الشارع المغاربي : جاء في تقرير «مجموعة الأزمات العالمية » الصادر في ماي سنة 2017 حول الوضع في تونس تحت عنوان «الانتقال المُعطّل في تونس: فساد مالي ونعرات جهوية » تصريح شديد الخطورة مفاده «أن مسؤولا رفيع المستوى أكّد لهذه المؤسّسة أن العديد من أصحاب المشاريع هم الآن بصدد تحويل أموالهم إلى الخارج، وستتجه البلاد نحو الإفلاس، عند ذلك يعود هؤلاء كمنقذين لتونس، عبر الزيادات في الأجور وخلق مناصب شغل في الجهات الداخلية الخ … وسيقولون: »اتركونا نعمل ولا تحدثوننا مجددا عن الشفافية والمنافسة، وتغيير الآلية القائمة (يقصد تغيير المنوال الاقتصادي القائم حاليا) والمس بامتيازاتنا ». ثم يضيف التقرير أنه «في آخر المطاف، سيُحكمون إغلاق ما تبقى من القطاعات الاقتصادية (يقصد المؤسسات الوطنية الإستراتيجية موضوع الإصلاحات الكبرى)، مسنودين في ذلك من دكتاتورية جديدة أو ديمقراطية شكلية». كما يضيف «الآن هم يتعمّدون تعفين الأوضاع لأنه، بالنسبة إليهم، يجب أن يتقبّل اللاوعي الجماعي (يقصد شعبيا ونقابيا وسياسيا) استحالة تغيير هذا النظام، حتى بالنسبة للأجيال القادمة ». طبعا هم يقصدون المنوال الاقتصادي بجميع عناصره بما فيها تلك المتعلقة باتفاقيات الشراكة التي تدفع نحو مزيد تحرير التوريد لجميع القطاعات.
لقد تنبأ هذا التقرير أيضا بفرضية انتهاء مرحلة التوافق بين حزب حركة النهضة وحزب نداء تونس حيث لاحظ « أن الغموض ما انفك يشوب الساحة السياسية». وأنه «نظرا لهشاشة وضعف قدرته على استيعاب القوى المتنافرة، فإن هذا التوافق أصبح يغذي الصراع بين ما سماهم التقرير ب «رجال الظل» المنتمين إلى عالم الأعمال، مما يغذي انتشار ظاهرة الاتّجارية والزبونيّة ويؤدي في المُحصّلة، إلى الإحساس بتفكّك الدولة».
انطلاقا من هذا التقرير الثاقب والخطير كيف يمكن ربط محتواه مع ما يجري اليوم في تونس؟ نعتقد أن عديد المؤشرات السياسية والاقتصادية تُبيّ بوضوح أن تونس تتدحرج نحو مزيد تعفّن الوضع في البلاد. من ذلك أن كل القرارات التي تم اتخاذها على مستوى الحكومات المتتالية والتي تم تمرير أغلبها عبر مجلس نواب الشعب ترمي إلى مزيد تفكيك الدولة لتقليص دورها في إدارة الشؤون الوطنية خاصة عبر تعطيل المرافق العمومية لفسح المجال لآليات السوق لتتحكم في مفاصل الدولة.
كيف يمكن قراءة أهم القوانين التي تم تمريرها في مجلس نواب الشعب في هذا الإطار ؟
• من هذا المنطلق جاء التصويت على القانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق بتغيير القانون الأساسي للبنك المركزي تحت عنوان «استقلالية البنك المركزي« وهو عنوان رنّان عوّدتنا عليه المؤسسات المالية الدولية وكل من يدعمها في الداخل والخارج. وقد تبين حقيقة أن أخطر ما جاء في هذا القانون هو منع الدولة من الاقتراض من البنك المركزي بطريقة مجانية تقريبا كما كان عليه الوضع منذ بعث هذه المؤسسة الرمز عبر القانون عدد 90 لسنة 1958 . لقد فرض هذا القانون الجديد على الدولة الاقتراض من البنوك التجارية الخاصة منها والعامة سواء بالدينار التونسي أو بالعملة الأجنبية بنسبة فائدة مرتفعة جدا خاصة بعد الزيادات المُفرطة في نسبة الفائدة الرئيسية بدعوى مقاومة التضخّم والحال أن ارتفاع نسبة الفائدة يُعتبر مصدرا للتضخم. كما أن اقتراض العملة الأجنبية من
البنوك المحلية تتحمل الدولة مخاطر ارتفاع سعرها مقابل الدينار.
