الشارع المغاربي : في الوقت الذي يترقب الشعب التونسي تكوين الحكومة على أمل معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، نشر المعهد الوطني للإحصاء المعلومات الخاصة بالمبادلات التجارية لسنة 2019 التي أفضت إلى أرقام مُروّعة حول ما وصل إليه العجز التجاري في النظام العام للمؤسسات المقيمة حيث بلغ رقما قياسيا فظيعا في حدود 31,2 مليار دينار خارقا بذلك كل المقاييس المعتمدة عالميا. كما يتبين من خلال الإحصائيات المنشورة عدة تجاوزات على مستوى التوريد و التصدير التي سنتعرض لها مع تقديم جملة من الحلول لمعالجة هذه المعضلة التي تُهدّد الأمن القومي الاقتصادي.
تعتبر التوازنات المالية الداخلية و الخارجية من أهم المؤشرات التي تُعتمد عالميا لتقييم مدى متانة اقتصاد الدول. من ذلك فإن تقييم مردود الميزان التجاري للبضائع و الخدمات يبقى المعيار الأساسي لمعرفة الوضع المالي لكل بلد في تعامله مع الخارج. لهذه الأسباب تبدو الحرب التجارية القائمة بين الدول الكبرى خاصة بين الولايات المتحدة و الصين و بلدان الاتحاد الأوروبي محورها الأساسي السعي لتحقيق فائض تجاري في معاملاتها التجارية لتضمن خلق الثروة و خلق مواطن الشغل لشعوبها.
و سعيا لتقديم المنظومة التجارية في تونس يجدر التذكير أن المنوال التنموي في بلادنا الذي يعتمد منذ السبعينات على المناولة لصالح الشركات الأجنبية غير المقيمة و المصدرة كليا دفع الدولة التونسية على مستوى إدارة الديوانة الوطنية إلى اعتماد نظامين منفصلين لتحديد طبيعة المبادلات التجارية الوطنية مع الخارج. النظام الأول و يسمى «النظام العام» «Régime géneral» خاص بالمؤسسات المقيمة (onshore) التي تنشط في السوق المحلي وهي ترضخ إلى قانون الصرف للبنك المركزي في عمليات التوريد و التصدير فهي بذلك مُلزمة باسترجاع مداخيل التصدير و بخلاص المواد الموردة عبر فواتير تصدير و توريد يتم إيداعها لدى البنوك لمتابعة عمليات الدفع في الاتجاهين. لذلك يؤكد البنك المركزي في تقاريره الأخيرة حول التجارة الخارجية على أن هذا النظام له علاقة مباشرة برصيد البلاد من العملة الأجنبية إيجابا و سلبا. أما النظام الثاني فهو خاص بالمؤسسات غير المقيمة و المصدرة كليا «Régime offshore» وهي لا ترضخ إلى قانون الصرف للبنك المركزي التونسي لذلك فهي غير مُلزمة بدفع قيمة المواد الموردة و لا تسترجع مداخيل تصدير منتوجاتها إلى الخارج. غير أنها مُطالبة بالقيام بمجرد تصريح تلقائي و غير مراقب لدى الديوانة بقيمة المواد الأولية عند دخولها و بقيمة المواد التي تمت مناولتها في تونس عند خروجها.
لذلك يقتصر مردود هذه المؤسسات على الأجور زيادة على كل مكونات كلفة الإنتاج داخل البلاد التونسية كما جاء في الإصدار السادس لدليل ميزان الدفوعات الصادر منذ سنة 2008 عن صندوق النقد الدولي و الذي تم تطبيقه من طرف الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2010 و لم يتم تطبيقه في تونس إلى اليوم سعيا لتقليص العجز التجاري الحقيقي في البلاد وهو تصرف خطير يرتقي إلى مستوى تزوير اختلال التوازنات الخارجية للبلاد.
من هذا المنطلق دأب المعهد الوطني للإحصاء على تقديم إحصائيات التجارة الخارجية بطريقة مفصلة لكل نظام على حدة الشيء الذي يُمكن من معرفة مردود النظامين: الأول مدى تغطية الواردات بالصادرات بينما يقتصر تبيان أهمية نشاطه على مستوى التشغيل و تأثيره على ميزان الخدمات.
