الشارع المغاربي – «مسار 25 جويلية»... رهين إنقاذ الاقتصاد الوطني/ بقلم : جمال الدين العويديدي

«مسار 25 جويلية»… رهين إنقاذ الاقتصاد الوطني/ بقلم : جمال الدين العويديدي

28 أغسطس، 2021

الشارع المغاربي: رئيس الجمهورية مُطالب بـ : – إصدار مرسوم لاسترجاع سلطة الدولة على البنك المركزي – اتخاذ قرار لترشيد التوريد حفاظا على التوازنات المالية الخارجية

ما يجري من صدام داخل الدول وخاصة منها النامية بينها وبين بنوكها المركزية التي تم سحب سلطتها عن «الدولة الوطنية» بدعوة باطلة أريد بها حق تحت عنوان «استقلالية البنوك المركزية» مُلفت للانتباه ويُنذر بمخاطر كبيرة تُهدّد كيان الدول ومستقبل شعوبها.

وهي مسألة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة مُدبّرة من طرف المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية التي ترعاها لصالح شركاتها العالمية بالتوافق مع اللوبيات المحلية وفي مقدمتها «كرتال» المؤسسات المالية المحلية المنتفعة مباشرة من تغيير قانون البنك المركزي على غرار القانون عدد 35 الصادر في تونس سنة 2016.

التداعيات السياسية لهذا التوجه خطيرة جدا حيث تم سحب سُلطة الدولة عن أهم مؤسسة سيادية في عُهدتها مساندة الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تشجيع القطاعات المنتجة بتمويل مُيسّر وبنسبة فائدة منخفضة وعبر تقديم السيولة المالية للخزينة العمومية بطريقة مباشرة ومضبوطة ومجانية أو شبه مجانية. كما في عُهدتها أيضا المحافظة على التوازنات المالية الخارجية للبلاد والدفاع عن قيمة العملة الوطنية بوصفها همزة الوصل بينها وبين المُعاملات الخارجية للدولة. ذلك أن أي انهيار العملة المحلية يؤثر مباشرة على الميزان التجاري للبلاد وعلى المديونية الخارجية علاوة على تداعياته على التضخم «المستورد» وتأثيره على كلفة المعيشة للمواطن وعلى ديمومة ونشاط المؤسسات العمومية والمؤسسات الصغرى والمتوسطة الخاصة.

تقويض دور البنك المركزي في دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والدفاع عن العملة الوطنية

هذا التقويض لدور البنك المركزي في الدفاع عن العُملة الوطنيةفي تونس تأكّد مباشرة بعد التصويت على قانون البنك المركزي عدد 35 المرخ في أفريل 2016، حيث قام وزير المالية ومحافظ البنك المركزي التونسي آنذاك مباشرة (الثاني من ماي 2016) بتوجيه رسالة نوايا إلى المديرة العامة لصندوق النقد الدولي مصحوبة «بمذكرة السياسات الاقتصادية والمالية» تعهد بمقتضاها الطرف التونسي بتنفيذ كل ما جاء بتفاصيلها. وقد أكد الطرف التونسي في النقطة السابعة من الرسالة: «نحن مقتنعون بأن السياسات المعروضة في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية كفيلة لتحقيق أهداف برنامجنا الاقتصادي (وعدت بنسبة نمو ب%4 سنويا بين 2017 و2019 وفشلت في تحقيقها ونسبة النمو سنة 2019 كانت في حدود %1 فقط). وأضاف» من جهة أخرى، سنظل يقظين ومستعدين لاتخاذ أي إجراء آخر قد يكون ضروريًا لتحقيق هذه الأهداف. كما نتعهد باستشارة خبراء صندوق النقد الدولي حول كل ما جاء في هذه المذكرة ونتعهد أيضا باستشارتهم مُسبّقا حول أي تغيير يطرأ على هذا البرنامج الاقتصادي».

بالإضافة إلى هذه الالتزامات السالبة للسيادة الوطنية تضيف مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية تحت باب «السياسة النقدية» تكريسا للتوجه الليبرالي المجحف «أنه تم تعزيز إطار السياسة النقدية بمساعدة فنية من بنك فرنسا (البنك المركزي الفرنسي تربطه اتفاقية توأمة مع المركزي التونسي وُقّعت بعد الثورة) وموظفي صندوق النقد الدولي، حيث بدأنا في أفريل 2016 في صياغة دليل إجراءات لعمليات السياسة النقدية».

هذا الدليل ُتوّج في النقطة السابعة عشر بوضوح حيث أكد الطرف التونسي أن هذا التغيير الجاري نحو السياسة النقدية الليبرالية المحضة حول سعر الصرف سيؤدي إلى ترك السوق تتحكم في سعر الدينار. بمعنى تعويم كامل للعملة الوطنية والتي بدأت فعليا منذ سنة 2014 في خرق صارخ للدور الأساسي للبنك المركزي في الدفاع عن قيمة العملة الوطنية. حيث انهارت قيمة الدينار مباشرة بعد التصويت على قانون البنك المركزي وتوجيه رسالة النوايا إلى صندوق النقد الدولي بنسبة %38 بين سنة 2016 وسنة 2019. فكانت النتيجة كارثية على الاقتصاد الوطني وخاصة على مستوى ارتفاع الديون العمومية الخارجية التي ارتفعت بنسبة %30 بين سنة 2016 وسنة 2019 نتيجة تدهور سعر صرف الدينار.

