الشارع المغاربي:-كريمة السعداوي: مغالطات حكومة المغادرين وعلى رأسهم يوسف الشاهد لا تنتهي…و إلى آخر رمق، فطيلة السنوات الثلاث الفارطة لم يتوقف الخيال الخصب لأعضاء الحكومة وتابعيهم وتابعي تابعيهم عن بث الأراجيف والحديث على الخوارق إلى درجة تثير تارة، الاشمئزاز وتارة الأخرى، الضحك خصوصا لدى تأكيد المؤلفة قلوبهم على انجازاتهم في مجالات النمو وتراجع البطالة والتحكم في عجز الميزانية واستعدادهم للإقلاع الاقتصادي في ظل وضع كئيب يرزح تحته ملايين الفقراء وعشرات الآلاف من شباب تونس التائه في البحار.
وفي هذا السجل الحافل بالافتراءات وبعد أن وعد بن علي قبل مغادرته لتونس ببعث مئات الآلاف من مواطن الشغل وإبراز القيادي النهضوي نور الدين البحيري أن برنامج حزبه في 2014 يرتكز على إحداث 400 ألف موطن عمل، أتى دور توفيق الراجحي مستشار الشاهد ووزير الإصلاحات الاقتصادية السابق وهو كذلك نهضوي خالص ليؤكد من جانبه، نسجا على منوال سابقيه، أن الاقتصاد التضامني والاجتماعي كفيل بتوفير 300 ألف موطن شغل جديد بمعنى أنه من الممكن، على هذا الأساس، حل مشكل بطالة 623.9 ألف تونسي إلى حد النصف، وذلك بقدرة قادر وقليل من «الذكاء» والخيال الخصب، والنية الحسنة، لا غير…
«واقعة» الاقتصاد التضامني والاجتماعي
أصل «الواقعة» هو إفادة توفيق الراجحي، مؤخرا، بصفته وزير التكوين المهني والتشغيل بالنيابة خلال جلسة استماع بمجلس النواب، حول مشروع قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بأن هذا القطاع «سيوفر أكثر من 300 ألف موطن شغل» .
كما أكد الراجحي في مداختله أمام أعضاء اللجنة البرلمانية أن إعداد مشروع القانون، قد اعتمد مقاربة تشاركية، مشددا على أهمية تمريره للنهوض بالاقتصاد التونسي على اعتبار أنه «سيوفر 10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام» . وبحسب وثيقة شرح أسباب مشروع القانون، المنشورة على موقع مجلس نواب، يتكون هذا المشروع من خمسة أبواب و19 فصلا. ويهدف استنادا إلى توطئته إلى توفير أرضية قانونية سانحة لدفع المبادرات الاقتصادية من أجل النهوض بالاقتصاد والتشغيل وامتصاص البطالة البالغة نسبتها 14.9 بالمائة خلال الثلاثية الأخيرة من سنة 2019، وفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء.
وجرى، حسب التأكيدات الرسمية، إعداد هذا المشروع بصفة «توافقية» بين وزارة التكوين المهني والتشغيل وبقية الوزارات المعنية والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري وبعض مكونات المجتمع المدني وبدعم من منظمة العمل الدولية.
غير أن اللافت للانتباه في هذه المسالة انه غاب على هؤلاء أن البطالة في تونس مشكل اقتصادي عميق وهيكلي وشامل يعود إلى انخرام منظومة الاستهلاك والإنتاج وذلك بالتوازي مع تعثر منظومات التمويل والاستثمار واستقالة السلط النقدية من تعديل التوازنات المحورية في مجالات الحفاظ على قيمة العملة وتوازن نسب الفائدة والسيولة.
وبذلك، حوّل الأطراف المتدخلون في صياغة مشروع القانون وجهة المعضلة الرئيسية للفقراء وهي البطالة إلى منحى أجوف يقوم على أن حل المعضلة يكون بالتضامن بين الفقراء أنفسهم وباتخاذ بعض الإجراءات الاجتماعية هنا وهناك، إذ أن حكومة الشاهد وشركائه تقدر على الأرجح أن الفقر هو مشكل الفقراء في سياق قدري لا مفر منه وأن البطالة هي مشكل العاطلين عن العمل وهو ما ينم على جهل تام عن قصد أو عن غير قصد بمبادئ الاقتصاد الذي لا يمكن تجزئته إلى اقتصاد اجتماعي وآخر لا اجتماعي وهي فكرة تروج لها العديد من الأطراف في العالم منذ أواسط الالفينات في سياقات شعبوية وبعيدة عن معايير التجارب الاقتصادية المتماسكة لتحويل إشكاليات اقتصادية محورية إلى مجرد واجهات خاوية للتنمية.
قراءة في مشروع القانون
يمكن القول أن الأبعاد الأولى لتكريس فكرة الاقتصاد التضامني والاجتماعي في تونس قد بدأت مع البنك التونسي للتضامن، حيث يقول النص القانوني ما يلي: يمول البنك التونسي للتضامن المؤسسات ذات الصبغة التضامنية. ثم جاءت الجمعيات التنموية المحلية في كل معتمدية والتي تشتغل بالتوازي مع البنك التونسي للتضامن لتمويل المشاريع الصغرى. هذه الجمعيات التنموية المحلية تسمى بالجمعيات ذات البعد التضامني.
