الشارع المغاربي : ما من شك أن الوضع العام أصبح يوحي لدى عامة الشعب التونسي بجميع مكوناته بشعور عميق من التخوف الشديد على مستقبل البلاد و ذلك على جميع المستويات السياسية منها و الاقتصادية و الاجتماعية. و لكن الأخطر و الأدهى حسب اعتقادنا هو ما يجري في ظل هذا التعطيل الشامل للسلطة من تجاوزات صارخة للسيادة الوطنية التي تجري على مرأى و مسمع من كل رموز الدولة التونسية التي خلناها استوعبت الدرس المرير من الحقبة الاستعمارية و من الأحداث التي سبقت معاهدة باردو لسنة1881. و لعل المتأمل لما يجري من تصرفات و من تدخل في الشؤون الوطنية الداخلية في خرق صارخ لاتفاقية “فيينا” للعلاقات الدبلوماسية الصادرة في 18 أفريل 1961 خاصة من طرف كلا من سفير الاتحاد الأوروبي “بتريس برقميني” و السفير الفرنسي “أوليفي بوافر دارفور” الذين يمرران مغالطات كبرى، سافرة و منحازة حول الوضع الاقتصادي في البلاد و ذلك عبر وسائل إعلام تونسية بما فيها الوطنية بتواطئ و نقولها بكل أسف مع بعض الصحفيين التونسيين. هذا التصرف المسكوت عنه من طرف الدولة التونسية لا يبعث على الاطمئنان لما آل إليه الوضع في البلاد.
للتذكير تنص المادة 41 من اتفاقية “فيينا” للعلاقات الدبلوماسية أنه:
– 1 “يجب على جميع المُتمتّعين بالامتيازات والحصانات، مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدولة المُعتمد لديها و أنظمتها .ويجب عليهم كذلك عدم التدخل في شؤونها الداخلية”.
– 2 “كما يجب في التعامل مع الدولة المُعتمد لديها بشأن الأعمال الرسمية، التي تسندها الدولة المُعتمدة الى البعثة، أن يجري مع وزارة خارجية الدولة المُعتمد لديها أو عن طريقها،أو أية وزارة أخرى قد يتفق عليها”.
الدولة المعطلة
لذلك نعتقد أنه في الوقت الذي دخلت فيه البلاد سنة انتخابية بامتياز يشهد الوضع السياسي المزيد من التأزم. حيث قام حزب حركة النهضة بتعاون مع الكتلة البرلمانية المساندة لرئيس الحكومة الحالي و التي تبلورت في شكل حزب الحكومة، بعزل رئيس الجمهورية في قصر قرطاج و التقليص من دوره في مجريات السلطة التنفيذية. و رغم عديد المحاولات لمسك الأمور من جديد يبدو أن رئيس الجمهورية لم يتمكن من إرجاع الروح لما تبقى من حزب نداء تونس الذي شهد مزيدا من التشرذم و التشتت رغم العملية التركيبة مع الاتحاد الوطني التي سرعان ما باءت بالفشل.لذلك يبدو أن رئيس الجمهورية لم يتمكن إلى الآن من استرجاع دوره الذي كان محوريا في إدارة العملية السياسية. و نتيجة لهذه المناورات “السياسوية” طفحت على الساحة عديد الملفات التي يبدو أنها كانت في طي الكتمان بمقتضى اتفاق الشيخين في لقاء فندق “البر يستول” بباريس في أوت 2012.
كل هذه التحركات الفوضوية و الهدامة التي لا تعمل لصالح الوحدة الوطنية بقدر ما أضعفت كل الأطراف السياسية و جعلتها لقمة سائغة للتدخلات الخارجية التي باتت تتحكم في المشهد السياسي و تعمل على توجيهه و تسخيره لأهدافها السياسية و الاقتصادية طبقا لما خطط له كل طرف أجنبي سواء على المستوى الإقليمي مثل بلدان الخليج و تركيا أو على المستوى العالمي و في طليعته الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لتحقيق أهدافه الإستراتيجية لبسط هيمنته على بلدان منطقة جنوب و شرق المتوسط بعدما استوعب بلدان أوروبا الشرقية اثر انهيار الاتحاد السوفيتي و ذلك رغم ما تشهده هذه المجموعة من أزمات و تشكيك في تماسكها داخل البيت الأوروبي.