هذا القانون الجائر مكّن البنوك الخاصة من تحقيق مرابيح جديدة طائلة بقدر ما أثقل كاهل مديونية الدولة وعمل على تعطيل الدورة الاقتصادية لدى المؤسسات والمستهلك عبر شفط السيولة المتاحة.
• من هذا المنطلق أيضا تم التصويت على القانون عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30 سبتمبر 2016 المُتعلق بالاستثمار الذي فتح المجال للاستثمار الخارجي على مصراعيه في كل القطاعات بما فيها الفلاحة والخدمات بعدما كان سابقا يتعلق حصريا بالقطاع الصناعي فقط. ويُعتبر هذا القانون في صيغته تلك تشريعا استباقيا لفتح المجال لتنفيذ مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق.
• وفي نفس السياق جاء القانون عدد 49 لسنة 2015 المتعلق بالشراكة بين القطاع العام والخاص وهو «الذي يعهد بمقتضاه شخص عمومي إلى شريك خاص بمهمة شاملة تتعلق كُليّا أو جُزئيّا بتصميم وإحداث مُنشآت أو تجهيزات أو بُنى تحتية مادية أو لا مادية لتوفير مرفق عام ». هذا وقد نشأت هذه الفكرة في بريطانيا في أوج الليبرالية تحت حكم مارغريت تاتشر كما تمّ اعتمادها في فرنسا تحت حكم نيكولا ساركوزي غير أن ما تغافلت عنه الحكومة التونسية ونواب المجلس هو ما جاء في تقرير للبرلمان البريطاني ولهيئة الرقابة المالية الفرنسية الذين أثبتا عدم جدوى هذه الشراكة التي أدّت إلى ارتفاع كُلفة التنفيذ من طرف القطاع الخاص بأكثر من 60 بالمائة. كما بينت هذه التقارير أن هذه الشراكة أدت إلى تفشي الفساد في هذه العقود؟
أمام هذه التشريعات الموجهة من طرف اللوبيات الداخلية والخارجية وأمام تدهور كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية كيف تجاوبت الحُكومات المُتتالية والأحزاب السياسية التي تدعمها مع هذا الوضع؟
من المفارقات الغريبة في السياسة السائدة منذ سبع سنوات أنه بقدر ما نلاحظ تدهور للوضع الاقتصادي في البلاد (تعمّد الدفع نحو تعفّن الأوضاع كما سبق ذكره في التقرير) وبقدر ما نستشعر غياب مريب لردّة فعل سياسية في مُستوى الأحداث تأخذ الأمور بالعلاج والتصويب. لمزيد التوضيح سوف نتعرض إلى بعض المسائل نذكر من بينها:
• انهيار قيمة الدينار التونسي الذي فقد أكثر من 70 بالمائة من قيمته بين سنة 2011 إلى اليوم. لا يمكن لأي دولة تحترم نفسها أن تُلازم الصمت أمام هذه الكارثة الوطنية لما لها من تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة على البلاد منها ارتفاع قيمة المديونية وارتفاع نسبة التضخم المستورد وارتفاع العجز التجاري وتدهور القدرة الشرائية للمواطن. غير أن الحكومة التونسية تُلازم الصمت و«تتقبل» بكل سهولة «فتاوى» صندوق النقد الدولي السخيفة لأنه لا يُمكن لأي طرف عاقل ن يصدق أن انهيار قيمة الدينار سوف يُؤدي إلى مُقاومة التضخم والحال أنه يعتبر أكبر مصدر للتضخم خاصة في اقتصاد يعتمد الاستهلاك عبر التوريد المكثف؟
• أن ارتفاع نسبة الفائدة الرئيسية من طرف البنك المركزي بصفة مُفرطة وصلت إلى حد مائة نقطة في دُفعة واحدة هذه السنة لم تُعرف لها البلاد مثيلا منذ الاستقلال. والغريب أن يُقدّم هذا الإجراء بصفته مقاوم للتضخم والحال أنه مصدر تضخم بامتياز بما أن ارتفاع نسبة الفائدة سوف يتم تحميله مباشرة من طرف كل الفاعلين الاقتصاديين سواء منها المُنتجة أو مُسدية الخدمات بصفتها تكلفة إضافية وسوف تضفي حتميا إلى ارتفاع في الأسعار.