وبعد أحداث 14 جانفي 2011 ظهر توجه نحو الجمعيات ذات السياسة العامة وأصبح الحديث يتمحور حول بعد اجتماعي وبعد اقتصادي، وكذلك عن بعد تنموي. وذهبت الدولة في مخطط 2015-2020 نحو الاقتصاد التضامني والاجتماعي باعتباره «عمادا من أعمدة التنمية في تونس». وفي أكتوبر 2016 ظهرت الإستراتيجية الوطنية للاقتصاد التضامني والاجتماعي التي قامت ببلورة المسالة وصولا إلى إحداث منصب وزير مكلف لدى رئيس الحكومة بهذا الملف.
ويأتي كل هذا التوجه ضمن إطار المبادرة التشريعية للاتحاد العام التونسي للشغل. إذ قام هذا الأخير باقتراح الفكرة على الحكومة. ويتعلق القانون الأساسي للاقتصاد التضامني والاجتماعي بستة عناوين حيث يتضمن العنوان الأول أحكاما عامة والعنوان الثاني يتعلق بمؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي و يخص الباب الثاني التصرف المالي. أما العنوان الثالث، فيتضمن فصولا حول حوكمة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني و يتصل العنوان الرابع بحوكمة الاقتصاد التضامني والاجتماعي والنفاذ إلى السوق. وخصص العنوان الخامس للتتبعات والعقوبات ليختتم بعنوان سادس حول أحكام انتقالية.
غير أن قراءة عدد من محاور القانون تعطي تقييما واضحا في خصوص بعده عن الاقتصاد بمفاهيمه المنهجية والمعيارية من خلال الحديث بشكل سطحي عن فكرة إرساء العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، وخلق مواطن الشغل والنهوض بالعمل اللائق، إلى جانب إرساء ديناميكية محلية لتحقيق التوازن بين الجهات. وفي هذا الإطار، يحيل تحليل المحور الذي يشير إلى هيكلة الأنشطة غير المنظمة من خلال حصر وإدماج الفئات التي تشتغل بالتهريب والتجارة الموازية في مجال الاقتصاد التضامني والاجتماعي إلى أن المحور هلامي الطابع بحكم غياب تحديد ضوابط هذه الظواهر ومنهجية الإدماج. ومن خلال قراءة محور دفع المبادرة الجماعية، فانه من السهل التأكد من عدم وجود مفهوم ومصطلح مهيكلين للمجموعة بمعنى الاشتغال في هياكل منظمة. أما عن المحور المتعلق بخلق الثروة وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للمواطن لتحسين جودة الحياة، فهو محور قائم بالأساس على شعارات تنموية فارغة دأبت الأحزاب على رفعها.
وقد يطرح سؤال نفسه إذا ما لم نضع الربح في الحسبان كيف ستنجح المؤسسة؟ لنجد إجابة مفادها أن الربح في مجال الاقتصاد التضامني والاجتماعي ليس بهدف في حد ذاته فالهدف هو المصلحة الجماعية مما يشكل أمرا فاقدا لأي مصداقية منهجية. ويمكن أن نستنتج أن الاقتصاد التضامني والاجتماعي هو مجموعة من الأفكار التي تقنن قطاعات ليس لها أسس قانونية واضحة كقطاعات التعاونيات والتعاضديات ومؤسسات التمويل الصغير وهي هياكل لا تحل في اغلب الحالات مشاكل البطالة والفقر بل هي تكرسها مثلما يحصل في بلدان تطبق هذه التجارب كعدد من بلدان أمريكا اللاتينية والدول الفقيرة في جنوب شرق آسيا.
محنة البطالة…معطيات دليلية
راهنت العديد من الاطراف سيما في الفترة الماضية وذلك خصوصا في مسار مختلف الحملات الانتخابية على تقديم وعود للشباب التونسي بجعله احد ابرز الاطراف الفاعلة ومحور التفكير والوعي بقضاياه وذلك بالأساس فيما يتعلق بدمجه في المنظومة الشغلية والاجتماعية وبالتالي حل جل مشاكله، من ناحية وجعله في قلب نظام الحوكمة وتقرير المصير محليا وجهويا ومركزيا، من ناحية اخرى.
غير ان الارقام وما تتيحه على الاقل ميزانية 2020 من موارد تحيل والى حد بعيد الى ان تجسيم الاهداف المذكورة هو من الصعوبة بمكان سواء تعلق الامر بواقعيتها او بقابلية تحقيقها خصوصا وان الالتزامات المالية للبلاد داخليا وخارجيا تمتد على عشرات السنين (32 عاما) وان اعادة صيغة منوال تطوير المجتمع في عالم متحرك ليس بالأمر الهين.