أما على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي فإن الوضع بات يهدد بمزيد التأزم حيث كل المؤشرات تبين التراجع الخطير للتوازنات المالية الداخلية و الخارجية.
على المستوى الداخلي ما زالت العملة الوطنية في تراجع ملحوظ على مدى السنة المنقضية مقارنة بأهم العملات العالمية حيث شهد متوسط تداول العملة بين البنوك حسب ما صرح به البنك المركزي التونسي ارتفاع قيمة الدولار إلى مستوى 3,057 دينار بتاريخ 14 فيفري الجاري مقابل 2,423 في نفس اليوم من سنة 2018 أي انهيار بنسبة 28,4 بالمائة في سنة واحدة. مع العلم أن الدولار الأمريكي يُعتبر العملة الأساسية التي تستعمل لمشتريات الطاقة في تونس كما في سائر بلدان العالم و هذا ما سيعمق العجز التجاري في هذا القطاع. كما ارتفعت قيمة اليورو إلى 3,457 دينار مقابل 2,977 دينار لنفس اليوم من السنة المنقضية أي بنسبة تدهور لقيمة الدينار ب16,1 بالمائة في سنة واحدة. أمام هذه الوضع لا توجد أي خطة حكومية لوقف هذا النزيف الذي يعتبر المعضلة الوطنية الكبرى الذي تتمحور حولها كل الأزمات الاقتصادية و المالية و الاجتماعية في البلاد.
كما شهد العجز التجاري في شهر جانفي 2019 انزلاقا خطيرا بنسبة 34,5 بالمائة في النظام العام أي نظام الشركات المقيمة مقارنة بنفس الشهر من سنة 2018 حيث ارتفع العجز إلى مستوى 2,6 مليار دينار مقابل 1,9 مليار دينار في جانفي سنة 2018. مع التذكير أن العجز التجاري الإجمالي في هذا النظام في سنة 2018 ارتفع إلى 29,2 مليار دينار مقابل 25,2 مليار دينار في سنة 2017 أي بزيادة بنسبة .
و بالتدقيق في أهم القطاعات التي تسببت في مزيد انهيار قيمة الدينار في شهر جانفي 2019 يتبين حسب ما صدر عن المعهد الوطني للإحصاء أن قطاع توريد السيارات شهد ارتفاعا ملحوظا بنسبة 63,7 بالمائة مقابل نفس الشهر من سنة 2018 (ارتفاع من 269,4 إلى 440,9 مليون دينار). كما شهد توريد قطاع الصناعات الكهربائية ارتفاعا من 208,4 إلى 318,7 مليون دينار في نفس المدة أي بنسبة 52,9 بالمائة. كما شهد توريد الطاقة ارتفاعا من 587,7 إلى 743,9 مليون دينار أي بنسبة 26,6 بالمائة.
مجلس نواب الشعب المعطل
حتى نتبين مدى عمق الأزمة على المستوى السياسي يجب التعريج على ما أصبح عليه المشهد داخل مجلس نواب الشعب الذي شهد ظاهرة السياحة النيابية و تفشي ظاهرة الغيابات من طرف كتلة الأغلبية حتى لو كان لتمرير قوانين مقدمة من طرف الحكومة. كما شهد تعطيل على مستوى تركيز الهيئات الدستورية و في مقدمتها المحكمة الدستورية وهو يعتبر تقصير ممنهج و غير بريء. كل هذه الظواهر أفقدت المجلس وقاره و دوره التشريعي و الرقابي و الدليل أنه إلى اليوم لم تنجح أي لجنة تم إقرارها من إنهاء مهامها و تأدية ما أنيط بعهدتها و ذلك تنصلا من المسؤوليات.
الوعود الجوفاء لمجلس التحاليل الاقتصادية
أمام هذا التدهور المستمر و الخطير للوضع الاقتصادي في البلاد أطل علينا مجلس التحاليل الاقتصادية الذي يترأسه عفيف شلبي وزير الصناعة الأسبق بين سنة 2004 و 2011 و الوزير الحالي المستشار لدى رئيس الحكومة منذ 22 سبتمبر 2017 بتصريح مفاده “أن لدى المجلس خطة خاصة لدعم الدينار و إجراءات لدعم القطاعات المنتجة بالإضافة إلى عقد اجتماعي جديد”.
