الشارع المغاربي: ليس أعسر على التونسي اليوم من أن يجمع بين فضائل المواطنة بما تفرضه من احترام مؤسسات الدولة، مهما كان حجمها، وتقدير المؤتمنين على سيرها مهما كانت مراتبهم من ناحية، واحترام ذاته، من ناحية أخرى، بما يوجبه الاحترام من موازنة بين الحقوق والوجبات، وأولها جميعا حرية التفكير والتعبير في جميع شؤون الوجود البشري، الفردي منها والجمعي ،والأخلاقي منها والسياسي.
وعسر ذلك الجمع لازم على ما صارت إليه مؤسسات الدولة من أوضاع متراوحة بين راهن يدمي القلوب، ومستقبل يدعو إلى الفزع، وما أصبح عليه “رجال الدولة” من بؤس عام تقاسمه عجز يدعو إلى الشفقة، ومواقف تستدعي الحزم واليقظة حتى حين يوجب الحزم اليقظة أن يصيح الشعب بصوت واحد :”إن الملك عار”، وحتى حين يمكر بعض العراة المتفيهقين فيسمون تلك الصيحة الآتية “عصيانا مدنيا” !
1/وهل عراء –أولا – أجلى مما نحن فيه: فقد جاءنا الإسلام السياسي في غمرة الحلم بالخلافة السادسة، جاءنا – بمالنا وعرق جبيننا- بجهلة يقولون لنا – في اطار فتح جديد- موتوا بغيظكم !ذلك اثم لن يمحوه الدهر !
أما اليوم فقد جاءنا من العصور الخوالي سلطان ذهب بنفسه حتى استطاب تقتيل إخواننا في سوريا وأباح لنفسه أن يشنع علينا – في عقر دارنا- نمط عيشنا، وكأن حكمة ربك غاصت عليه غوصا ! وعلى قدر ثقتنا في أن الله يحمي الإسلام المحمدي من جميع أصناف تجار ”الإسلام السياسي”، وعلى قدر احترامنا الكامل لإرادة الشعب التركي الشقيق، فإننا أشد ما نكون حرصا على احترام كرامة شعبنا وسيادة دولتنا، في جميع الظروف ومن جميع الأشقاء والأصدقاء، لاسيما حين يتعلق الأمر بأطراف لن تخسر تونس شيئا ذا بال حين تستغني -عند الحاجة- عن جميع ألوان التعامل معهم ! ولن تحترم تونس من لا يحترم شعبها ودولتها ورئيسها !
2/-وهل عراء –ثانيا –أشف من كذب من تقوّل على تونس شعبا ودولة وقيما وتاريخا وانجازات، حين ادعى يوم عاد أمس من هروب إرادي، ليقول لنا انه وجد تونس ”خرابة”؟ لاريب في أنه ليس ثمة تونسي أصيل يدعي أن انجازات دولة الاستقلال كافية، ولكن ليس ثمة أيضا تونسي بار بوطنه ينكر ما أنجزته دولة الاستقلال. فقد حقق شعبنا من سنة 1961 حتى سنة 2011 نسبة نمو لا تقل عن 5 % سنويا في مقابل نسبة 1،5 % من سنة 2011 حتى سنة 2015. وتبعا لذلك نما الدخل الفردي –خلال الفترة ذاتها- بنسبة 3 % سنويا في حين كانت تلك النسبة لاتتجاوز 2 % عالميا و1،4 % عربيا. وطبيعي أن ينتج عن ذلك اتساع أمل الحياة عند التونسي إذ مرّ من 47 سنة في أوائل الاستقلال الى 75 سنة حاليا. وبديهي أن ذلك الانتصار الحيوي ما كان ليتحقق لو لم تتخرج من مدرسة الجمهورية -وقد بنيت على أركان وثيقة- فيالق من الأطباء الأكفاء بحيث مر عددهم من 200 طبيب سنة 1960 الى000 12 طبيب راهنا وبذلك تحسنت نسبة التغطية الصحية فمرت من حوالي طبيب لكل. 000 200 ساكن الى طبيب لكل 900 ساكن. وقد اندرج ذلك الجهد في عمل انمائي اشمل كان الدور الأساسي فيه للمعلم التونسي، حيث مر عدد المعاهد الثانوية مثلا من حوالي 15 معهدا سنة 1960 