جدول بياني لتطور العجز التجاري في «النظام العام» المقيم بين سنة 2009 و 2019 بالمليار دينار:
المصدر: المعهد الوطني للإحصاء و البنك الدولي
نلاحظ أن العجز التجاري تضاعف بنسبة ٪144 في المدة بين سنة 2010 و سنة 2019 نتيجة تنامي التوريد المكثف و الفوضوي و نتيجة ركود شبه تام للتصدير مما أدى بدوره إلى انهيار قيمة الدينار نتيجة الطلب المرتفع على العملة الأجنبية. هذه الإحصائيات اتبين أن العجز التجاري في تونس له طابع هيكلي و عميق ناتج عن منوال تنموي متكلس و غير منتج للقيمة المضافة خاصة على مستوى القطاعات الإستراتيجية مثل الفلاحة و الصناعة. كما يدل أن التصدير يكاد يقتصر أساسا على المنتوجات المنجمية (الفسفاط و مشتقاته) وعلى المنتوجات الزراعية التقليدية مثل زيت الزيتون و التمور و القوارص و منتوجات الصيد البحري.
تنامي العجز التجاري و انهيار قيمة الدينار أدى كذلك و بصفة مباشرة إلى تفاقكم المديونية العمومية التي ارتفعت من 25,5 مليار دينار في سنة 2010 إلى أكثر من 83 مليار دينار في أواسط سنة 2019. العلاقة المباشرة بين المديونية و التوريد تتجلى من خلال هيكلة المديونية العمومية التونسية التي تطغى عليها نسبة المديونية الخارجية التي يمثل أكثر من ٪73 من إجمال الدين العمومي. من ذلك فإن تداعيات انخفاض قيمة الدينار مقارنة باليورو و الدولار الأمريكي بين سنة 2014 و أواسط سنة 2019 مثلت ما قيمته 21,8 مليار دينار من الدين الخارجي. و بالمقارنة فإن الدين الخارجي للمغرب لا يمثل إلا ٪30 من إجمالي الدين العمومي و قد ساهم تماسك قيمة الدرهم المغربي الذي بقى ملتصقا بقيمة اليورو في تقلص المديونية الخارجية للبلاد؟ كذلك الشأن بالنسبة افرنسا و اليابان حيث يمثل الدين الداخلي أكثر من ٪90 و ذلك سعيا لتفادي أي خطر على السيادة الوطنية علاوة على متانة اليورو و اليان الياباني كأقوى العملات العالمية. أما على مستوى نسبة تغطية الواردات بالصادرات و التي تدحرجت من ٪41,7 إلى ٪ 26,4 فقط في سنة 2019 فيمكن التأكيد على أن هذه النسبة تعتبر من أدنى ما هو موجود في العالم وهو أمر شديد الخطورة لأنه يثبت أن تونس تمعن في التوريد الفوضوي و المكثف عبر اللجوء إلى الديون الخارجية بطريقة غير مسؤولة خاصة أن ما يدره صافي ميزان الخدمات عبر السياحة و تحويل عمالنا بالخارج لا يغطي عجز الميزان التجاري للبضائع.
جدول بياني للعجز التجاري التونسي في النظام العام مع اهم البلدان سنة 2019 بحساب المليار دينار
المصدر: المعهد الوطني للإحصاء
*إحصاء تقديري موثوق به. مع الملاحظ أن السلطة التونسية و كلا من الاتحاد الأوروبي و فرنسا يدعون زيفا أن مبادلاتنا مع الطرف الأوروبي متوازنة و ذلك عبر إدماج مبادلات مؤسساتهم غير المقيمة و المصدرة كليا و الحال انها لا تسترجع مداخيل التصدير بمقتضى قانون الصرف للبنك المركزي.