طبعا هذا البرنامج من شأنه أن يبعث الطمأنينة في نفوس كل الذين يتحسرون على الوضع الاقتصادي في البلاد و لكن مع الأسف المتابع لتصريحات و مواقف السيد عفيف شلبي سواء أثناء تحمله المسؤوليات الوزارية السابقة خاصة على رأس وزارة الصناعة قبل 14 جانفي 2011 أو الحالية منذ 22 نوفمبر 2017 على رأس مجلس التحاليل الاقتصادية الذي يعتبر العقل المدبر للمسيرة الاقتصادية للحكومة الحالية. و حتى لا نظلم الرجل سوف نستعرض البعض من تصريحاته السابقة لنتبين مدى دقة تقييمه للوضع الاقتصادي في البلاد و مدى التزاماته بما صرح به من إجراءات للنهوض بالوضع الاقتصادي للبلاد.
1/ بتاريخ غرة مارس 2010 صرح عفيف شلبي وزير الصناعة و التكنولوجيا آنذاك في ندوة صحفية ما معناه “أن الأزمة الاقتصادية و المالية العالمية التي اندلعت منذ 2007 و 2008 لم تكن لها إلا تبعات عابرة على تونس”. و أن الانتعاشة في قطاع الصناعة أصبحت ملموسة و فاعلة و بطريقة جد عالية” حيث أكد “أن نسبة النمو في قطاع الصناعات الميكانيكية و الكهربائية لشهر جانفي (2010) فقط كان في حدود 32 بالمائة” كما أضاف “أن الأزمة العالمية لم تمنع نسبة الاستثمار الصناعي بأن يحافظ على المستوى (يوحي العالي) الذي كان عليه في سنة 2008 (أي قبل استفحال الأزمة الاقتصادية و المالية العالمية) و التي ارتفعت إلى مستوى 1,4 مليار دينار” حسب تصريحه و بدون تفصيل لهذا المبلغ بين الاستثمار الداخلي و الخارجي و بين القطاعات خاصة منها الصناعية المعملية المشغلة و الاستثمار في قطاع الطاقة الذي كان و ما زال إلى اليوم يستقطب أكثر من 70 بالمائة من الاستثمار الخارجي؟
و أمام هذه التصريحات غير المسؤولة سبق أن جاء ردا استباقيا اثر اندلاع انتفاضة الحوض المنجمي في سنة 2008 ثم تسارع اثر اندلاع الثورة بداية من 17 ديسمبر 2010 و إلى 14 جانفي 2011 تاريخ سقوط النظام الذي تحمل فيه مسؤوليات عالية بدءا بوكالة النهوض بالصناعة و وصولا على رأس وزارة الصناعة لما يناهز السبعة سنوات على التوالي.
أما التصريح الثاني الذي نعرضه جاء بتاريخ 3 جويلية 2018 و يتمحور حول خطة تتكون من عشر نقاط لإنعاش الاقتصاد الوطني و الذي يمر حسب ما جاء على لسانه “عبر خطة لإنقاذ الدينار تحتوي على عدة إجراءات جدية لرد الاعتبار لقيمة العملة الوطنية” و “وضع الأسس لعقد اجتماعي جديد”. كما تحدث عن ضرورة “اتخاذ إجراءات لدعم القطاعات المنتجة ذكر من أهمها توحيد الأداء على هذه القطاعات بالتساوي بين القطاع المقيم (الشركات الوطنية بالأساس) و قطاع الشركات غير المقيمة و المصدرة كليا و ذلك عبر التخفيض في نسبة الأداء إلى الحد الأدنى أي بنسبة 10 بالمائة “. غير أن ما تغافل عن ذكره التقرير أن هذا الإجراء جاء نتيجة للضغط الخارجي حيث صنفت تونس ملاذا جبائيا لأنها مكنت الشركات الأجنبية من إعفاءات تامة من دفع الضرائب على حساب مصلحة الوطن كما مكنتها من منح سخية.