الى أكثر من 1400 معهد حاليا. لذلك ارتفع عدد الطلبة من حوالي 2000 طالب في سنوات الاستقلال الاولى الى حوالي 000 .380 حاليا فضلا عن توفير الكهرباء والماء الصالح للشراب في كافة أنحاء الجمهورية بنسبة تقارب 100 %… وان كان المجال لا يتسع للمضي في تذكير الغافلين والحاقدين بما أنجزت الدولة الوطنية في بقية المجالات الحيوية كالفلاحة والصناعة والتجارة فانه ما من تونسي بار بوطنه لا يعترف بأن ما بقي عليه انجازه أكثر واخطر، لاسيما في تحيق التوازن التنموي بين الجهات وفي التشغيل وفي الحفاظ على تلك المكاسب والانجازات ذاتها خاصة وقد أصبحت مواضع تدمير ممنهج . .لذلك كان معنى مقالة الهاذي ”بان تونس بقيت خرابة مدة خمسين سنة” لم يكن -في الحقيقة الا مقدمة- صنانها كريه المشمة -لتخريبها. والحق أن أشواطا بالغة الخطورة قطعت في هذا المجال حتى أصبح اليوم حلم التونسي بالارتقاء بدولة الاستقلال التي أسسها الحبيب بورقيبة رحمه الله والذين معه صعب المنال ’يتطلب من التضحيات أجلها وأولها تجاوز خطوط الفصل التقليدية بين “اليمين” و”اليسار”. فخط الفصل اليوم واقع بين ”الوطني” و”اللاوطني” ’بين تونسي بمجرد الوثيقة الإدارية من جهة، وتونسي الهوية والهوى، والبذل والعطاء، والالتزام والولاء من جهة أخرى.
3/ وهل عراء -ثالثا- أوضح دلالة مما أوقعنا فيه “ساستنا”بقيادة الإسلام السياسي -بجميع شرائحه – من خباط لا يضبط هو مزيج من الاسلال و الاغلال (بكسر الهمزة في الحالتين)، ومن المال الفاسد والمكر الناجز على نحو ما تشهده كل يوم في سوق المقايضات السياسوية وأنشطة بعض الجمعيات الإجرامية على حساب الوطن ،فضلا عن انتشار قوى الإرهاب والاعتداءات اليومية على أمن المواطنين عامة والمواطنات خاصة، وامتلاء مخازن الأسلحة بسند إيديولوجي من فوضى عششت فيها منابر وقنوات إذاعية وتلفزية خارجة عن القانون .أليس من علامات انهيار الدول تكاثر القوانين وتعمق العجز عن إنفاذها فإذا هي الجريمة ولا عقاب . وهل أدل على ذلك -مثلا – من واقعة الاعتداء على العلم التونسي في جامعة منوبة دون أن تحرك حكومة الإسلام السياسي وقتها ساكنا ؟ ولا داعي لتعداد الأمثلة، فبيان الواضحات من الفاضحات !وأي معنى –عندئذ -للانتخاب والبناء الديمقراطي في مثل هذه المدارات الحزينة ؟
لذلك كله بدا لي منذ سنوات أنه لا أمن لتونس أرضا وشعبا ودولة إلا بقواتها المسلحة يتقدمها الجيش الوطني وبتماسك جميع تنظيماتها الاجتماعية الوطنية يتقدمها الاتحاد العام التونسي للشغل .تلك هي اليوم الأولوية المطلقة حتى ولو كلفتنا الدماء والدموع . ولا معنى اليوم لادعاء المبادرة بإصلاحات كان أمرها ما كان، ولا لأية بادرة سياسية أو اقتصادية أو تربوية أو ثقافية …ما لم تندرج في أفق حركة إنقاذ شاملة تحفظ الوطن المهدد ،وترتقي بدولة الاستقلال إلى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية .تلك هي –بلا منازع –الأولوية الوطنية المطلقة اليوم. وهل من معنى للتحول الديمقراطي إلا بانجاز حرية المواطن ؟وهل تكون حرية المواطن إلا بحرية الوطن؟