الشارع المغاربي: تحقق لحركة النهضة التونسية ما لم يتحقق لأية حركة عربية إسلامية أخرى في الوطن العربي ودون انقلابات وعبر الصندوق(على جميع المستويات من حكومة وبرلمان وحكم محلي )، ونزل رئيسها هذه المرة الغنوشي بنفسه للميدان وتخلى عن فكرة المراقبة عن بعد وهو الذي فضل – بعد أن رفض تحمل أية منصب في السابق وكان بإمكانه أن يفعل ذلك والحكم تحت إشارته – أن يترشح بنفسه كنائب ثم يفوز برئاسة البرلمان وكان ذلك تتويجا لمسيرة طويلة وعريضة اين ترك بصماته في ساحة النضال وفي المعارضة وهو الذي عاش نحو عقدين في المنفى بالعاصمة البريطانية لندن، ثم عاد إلى تونس بعد سقوط نظام بن علي عام 2011، وأسهم ولا زال مع حركته في تذليل عقبات المرحلة الانتقالية بعد فوزها في انتخابات المجلس التأسيسي ونجح إلى حد كبير في إقناع قطاع هام من الرأي العام في الغرب وأمريكا بأن النهضة تلعب دوارا محوريا في المحافظة على التجربة الديمقراطية وإنها تسير على نهج تجربة “الأحزاب المسيحية الديمقراطية “ويبحر الآن عبر الدبلوماسية البرلمانية بعد أن أسس للدبلوماسية الشعبية وتجد فيه الأطراف الخارجية المخاطب المعتدل والوازن في المشهد السياسي التونسي والواعي بثقل الحراك السياسي الجاري على حدود تونس.
ودخل الغنوشي إذن من الباب العريض للبرلمان ليصبح الشخصية الأولى في المجال التشريعي وثاني شخصية في البرتوكول الرسمي في البلاد بعد رئيس الجمهورية وعضوا بمجلس الأمن القومي…نعم وبالتأكيد للغنوشي منافسين وخصوم في الداخل والخارج وحتى من الموالين له ومن حركته واليوم يعيش تجربة مريرة مع بعض رموز منظومة الفساد والاستبداد ويُؤاخذه البعض على أن هناك مناطق غير واضحة ومحل اشتباه في خطابه السياسي يقترب فيها من التفرد بالرأي والتشدد والغموض في سياساته وتصوراته كما تؤاخذه اليوم أطراف اخرى على عدم الحزم واستعمال القوة في إدارة جلسات البرلمان رغم ان الكل يعلم أن العديد من تلك الدعوات هي فخاخ ملغمة لجره إلى مربع العنف لتسهل إدانته والتنديد به بعد ذلك ، ولكن العديد من الملاحظين يعتبرونه يدير اليوم المرحلة على تعقيداتها وتنوع مساراتها وسياقاتها (من تشكيل حكومة ،والتعامل مع مختلف الأطياف السياسية في البرلمان والتفاعل مع رئيس الدولة والأوضاع الخارجية المتحركة …) بكثير من الصبر والحكمة مثلما فعل ذلك عندما قلب المعادلات السياسية في أكثر من مرة لإحداث نوع من التوازن السياسي على غرار صيف 2013 بعد محنة الاغتيالات السياسية التي كادت تربك المرحلة الانتقالية، وبعدها سنة 2014 مع المرحوم الباجي قايد السبسي حيث أسسا لصناعة الاستثناء التونسي ولعملية توافق جنبت البلاد الكثير من الصراعات والهزات الاجتماعية والسياسية.
واليوم يواجه الغنوشي الحكم وتحدياته وإكراهاته من قلب الدولة وليس من أطرافها كما كان الأمر سابقا وهو الذي يعلم أن الشعب لم يعد يرغب في مشاهدة هذه الصور والرسائل المحمولة على الرداءة والعبث السياسي وأن إنتظاراته بعد هذه الانتخابات تتجاوز المنجز السياسي على أهميته ، لتزيين مخرجات الثورة وانه لم يعد يكفي ليحجب علينا فشلنا الذريع في المنجز الاقتصادي والاجتماعي وعجز مختلف الحكومات على إيجاد الحلول الملائمة لتعقد أوضاعنا المعيشية والحياتية. والغنوشي وهو يتحرك من أهم مركز للحكم في نظام برلماني ، يعلم قبل غيره أن الانتخابات بحكم نتائجها تتطلب العمل على تعزيز التوافق على أجندة وطنية، معالمها واضحة وسقفها ملزم للجميع, إذ لا يمكننا الولوج إلى المرحلة المقبلة دون تحديد دقيق لبرنامج وطني وفق رؤية جامعة وتقدير مشترك للمخاطر المحدقة بالمسار داخليا وخارجيّا. وأن الشأن السياسي يحتاج الى فاعلين أكفاء يعملون معا على ما فيه خير الوطن وتحقيق الصالح العام وتلك مهمة الحكومة القادمة الموكل إليها إدارة الشأن العام والتي من الضروري أن تسعى بكل جدية لإستنفار كل القوى الخيرة في سبيل تحديد وإنجاز حزمة من الأولويات الضرورية كمقدمة ومدخل لمد جسور الثقة وإرجاع الأمل للمواطنين ومن هنا تتكاثر إنتظارات الجميع للإضافات الحقيقية للغنوشي وقد بات وجها لوجه مع الحكم.