كما تضرّرت المؤسسات العمومية التي دُفعت بطريقة مُمنهجة وخطيرة للتداين بالعملة الأجنبية. مثلما حصل للشركة التونسية للكهرباء والغاز حيث بين التقرير المالي للشركة في سنة 2016 أن قروض الشركة كانت بنسبة%73 باليورو وبنسبة %13 بالدولار الأمريكي مع تحميل الشركة الوطنية مخاطر الصرف. أما القروض بالدينار فكانت قي حدود %1 (واحد بالمائة) فقط؟ هذا التصرف جعل كلفة القروض البنكية ترتفع من 150 مليون دينار سنة 2015 إلى 1543 مليون دينار سنة 2018 والخسائر ترتفع من 24 مليون دينار سنة 2015 إلى 2093 مليون دينار سنة 2018. كل ذلك والبنك المركزي لم يحرّك ساكنا. كل ذلك ومجلس نواب الشعب مغيب تماما أمام هذا التخريب الممنهج؟

أزمة المديونية العمومية كشفت مدى حاجة الدولة لاسترجاع سلطتها على البنك المركزي لإنقاذ الاقتصاد الوطني

هذا الدور السلبي للبنك المركزي التونسي تبين بوضوح في بداية سنة 2021 في تونس وأصبح جليا عندما اندلع الصراع بين رئيس الحكومة المستقيل هشام المشيشي ووزير الاقتصاد والمالية ودفع الاستثمار من جهة وبين محافظ البنك المركزي مروان العباسي من جهة أخرى حول مسألة تمويل ميزانية الدولة لسنة 2021. حيث ارتأت الحكومة ضرورة تدخل البنك المركزي لتمويل الميزانية أمام انسداد كل إمكانية لتعبئة الموارد من الخارج أو حتى من الداخل بالنظر لتفاقم المديونية العمومية وتداعي التصنيف الائتماني. ورغم انسداد كل الأفق لتحيين ميزانية الدولة قبل مُوفّى شهر مارس وهو التاريخ الذي التزمت به الحكومة ولم تف بوعدها. حيث تمسك محافظ البنك المركزي بالفصل 25 من القانون عدد 35 لسنة 2016 الذي نص على أنه «لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة.»

وكما هو معلوم تم تحويل هذه المهمة المصيرية إلى المصارف المالية الخاصة والعمومية. حيث أصبح البنك المركزي يُقرض البنوك المعنية بنسبة فائدة مديرية في حدود %6,25 حاليا بعدما كانت في سنة 2020 بنسبة %7,5. النسبة تضيف عليها البنوك نسبة فائدة تتراوح بين %3 و%5 فأصبحت الخزينة تقترض بنسبة إجمالية تتراوح بين %8 و %10 مما كلف الخزينة العامة حوالي 1,5 مليار دينار سنويا بينما كانت تقترض مجانيا سابقا.

قانون 2016 كرس ارتهان الدولة لدى المصارف المالية. كما تم شفط السيولة المالية للبنوك بالعملة المحلية وبالعملة الأجنبية لصالح الخزينة العامة على حساب تمويل الاقتصاد الوطني المنتج. مما أدى إلى تعزيز الاقتصاد الريعي التي أصبحت تتحكم فيه حكرا بعض العائلات.

البنك المركزي فشل في مقاومة التضخم ولجأ للإصدار النقدي لسداد الديون

رغم كل ما روج له محافظ البنك المركزي من عزم على مقاومة التضخم غير أن نسبة التضخم ارتفعت في شهر جويلية 2021 حسب المعهد الوطني للإحصاء إلى %6,4 مقابل %4,8 في شهر مارس و%5,0 في شهر أفريل من نفس السنة. هذه النتائج أجهضت ما ادعاه البنك المركزي حول مفعول السياسة النقدية التي اقتضت الترفيع المشط في نسبة الفائدة المديرية التي عطلت الاستثمار الداخلي. والحال أنها تتضارب مع ما يجري في كل بلدان العالم من تقليص لهذه النسبة إلى %1,5 في المغرب و %2 فقط في الأردن. وهي نسبة تساهم في زيادة التضخم بحكم أن كلفة القروض تدخل في سعر التكلفة لكل المنتوجات والخدمات. وقد أكدنا عديد المرات أن التضخم في تونس يعتبر «تضخما مستوردا» في علاقة مزدوجة بين تزايد التوريد الفوضوي والمكثف وانهيار قيمة الدينار.