وهذا ما نلاحظه فعليا إذ أن نسبة التضخم ارتفعت إلى 7,8 بالمائة في الثلاثي الأول من هذه السنة مقابل 4,8 بالمائة في سنة 2014 . غير أن الحكومة «تمادت » في تصديق «فتاوى » غير منطقية بتعلّة إملاءات صندوق النقد الدولي الذي أصبح البعبع الذي يتم استعماله لفرض إجراءات مخالفة تماما للمصالح العليا للبلاد؟
• كيف يمكن أيضا أن نفسر صمت الحكومات المتتالية على عملية تزوير العجز التجاري بإدماج المبادلات التجارية للنظام العام (الداخلي) ولنظام المؤسسات غير المقيمة والمصدرة كليا والحال أن هذه الأخيرة لا تسترجع مداخيل التصدير. هذا التزوير يتم في خرق صارخ للقوانين الدولية ذات الصلة وبتواطئ مع الاتحاد الأوروبي للتغطية على نتائج المبادلات التجارية المختلة بين الطرفين. هذا علاوة على أن العجز التجاري ارتفع إلى مستوى خطير من 12,8 مليار دينار سنة 2010 إلى 25,2 مليار دينار سنة 2017 وهو مرشح لأن يكون في حدود 28 مليار دينار سنة 2018 أي بنسبة تغطية للواردات بالصادرة لا تتجاوز 25 بالمائة وهو ما يدفع حتميا نحو إفلاس البلاد نظرا لاختلال ميزان الدفوعات؟
• كيف يمكن أخيرا أن نُفسر تقاعس الدولة على تفعيل الفصلين الثامن والرابع عشر من القانون الأساسي لصندوق النقد الدولي والذي يتوافق مع القانون الثاني عشر للمنظمة العالمية للتجارة والفصل 35 من اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي المتعلق بحق الحماية عند التوريد في حال اختلال في ميزان الدفوعات. وهو وضع الحال في تونس؟ كذلك كيف يُمكن أن نُفسّ تقاعس الدولة التونسية في تطبيق القوانين المصادق عليها من طرف المنظمة العالمة للتجارة والمتعلقة بحماية المؤسسات الوطنية من الممارسات المُخلة بقواعد المنافسة وعمليات إغراق السوق حفظا لنشاطها وحفظا لمواطن الشغل التي تُؤمنها؟ كل هذه الإخلالات الخطيرة تدل على مدى تأثير ما ذكره التقرير «بالنخب الاقتصادية القديمة وطبقة رجال الأعمال الصاعدة، على خلفية صعود الزبونيّة واستغلال النفوذ». كما أكد التقرير وعلى مسؤوليته أن «الفاعلين الاقتصاديين، أولئك الذين موّلوا الحملة الانتخابية لبعض الأحزاب (في انتخابات سنة 2014) يؤثّرون في تعيين الوزراء وكُتّاب الدولة وكوادر الإدارات المركزية والجهوية والمحلية، بما فيها كوادر الجمارك وقيادات الأمن الداخلي». هذا الوضع المتشابك بين الأطراف المتنفذة والمسؤولين يفسر إلى درجة كبيرة عدم تجاوب الدولة مع ما يجب اتخاذه من إجراءات سيادية ووطنية لصيانة المصالح العليا للبلاد وخدمة لعامة الشعب ولتكريس دولة القانون في كنف الشفافية والحوكمة الرشيدة.