أما الرد على هذا التصريح الذي جاء اثر اجتماع مجلس التحاليل الاقتصادية في اجتماعه الموسع برئاسة رئيس الحكومة “بدار الضيافة” بتاريخ 30 جوان 2018 وهو يتحدث على برنامج انتعاشة الاقتصاد الوطني للسداسي الأول لسنة 2018 !! فقد تجسم هذا الرد عبر المزيد من تدهور قيمة الدينار ب16,1 بالمائة مقارنة باليورو و 28,4 بالمائة مقارنة بالدولار الأمريكي و تعميق العجز التجاري بنسبة تفوق 16 بالمائة مقارنة بسنة 2017. كما شهد تراجع الإنتاج الصناعي و شبه انعدام لخلق مواطن الشغل مما دفع بأبنائنا و خاصة منهم أصحاب الشهادات الجامعية إلى الهجرة المتزايدة التي أصبحت تهدد مستقبل البلاد و أمنه. كما شهدت البلاد عديد الظواهر الاجتماعية الخطيرة نذكر من بينها ظاهرة انقطاع ما يناهز 100 ألف طفل سنويا عن التعليم يتراوح سنهم بين 12 و 16 سنة و ذلك 50 بالمائة منهم نتيجة الفقر و الاحتياج البقية نتيجة أسباب بيداغوجية تتعلق بالعلاقة بين المدرسة و الطفل. هذه الأفواج التي تستمر منذ عدة سنوات تنبئ بمخاطر كبرى أيضا تهدد أمن و استقرار البلاد حي في ظرف عشرة سنوات سوف يرتفع عدد المنقطعين مبكرا عن الدراسة أكثر من مليون طفل.
و رغم هذا الرد القاسي و الرهيب ما زال مجلس التحاليل الاقتصادية يردد نقاطه العشر بتاريخ 3 فيفري 2019 حول حلوله لرد الاعتبار للدينار و انتعاش الاقتصاد و لكن مع كل الأسف قولا بلا فعل كالعادة. و لا نستغرب من ذلك عندما يأتي هذه الخطاب من وزير ما زال ينادي بضرورة التمسك بقانون 1972 وهو الموقف الذي تبناه رئيس الحكومة بدون في إحدى تدخلاته مما يدل أنه رافض لكل تغيير يقطع مع المنوال الذي كرس سياسة المناولة التي كانت محل نقد لاذع من طرف عديد الخبراء في العالم و من المنظمات الدولية بما فيها البنك الدولي في تقريره الصادر في سنة 2014 تحت عنوان “الثورة غير المكتملة” و رغم النتائج الكارثية لهذه السياسة التي أدت إلى انهيار الاقتصاد الوطني على مدى ثلاثين سنة.
الحل : لابد من برنامج إنقاذ وطني عاجل يتم الاتفاق عليه بين كل القوى الوطنية بجميع أطيافها
لقد تأكدت ضرورة إنقاذ البلاد من هذه الأزمة العميقة و التي تتطلب الدعوة العاجلة لمؤتمر إنقاذ وطني يطرح كل الإخلالات و في مقدمتها ضرورة استرجاع السيادة الوطنية في قراءة عميقة و إستراتيجية لكل ما يجري من تحولات هامة في العالم من أهمها بروز الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية داخل البلدان الغربية مثل “البريكسيت” و الأزمة الاجتماعية الفرنسية. كذلك لابد من فتح النقاش الموضوعي و الجدي حول تقييم مسار اتفاقيات الشراكة و تداعياتها على المسيرة التنموية. كما يجب تحديد برنامج وطني لرد الاعتبار للعملة الوطنية بصفته المحور الأساسي لاسترجاع التوازنات المالية الخارجية و الداخلية و وضع خطة وطنية لمقاومة ظاهرة التصحر الصناعي و إعادة النظر في مفهوم القطاعات الأساسية للاقتصاد الوطني و اعتبار الاقتصاد المنتج و الاستثمار الداخلي القاطرة الأساسية لإعادة بناء المسيرة التنموية وطنيا و على أسس سليمة تبعث الأمل في الشعب التونسي و خاصة لدى الشباب لوقف نزيف هجرة الأدمغة المدمر.