كما أن البنك المركزي لجأ إلى عمليات السوق النقدية المفتوحة حيث اقتضى الأمر أن يطلب من المؤسسات المالية تمويل الخزينة العامة عبر اكتتاب رقاع خزينة قصيرة المدى (ثلاثة أشهر وبنسبة فائدة مرتفعة) لتمكين الدولة من تسديد القسطين الأخيرين من الدين الخارجي الأول في أواخر شهر جويلية والثاني بمبلغ 503,5 مليون دولار أمريكي يوم 4 أوت2021 وذلك سعيا لإظهار مؤشرات إيجابية تدل على إمكانية الدولة على تسديد ديونها في آجالها ولكن بدون أن يكون ذلك عبر آليات إنتاج ونمو.

في وضع تصادمي مشابه حاكم (محافظ) مصرف لبنان يقرر رفع الدعم عن المحروقات بدون تشاور مع الحكومة

منذ عدة أشهر بدأ الصراع على أوجه في لبنان بين حاكم مصرف لبنان من جهة وبين رئاسة الجمهورية ومجلس نواب الشعب والحكومة المؤقتة اللبنانية. ورغم ما صدر من القضاء السويسري والقضاء الفرنسي من وجود شبهات فساد وتهريب أموال إلى الخارج ضد حاكم مصرف لبنان فإنه مازال مستقرا في منصبه بطريقة تبعث عن الاستغراب. بل وقد أقدم يوم الأربعاء 11 أوت ليلا على اتخاذ قرارا أحاديا يقضي برفع الدعم عن المحروقات.

وقد صرح ‏الرئيس اللبناني ميشال عون «إن قرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رفع الدعم عن المحروقات له تداعيات اجتماعية واقتصادية خطرة، وذلك بعد استدعائه سلامة، على إثر القرار المفاجئ المتمثل برفع الدعم عن المحروقات، وتأمين الاعتمادات اللازمة المتعلقة بالمحروقات وفق سعر صرف الدولار في السوق، ما يعني مضاعفة أسعار المحروقات بأكثر من أربعة أضعاف أسعارها الحالية. وقد أدى هذا القرار المفاجئ وغير البريء إلى تأجيج الوضع الاجتماعي اللبناني حيث عمّت الاحتجاجات كل أنحاء البلاد وكثر التزاحم حول محطات توزيع المحروقات تزامنا مع غضب شعبي عميق.

قرار حاكم مصرف لبنان ليس بريئا لأنه جاء في وقت ينتظر فيه لبنان إعلان حكومة توافق برئاسة نجيب ميقاتي لفكّ الحصار الاقتصادي الذي تضربه الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني.

مفاوضات على 4 مليار دولار تُصرف على أربع سنوات… وعجز تجاري ب 5 مليار دولار في سبعة أشهر؟

من المفارقات الغريبة أن تتفاوض الدولة التونسية مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بمبلغ 4 مليار دولار أميركي بشروط مُجحفة وتُصرف على أربع سنوات وفي نفس الوقت تُحقق عجز تجاري بمبلغ 5 مليار دولار في السبعة أشهر الأولى من سنة 2021 نتيجة سيطرة لوبيات التوريد على التجارة الخارجية. هذه المعادلة المأسوف عليها تُبين مدى حاجة الدولة لاتخاذ قرار جريء لترشيد التوريد ووقف هذا النزيف الذي جر البلاد للإفلاس.

رئيس الجهورية مطالب باتخاذ قرارات جريئة ومطابقة للالتزامات الدولية لإنقاذ الاقتصاد الوطني

لكل هذه الأسباب نعتقد أن إنقاذ الاقتصاد الوطني الذي أصبح بحكم الواقع بعهدة رئيس الجمهورية يمر حتما عبر اتخاذ قرار رئاسي لترشيد التوريد لاسترجاع الموازنات الخارجية للبلاد. وهي إجراءات مسموح بها من طرف المنظمة العامية للتجارة. مما يتطلب تغيير طاقم وزارة التجارة الذي تبين أنه يعمل منذ ثلاثين سنة لنشر العلامات الخارجية على حساب الصناعة المحلية.

كما يتطلب الأمر اصدار مرسوم رئاسي يُلغي القانون عدد 35 لسنة 2016 لاسترجاع دور البنك المركزي لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية وضمان استرجاع قيمة الدينار لتحقيق التوازنات المالية الخارجية على مستوى التجارة الخارجية وعلى مستوى المديونية العمومية. وكذلك على مستوى التمويل الميسر لتنشيط المؤسسات العمومية والمؤسسات الصغرى والمتوسطة والتخطيط لبعث نسيج صناعي وطني لمقاومة التصحر الصناعي ورد الاعتبار للصناعة الوطنية العمومية والخاصة وخلق مواطن شغل مستدامة وذات قيمة علمية عالية للتصدي لهجرة الأدمغة وللهجرة السرية.

*نشر في أسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة يوم 24 أوت 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING