة العسكرية) يحمّل الطبقة السياسية مسؤولية الانخرام الأمني في البلاد قائلا في تصريح مفاجئ بمناسبة موكب تأبين شهيدي الوطن في ثكنة العوينة “ما كنت أقوله للمسؤولين السياسيين منذ سبع سنوات سأقوله للعموم…حسب اعتقادي السياسيون الذين يقولون إنّهم يمثّلون الشعب الذي انتخبهم أذكّرهم أنّ الشعب سيحاسبهم يوما ما على ما حدث في البلاد طيلة الفترة التي منحهم خلالها الثقة لتمثيلهم في مختلف المواقع”. مثّلت إذن “خرجة” الزبيدي إذكاءا للجدل حول دور الجيش، خاصّة وأنّ الرجل لم يكن ممثّلا لشخصه أو معبّرا عن هاجس مواطني فردي بل هوموقف وزير دفاع أوّلا وأخيرا عرف عنه الهدوء والرصانة، وما قاله هو مدعاة للتوقّف والانتباه.
لم ينتظر الفريق أول رشيد عمار الرئيس السابق لأركان الجيوش الثلاث طويلا ليضع “نقاطه” على الحروف ( 6 أكتوبر أي 48 ساعة بعد تصريح وزير الدفاع) و”يصحّح” قائلا على أمواج إذاعة خاصة:”إنّ على التونسيين ضرورة حسن الاختيار”، معتبرا أنّ “من يدعون المؤسسة العسكرية إلى إصدار البيان رقم 1 للانقلاب على المسار الديمقراطي هم أناس غير مسؤولين”، حسب قوله واصفا هذه الدعوات ب”الخطيرة” ومشدّدا على أنّ المكان الطبيعي للجيش هو الثكنات”.
هو جدل دقيق وحسّاس، وحديث كاشف لأوّل مرة عن حقيقة ماثلة أمامنا مفادها أنّ التطرّق إلى “البيان رقم 1” جهارا وفي العلن لم يعد “تابو” مخيف يحجّر الاقتراب منه، بل أصبح فرضية “مذكورة” وغير محظورة يتداول فيها بالنقاش في الفضاء العام من شخصيات وازنة ومسؤولة بل ومؤثّرة في المشهد السياسي. وهي “فرضية” تتداول أيضا بنسق متصاعد هذه الأيام ( سواء مع “البيان رقم 1” أو ضده) على صفحات التواصل الاجتماعي وعبر تدوينات لشخصيات ولمثقّفين عاكسة أيضا لحيرة معمّمة بين المواطنين والطبقة السياسية حاكمة ومعارضة، ولخوف يتمدّد وينتشر في صدور “التوانسة” من إمكانية انهيار الدولة واعتبار الجميع تقريبا أنّ الجيش الوطني هو الطوق الأخير لنجاة تونس إذا غرق المركب لا قدر الله.
العودة إلى الأصل فضيلة…
والأصل في سياقنا الراهن هو العودة إلى وظيفة المؤسسة العسكرية كما حدّدها دستور 59 السابق والدستور الحالي، أي كما نظّمها التشريع وكما مورست على الأرض في تاريخ تونس المعاصر، وخاصّة كما أراد لها أن تكون باني الدولة الوطنية الحبيب بورقيبة. لقد اعتبر بورقيبة أنّ وظيفة الجيش يجب أن تقتصر على حماية التراب الوطني وحماية الدولة، وهو ما تجلّى في مناسبتين 26جانفي 1978 والأيام الأولى من نفس الشهر في سنة 1984. في 78 وعندما تحوّل الصراع بين الحبيب عاشور والاتحاد من ورائه مقابل السلطة إلى إمكانية لانزلاق البلاد إلى حرب أهلية نظرا لحجم لخصمين وتمسّك كل طرف بخندقه زائد غياب وسيط للحلحلة تدخّل الجيش للحيلولة دون التصادم بين الطرفين الشيء الذي سيكون منذرا بالفوضى وبانهيار طبيعي للدولة. وهو ما حصل أيضا في 84 لمّا انتفض التونسيون بسبب الترفيع المشط في سعر الخبز، فانتشر لهيب الاحتجاج وتصاعد بشكل عنيف خلال أيام ثلاث في كلّ الجهات، فتدخّلت المؤسسة العسكرية مرّة أخرى ليسقط شهداء في المناسبتين و أنقذت الدولة من انهيار حتمي ومن فوضى كانت تكون نتائجها أكبر وأشد.
إنّ الإشكال إذن هو في تحديد معاني ومدلولات “بوادر انهيار الدولة”، بمعنى تشخيص الأعراض التي تبرز قبيل انهيارها بقصد تبرير “إنقاذها” والإقدام على خطوة لمّحت لها “تدوينة زيتون” وحذرت منها ضمنيا تصريحات وزير الدفاع ورفضتها جملة وتفصيلا “رسالة” رشيد عمار الإذاعية. و”أعراض” انهيار الدول كما معلوم في التاريخ هو الإفلاس أو الأزمات السياسية التي لا مخرج لها أو الجوع، وهي أسباب موجبة لتدخّل الجيوش للقيام بواجب الإنقاذ. ولكنّ الواجب الأخلاقي والمدني يفرض علينا أن ننقل حقيقة يراها التونسي اليوم ويعيشها في يومه وهو أنّنا على عتبات هذه “الأعراض المذكورة” وأنّ الأمر أصبح فعلا خطيرا ودقيقا: حديث عن سيناريوهات انهيار اقتصادي قريب، أزمة خانقة متواصلة ومستمرة لأشهر طويلة بين “قرطاج” و”القصبة” دون أفق لحلّ ممكن، فقر وجوع وخصاصة تنتشر في الأرض..نحن على العتبة ولينتبه الجميع دون استثناء، ولكن في الأثناء يبقى إيماننا لا يتزعزع بأنّ الجيش يجب أن يبقى في ثكناته لو تجاوزنا تشخيص الأعراض وشرعنا في تجرّع الدواء المناسب…