الشارع المغاربي : التصريحات الصادمة التي أدلى بها مؤخرا وزير الدفاع الوطني خلال جلسة الاستماع بمجلس نواب الشعب حول العجز المتفاقم الذي تشكو منه ميزانية المؤسسة العسكرية و الصعوبات التي تواجها الوزارة في تأمين جرايات العاجزين من إفراد القوات المسلحة والمتطلبات الأساسية الغذائية و الطبية و اللوجستية للجيش الوطني، تأتي في سياق سياسي شديد التأزم و أوضاع اقتصادية و مالية خطيرة وحرجة فضلا عن مناخ اجتماعي متفجر ينبئ بتصاعد الاحتجاجات و المواجهات على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية و احتدام الخلافات بين الحكومة و الاتحاد العام التونسي للشغل.
الأوضاع المزرية لجيشنا الوطني و التحول في موقف المؤسسة العسكرية
الملاحظ أن هذه التصريحات تتزامن مع إ عداد الوزارة لمشروع قانون الخدمة المدنية الجديد الذي كان مناسبة للكشف عن مدى عزوف الشباب التونسي عن أداء الخدمة الوطنية حيث لا يتعدى المقبلون طوعا على هذا الواجب بضع المآت و الحال أن حوالي خمسين إلى ستين ألف تونسي يبلغون سنويا سن العشرين.كما كشف الوزير عن محدودية طاقات استيعاب الجيش للمجندين نتيجة تقادم المنشآت و الثكنات العسكرية وغياب التخطيط و الاستشراف مما أدى إلى عدم توفر الإمكانيات الضرورية في حالة العودة إلى تطبيق نظام التجنيد الإجباري.
اللافت أنه سبق لوزير الدفاع الوطني أن حمل، قبل فترة وجيزة، اثر موكب تأبين الشهداء الذين سقطوا في عملية قصرين الإرهابية، الطبقة السياسية مسؤولية التدهور السياسي و الاقتصادي و الأمني الحاصل في البلاد نتيجة لما تتميز به الساحة السياسية من “تجاذبات و انخرامات” مضيفا انه ما انفك يصارح السياسيين منذ سبع سنوات بهذه الحقائق و لكنه أصبح اليوم يجاهر بها علنيا في إشارة واضحة إلى عدم تحمل السلطات الحاكمة لمسؤولياتها محذرا إياها بأن الشعب الذي أوصلها إلى سدة الحكم سيحاسبها على أداءها و حصيلة حكمها.
الجدير بالذكر أن المجاهرة بهذا الوضع المفزع والمخجل يأتي في ظرف يفترض فيه أن الحرب على الإرهاب تتصدر أولويات الدولة المطالبة تباعا بتوفير الإمكانيات الضرورة للمؤسستين الأمنية و العسكرية خاصة و أنها مجندة للعمل منذ قيام الثور بموجب قانون الطوارئ على عدة جبهات و منها حماية المؤسسات الرسمية و المنشآت النفطية للحيلولة دون تكرار تعطيل بعضها مثلما حصل إبان الحملات الاحتجاجية على استمرار العمل بالقوانين البالية التي تسمح للشركات الأجنبية – المحمية من قبل جيشنا الوطني الفاقد للحد الأدنى من الإمكانيات – بمواصلة نهب الثروات الطبيعية و البترولية التونسية و بيعها بالعملة الصعبة إلى التونسيين و تحويل النصيب الأوفر من مواردها إلى الخارج دون رقيب أو حسيب و دون المرور بالبنك المركزي التونسي.
و لا شك أن هذه الحقائق الموجعة، المضرة بمصالح تونس و سيادتنا الوطنية، هي من الأسباب الأساسية لتأجيج الاحتقان و الشعور بالمرارة و الإحباط الذي تجاوز صفوف الشعب ليطال حتى المؤسسات الرسمية مما دفع بعض المسؤولين للاستقالة أو الخروج عن التحفظ للتعبير، من منطلق الوازع الوطني، عن عدم ارتياحهم لكنه لم يسبق لوزير أن انتقد من داخل الحكومة أداء الطبقة السياسية بهذه الحدة على غرار وزير الدفاع الوطني الذي كرر في أكثر من مناسبة انه غير قادر على الكذب و النفاق كجل السياسيين مع الإشارة إلى بعض التسريبات الصحفية و مفادها انه قد يكون طلب من رئيس الدولة إعفاءه من مهامه.