كيف يتجلى هذا الوضع من خلال تصريحات المسؤولين في الدولة اثر زيارة رئيس المفوضية الأوروبية الأخيرة متابعة للزيارة الأخيرة الذي قام بها رئيس المفوضية الأوروبية جون كلود جونكر لتونس صدرت عديد التصريحات التي تُبين إمعان الدولة التونسية في مواصلة تكريس التبعية لمنوال تنمية أظهر فشله على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية مما أدى إلى إفلاس غير معلن للبلاد. نذكر من ذلك ما صرح به رئيس الجمهورية «بأن تونس ماضية في تعميم المنافسة على كل القطاعات» وهو تصريح ضمني يُعطي الضوء الأخضر للتوقيع على مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق وهو متفق عليه أيضا من طرف حزب حركة النهضة. وفي عملية مزايدة لإرضاء الأطراف المعنية الداخلية والخارجية صرح رئيس الحكومة بكل فخر «أن تونس جاهزة لفتح مجال المنافسة في النقل الجوي أو ما يعبر عليه ب “السماء المفتوحة” (open Sky). ولسائل أن يسأل كيف يمكن لشركة وطنية تعاني من وضع مالي كارثي خاصة نتيجة انهيار قيمة الدينار وهي مؤهلة للتفويت فيها أن تزاحم أعتى الشركات العالمية في هذا القطاع؟ هذا علاوة على ما صدر من وزير الشؤون الخارجية من دعوة غريبة إلى تنظيم هجرة الأدمغة لمزيد استنزاف البلاد من أبنائها المثقفين وما صدر عن سفير الاتحاد الأوروبي في جريدة «لابريس »من أن الاتحاد الأوروبي يعمل على تجسيد محاور أساسية وهي خصخصة الطاقة وإعادة هيكلة الشركات العمومية التونسية كما تحدث عن أن الزيادة في الأجور التي تمت مع اتحاد الشغل سوف تكون محل نقاش مع الحكومة لتحديد تأثيرها على القطاع العام؟ هكذا بكل وضوح؟ كذلك لا ننسى ما تم التسويق له من طرف المسؤولين ومن وسائل الإعلام لمبلغ مالي بقيمة 270 مليون أورو تقدم به الاتحاد الأوروبي لم يثبت إلى حد الآن من مصادره الرسمية إن كان هبة أم قرضا علما وأن هذا المبلغ لا يغطي تقريبا إلا ثماني أيام توريد فقط؟ كل دلائل المشهد السياسي الحالي تُبين بكل أسف أن هناك «تعمّد إلى تعفين الأوضاع» مع تراجع للمسار الديمقراطي خاصة على مستوى السيطرة على العديد من وسائل الإعلام حيث تمركز الثلاثي المسيطر على الساحة السياسية من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وحزب حركة النهضة بصفته متحصل على أكبر كتلة نيابية في المجلس في مربع إعلامي خاص به استعدادا لخوض المعركة القادمة بالوكالة لرموز رجال الأعمال القديمة ورجال «الظل» الجُدد حسب ما جاء بتقرير «مجموعة الأزمات الدولية» وفي تغييب كامل لكل فئات الشعب التونسي في كل القطاعات الحية المنتجة من فلاحين وحرفيين ومؤسسات صغرى ومتوسطة ومهن حرة وفي تغييب كامل لحق الشباب التونسي في العيش الكريم في وطنه؟ غريب ما يجري حقا في تونس اليوم وغريب ما ينتاب عامة الشعب من حيرة عميقة على مستقبل البلاد. ومع شبح رجوع الدكتاتوريات والتفريط في سيادة واستقلال البلاد يبدو أنه لا يمكن حسم الأمر إلا عبر تحرك شعبي سلمي قوي ومنظم يرجع المسيرة التنموية إلى طريقها الصحيح.