تجاوزات خطيرة عند التوريد و التصدير
هذا الوضع الخطير الذي ثبت أنه نتيجة مباشرة لهيمنة لوبيات التوريد على القرار الوطني يُفسر بدرجة كبيرة الطريقة التي تتوخاها الحكومات المتتالية و التي تعتمد أساليب المغالطة لتبرير تدهور الميزان التجاري في بلادنا. من ذلك فهي غالبا ما تتستر بتنامي عجز الميزان الغذائي أو عجز ميزان الطاقة و موهمة بكونها قطاعين أساسيين لا يمكن تفادي توريدها. هذا التبرير لا يصمد أمام ما تمكنا من كشفه عبر دراسة تفاصيل التوريد و التصدير في المبادلات التجارية للبلاد: من ذلك فإن قيمة توريد الغاز الطبيعي (نصفه تقريبا مستخرج من بلادنا يشترى بالعملة الأجنبية و بالسعر العالمي) شهد ارتفاعا هاما بين سنة 2018 و سنة 2019 من 2,2 مليار دينار إلى 3,7 مليار دينار أي بزيادة ب1,5 مليار دينار و بنسبة ٪68,2 و الحال أن السعر العالمي للغاز الطبيعي شهد انخفاضا هاما في سنة 2019 بنسبة ٪50 في أوروبا حسب الجريدة الفرنسية المختصة «Les Echos» الصادرة بتاريخ 16 جوان 2019 ؟ مع العلم وهو أمر غريب جدا فإن مصدر المعهد الوطني للإحصاء نشر مبالغ المشتريات لم يذكر الكميات المشترية؟؟ كما أن التراجع الملحوظ في إنتاج القطاع الصناعي بنسبة ٪ 3,9- يثبت أنه لا توجد زيادة في الاستهلاك؟ لذلك نرجو من السلطة المسؤولة إنارة الرأي العام حول هذا الموضوع. نفس الملاحظة بالنسبة لتوريد البترول المكرر الذي عرف ارتفاعا ب0,9 مليار دينار بين السنتين و من دون ذكر الكميات الموردة؟ نلاحظ أيضا أن توريد كميات مادة السكر غير مستقرة كما كان الشأن قبل سنة 2011 حيث استقر الاستهلاك المحلي ما بين 230 ألف طن سنويا و 300 ألف طن في أقصى تقدير.ما لوحظ أنه في سنة 2018 تم توريد 716 ألف طن بمبلغ 611 مليون دينار و في سنة 2019 توريد 498 طن بمبلغ 473 مليون دينار؟ كما لاحظنا تصدير الإسمنت المحلي بأسعار متدنية جدا مقارنة بسعر البيع في السوق المحلية أي ب114,8 دينار للطن الواحد في سنة 2019 مقابل 168 دينار للطن محليا (سعر بدون احتساب الأداء) أي انخفاض بنسبة ٪ 46,3 مما يضر بقطاع البناء داخل البلاد علاوة على خطر تهريب الأموال إلى الخارج عبر التقليص في أسعار التصدير وهي ممارسات مألوفة في التجارة الخارجية.
الحل في ترشيد التوريد و تنشيط الاقتصاد المحلي المنتج للمحافظة على الامن الاقتصادي الوطني
يتضح من خلال ما نشره المعهد الوطني للإحصاء أن تونس استوردت 262 طن من الزيوت النباتية بمبلغ 532,5 مليون دينار بالعملة الأجنبية عبر الديون في سنة 2019 مقابل 235,7 طن بمبلغ 480,3 مليون دينار في سنة 2018. كما أن الحكومة دعمت هذا المنتوج الخارجي المستورد بما قيمته 277 مليون دينار في سنة 2019. و قد كان من الأحرى ترشيد التوريد عبر دعم و تشجيع استهلاك الزيت المحلي لتفادي الديون الخارجية المكلفة علاوة على منافع زيت الزيتون بالنسبة لصحة المواطنين. كما أن تونس تستورد مادة السكر بما قيمته 473 دينار في سنة 2019 و 611 مليون دينار في سنة 2018 بالعملة الأجنبية عبر الديون و كان بالإمكان استعمال جزء فقط من هذه المبالغ لبعث مصانع إنتاج السكر محليا عبر تنمية زراعة اللفت السكري كما اعتادت عليه بلادنا منذ الستينات. لذلك نؤكد أن ترشيد التوريد ممكن و تنشيط الاقتصاد المحلي المنتج ضرورة قصوى لدفع المسيرة التنموية و لخلق مواطن شغل المستدامة لأجيالنا و هذا لن يتوفر إلا بإرادة سياسية قوية لوضع حد لهيمنة لوبيات التوريد التي تهدد البلاد بالإفلاس.
نُشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة يوم الثلاثاء 21 حانفي 2020