و هكذا فان المؤسسة العسكرية، بقدر ما هي ملتزم بالانضباط و الحياد مثلما يلزمها بذلك الدستور، فأنها ظلت و تظل على تواصل دائم مع الري العام التونسي و الأحزاب و الطبقة السياسية و خاصة السلطة السياسية الحاكمة لتذكيرها بخطورة إهمال المنظومة الأمنية و الدفاعية و بان الحفاظ على امن تونس – الذي يبقى” أساس البناء الديمقراطي، هو مسؤولية جماعية ” كما ورد في تصريحات وزير الدفاع – التي أرادها إن تكون هذه المرة علنية و حاملة لرسالة نقدية لأداء الفاعلين السياسيين و بالذات الأحزاب الحاكمة التي حولت المشهد السياسي إلى حلبة للصراع الدائم على احتكار السلطة غير مكترثة بمعاناة التونسيين و غير عابئة بالمطامع و المخاطر المحدقة بتونس و بانتقالها الديمقراطي.
و على صعيد متصل يندرج التحول الحاصل في موقف الاتحاد العام التونسي للشغل باتجاه التصعيد و المواجهة مع الحكومة للدفاع، لا فقط على حقوق منظوريه و التمسك بحماية المرافق و المنشآت العمومية، بل أيضا لرفع راية الانتصار لسيادة البلاد و استقلالية قرارها وهو تحول مفصلي في مسيرة الاتحاد خاصة في ظل تأكيد الأمين العام للاتحاد أن قرار تونس أضحى مرتهنا إلى الخارج و أن المركزية النقابية أصبحت معنية بالاستحقاقات الانتخابية الرئاسية و التشريعية القادمة.
و في حقيقة الأمر أن هذا التشدد في موقف المركزية النقابية يعزى إلى قناعتها بان الحكومة فقدت القدرة على التحكم في موارد الدولة المتأتية، في جانب كبير منها من القروض الخارجية الممنوحة من مجموعة السبع و صندوق النقد الدولي المتحكم الحقيقي في كيفية توزيعها بما يعطي الأولوية المطلقة لتسديد الديون الخارجية و دفع مستحقات و أرباح المستثمرين الأجانب على حساب بقية أبواب الميزانية وهو ما تؤكده الأرقام المتداولة بالنسبة لميزانية 2019.
و لا شك أن هذه السياسة، المتبعة منذ خضوع تونس سنة 2013 إلى ما يسمى بالبرامج الإصلاحية لصندوق النقد الدولي، تتعارض نصا وروحا مع بنود الدستور التونسي المتعلقة بالدور الموكول للدولة في ما يتعلق بسبل التصرف في موارد تونس و ثرواتها.
خرق الحكومة للدستور بسبب سوء التصرف في موارد الدولة
في هذا الصدد تفيد الأرقام الرسمية أن خدمة الدين الخارجي سترتفع في ميزانية 2019 إلى 3،9 مليار دينار مما يؤكد الأولوية المطلقة التي تعطيها الحكومة لتسديد الديون القديمة باللجوء إلى مزيد لتداين علما أن تونس مضطرة لاقتراض 10 مليار دينار خلال السنة القادمة ستخصص شبه كليا على غرار السنوات الماضية لتسديد القروض القديمة.
و على سبيل المقارنة حددت ميزانية وزارة الدفاع للعام القادم ب 2930 مليون دينار من مجمل الميزانية المقدرة ب8،40 مليار دينار أي إن قرابة ربع هذه الاعتمادت سيرصد لخدمة المديونية التي تتجاوز بذلك ثلاثة أضعاف ميزانية الدفاع.
و للتذكير تندرج هذه القروض في إطار صفقة جديدة تعهد بموجبها الاتحاد الأوروبي و صندوق النقد الولي و البنك العالمي و البنك الإفريقي للتنمية و الوكالة الفرنسية للتعاون بتامين القروض الضرورية بعنوان العامين القادمين في حدود حوالي 17 مليار دينار( 5.5 مليار اورو) ، غير إن هذا البرنامج مشروط باستكمال “الإصلاحات” و في مقدمتها التزام الحكومة بإبرام اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق باعتباره “أولوية إستراتيجية” بالنسبة للجانبين.
و الملاحظ أن ثلثي هذه الديون متأتية من القروض الخارجية قصيرة الأمد المتضخمة ذاتيا و آليا بفعل التراجع المستمر للدينار التونسي مما أدى إلى الارتفاع الكبير في نسبة الاعتمادت المخصصة سنويا لتسديد خدمة الدين بميزانية الدولة التي أصبحت منذ سنوات تحظى بالأولوية على حساب التنمية و الوزارات السيادية كالدفاع و الأمن و الخارجية و كذلك على حساب توفير المتطلبات الأساسية للبلاد.