وفي هذا الاطار، تشير العديد من التقارير الدولية الى حلول تونس في مراتب متقدمة التاسعة عالميا من حيث نسبة البطالة من مجموع أكثر من 200 دولة في العالم. وتبلغ نسبة البطالة في البلاد 14.9% نهاية ديسمبر الفارط مسجلة بذلك تراجعا من 15.2% في اخر سبتمبر من نفس السنة رغم تراجع النمو الى 1%، غير ان مكتب العمل الدولي يقدرها في حدود 29% باعتبار العمل الهش والموسمي وغياب مئات الاف من القوى النشيطة عن دفاتر التسجيل الجبائي وصناديق الضمان الاجتماعي.
ولم تعرف النسبة في تونس تراجعا منذ سنوات الا بعد تأكيد الحكومة المغادرة انها نزلت لأول مرة منذ توليها مقاليد السلطة في اوت 2016 تحت حد الـ 15% في ظل حكمها الرشيد علما ان الحكومة اتحذت خلال السنتين الفارطتين إجراءات تقشفية تسببت في تجميد الانتداب في القطاع العام.
وبعد ان سجلت نسبة البطالة ارتفاعا لمدة سنوات اذ ازداد عدد العطلين عن العمل بنسبة 45% طيلة الفترة 2007-2018 في الوقت الذي تصرح فيه الحكومة وتجدد الوعد تلو الاخر لخفض نسبة العاطلين عن العمل، تبرز البيانات التي ينشرها المعهد الوطني للإحصاء تفاوتا بين الجهات. والملاحظ ان الجهات 11 التي تعد معنية بالتمييز الايجابي تحافظ على النسب الاكثر ارتفاعا للبطالة.
وفي خضم هذه المعطيات، فقد تصدرت كل من ولايات قفصة وتطاوين وباجة قائمة الـ24 ولاية الأكثر عرضة للإقصاء الاجتماعي على مستوى النفاذ إلى سوق الشغل وذلك حسب دراسة ميدانية كشف عنها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات. واعتمدت الدراسة التي قدمها المعهد خلال منتدى نظمه حول التشغيل بعنوان «الإقصاء الاجتماعي…عائق للالتحاق بسوق الشغل» على 4 محاور لقياس مؤشر الإقصاء الاجتماعي وهي سوق الشغل والتشغيلية ومستوى العيش والتعليم والكفاءة والحركية.
وتم اعتماد مقياس من صفر إلى 1 لاحتساب مؤشر الإقصاء الاجتماعي وكلما كان المؤشر مرتفعا كلما كانت المنطقة عرضة أكثر للإقصاء الاجتماعي وكانت ولايات بن عروس وتونس والمهدية الأقل عرضة لهذه الظاهرة وفقا للنتائج التي بينتها الدراسة.
يوجد اليوم إجماع بين الخبراء والمتابعين حول أنّ النمو الاقتصادي ينبغي أن يكون شاملاً حتى يوفّر مواطن شغل لائقة ويتيح الفرص للفئات الضعيفة. ولكن واقع الحال قد أثبت أنّ تطور الاقتصاد غير الرسمي هو نتيجة مباشرة لقلة فرص الشغل في الاقتصاد الرسمي وعجزه عن استيعاب نمو الطلب. وإن كان هذا القطاع من الاقتصاد مصدرا مهما للشغل والدخل خاصة بالنسبة للفقراء إلا أنّه يشكل عقبة أمام آفاق التنمية بسبب تأثيره السلبي على النمو الاقتصادي.
ويذكر أنّ الشركات العاملة في القطاعات غير الرسمية لا تتحمّل أيّ أعباء ضريبية أو معاليم الانخراط في الضمان الاجتماعي، مما يخلق منافسة غير عادلة للمؤسسات العاملة في القطاعات الرسمية. مثل هذا السلوك يعاقب المؤسسات القانونية ويعرّض وجودها للخطر. من ناحية أخرى، لا يحمي العمل غير الرسمي أيّ تشريع ولا يعترف به. نتيجة لذلك، لا يمكن للعامل المطالبة بحقوقه الأساسية وسيظل دائمًا في موقف الضعف الإقصاء. بالنظر إلى حجم الاقتصاد غير الرسمي في تونس، من الضروري إطلاق استراتيجية وطنية تهدف إلى تسهيل انتقاله إلى الاقتصاد الرسمي.
على مدى 60 عامًا، أحرزت تونس تقدماً ملحوظاً في النهوض بالإنسان بفضل التعليم والصحة والمساواة بين الجنسين، لكن هذا الجهد لم يكن كافياً. وفي الواقع، مع ازدياد البطالة طويلة الأجل وعدم الاستقرار والتهميش والتفاوت الجهوي، أصبح الشباب التونسي أكثر عرضة للإقصاء الاجتماعي والاقتصادي. وقد تفاقم هذا الوضع بعد الفوضى التي تلت احداث جانفي 2011 عندما ارتفع معدل البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا إلى 33% إضافة إلى أنّ الشابات التونسيات هن الأكثر تهميشًا ومعدلات البطالة بينهن تقارب ضعف معدلات البطالة لدى الرجال فيما تحولت نسبة كبيرة من الشباب إلى القطاع غير الرسمي للحصول على موارد غير مستقرة ولا تسمح لهم بالحصول على الحماية الاجتماعية.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في العدد الصادر بتاريخ 25 فيفري 2020