وفي هذا الصدد، تفيد الارقام الرسمية إلى ارتفاع كبير في الاعتمادت المخصصة سنة 2018 لتسديد خدمة المديونية و المحددة ب 9,5 مليار دينار أي قرابة ثلث الميزانية وهي تناهز ضعف المبالغ المدفوعة سنة 2016 حيث بلغت 5130 مليون دينار مع الإشارة إلى أنّ ذلك المبلغ كان يساوي الميزانيات المجتمعة لوزارات الصحة، والشؤون الاجتماعية، والتشغيل والتكوين المهني، و التنمية، والبيئة، والنقل، والتعليم العالي،إلى جانب الثقافة والسياحة. لكن الرقم الفعلي المدفوع سيكون اكبر بفعل التراجع الكبير في قيمة الدينار وهو مرشح لمزيد الانفلات بسبب الشروع في تسديد مديونية الترويكا و الحكومات الموالية لها.
و الملاحظ انه لم يسبق إن بلغت المديونية الخارجية لتونس هذه الدرجة من الخطورة بعد خروجها الكلي عن السيطرة نتيجة سوء إدارة هذا الملف غداة الثورة من كافة الحكومات المتعاقبة بلجوئها المفرط للاقتراض و المديونية الخارجية قصيرة الأمد وهو ما تؤكده آخر الإحصائيات الرسمية و الأرقام المتداولة في أوساط المختصين و مفادها أن كتلة الديون قد قفزت من 25 مليار دينار سنة 2010 ( 40% من الناتج المحلي الإجمالي) إلى 75 مليار دينار أي أنها تضاعفت ثلاثة مرات مقارنة بعام 2010 وهو ما يناهز 73% من الناتج المحلي الإجمالي بزيادة عشر نقاط عما كانت عليه قبل سنتين لدى تسلم حكومة يوسف الشاهد مقاليد السلطة وتعهدها باستعادة التوازنات المالية الكبرى و مقاومة الفساد كأولوية مطلقة.
الملاحظ أن منظومة اقتصاد السوق تستند من ضمن أركانها الأساسيّة على تقليص الدور الاقتصادي للدولة وتشجيعها على اعتماد نظام الخوصصة للمؤسسات العموميّة وتحرير الاقتصاد والمبادلات التجاريّة من خلال الانفتاح على التجارة الدوليّة والعولمة ألاقتصادية، و من النتائج الحتمية لهذا التوجه اللجوء المتزايد للاستثمارات و التمويلات الخارجية المشروطة بحتمية اللجوء للمديونية الكريهة الهادفة أساسا لضمان تسديد القروض القديمة وهو ما يؤدي إلى فقدان الدولة المدينة لاستقلالية قرارها السياسي و الاقتصادي.
لكن الحفاظ على هذه السياسة بعد الثورة يتناقض مع الدور الاقتصادي المتنامي الموكول للدولة بالدستور التونسي الجديد و إلزامها بحسن التصرف في الأموال العمومية ومن ذلك أن الفصل 12 يلزم الدولة بإعطاء الأولويّة للعناية بالمناطق الداخليّة والطبقات المهمشة حيث ينص على أن الدولة “تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة والتنميّة المستدامة والتوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشرات التنميّة واعتمادا على مبدأ التمييز الايجابي ،كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنيّة “.
وفي نفس السياق، ينص الفصل 13 على أن ” الثروات الطبيعيّة ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه، تعرض عقود الاستثمار المتعلقة بها على اللجنة المختصة بمجلس نواب الشعب وتعرض الاتفاقيات التي تبرم في شأنها على المجلس للموافقة”. و يجدر التذكير بموجة الانتقادات الموجهة إلى السلطات الرسميّة بعد الثورة واتهامها من بعض الخبراء التونسيين بمخالفة الدستور من خلال التستر على الفساد الموروث عن النظام السابق في هذا القطاع الحيوي مما أدى إلى إلحاق الضرر البالغ بمصالح تونس وتسبب لها في خسائر باهظة جراء تعمّد الحكومات المتعاقبة تجديد العقود القديمة غير المتكافئة مع المستثمرين الأجانب للثروات الوطنيّة في ظروف غامضة وهو ما زاد في تعميق الجدل والشكوك المحيطة بهذا الملف.
ومهما يكن من أمر فإن الدولة ملزمة بموجب الفصل 10 من الدستور بالحرص على “حسن التصرف في المال العمومي واتخاذ التدابير اللاّزمة لصرفه حسب أوّلويات الاقتصاد الوطني و تعمل على منع الفساد وكل ما من شأنه المساس بالسيادة الوطنيّة”.
و هكذا يتضح جليا أن تونس بحاجة إلى مراجعة جذرية لخياراتها الاقتصادية و الدبلوماسية الكبرى إذا أرادت الخروج فعلا من أزمتها الاقتصادية و المالية الخانقة و استرداد قرارها السيادي في رسم مستقبلها و التصرف في مواردها لفائدة الشعب التونسي بما يتماشى مع مقتضيات الدستور و المصلحة العليا للبلاد.
بقلم السفير احمد بن مصطفى الباحث في القضايا الدبلوماسية و الاستراتيجية