الشارع المغاربي- كريمة السعداوي: من الخطأ الفادح أن تفسر وضعية الانهيار المالي والنقدي اليوم في تونس بمجرد إتباع وزارة المالية والبنك المركزي مقاربات اصطدمت بواقع اقتصادي إقليمي ومحلي غير ملائم لمناخ الأعمال وخلق الثروة. فالعديد من المؤشرات والقرارات الرسمية المتخذة منذ 2016 تبرز أن الخراب الذي حل بالمؤسسات وبالأساس المتوسطة والصغرى منها وانهيار المقدرة الاستهلاكية بنحو 10 % سنويا كان أمرا ممنهجا وفي غاية الإحكام القصد منه خدمة أصحاب النفوذ المالي وعلى رأسهم أصحاب البنوك وعدد من المؤسسات المالية كشركات التأمين وسماسرة البورصة وما شابههم.
الهدية الثمينة للبنوك…قانون “استقلالية البنك المركزي”
ارتكز القانون الأساسي للبنك المركزي التونسي عدد 2016-35 الذي افتتح به يوسف الشاهد رئاسته للحكومة السابقة بمعاضدة لصيقة من مروان العباسي محافظ البنك المركزي التونسي على ثلاثة محاور أساسية هي إلغاء التنسيق بين السلط المالية والنقدية في مجالات حساسة على غرار الحفاظ على التوازنات الاقتصادية للدولة وعدم ضمان الدور الطبيعي لأي بنك مركزي وهو الحفاظ على قيمة العملة المحلية وتحرير أسعار العمولات ونسب الفائدة البنكية وترفيعهما إلى أقصى حد باعتماد تعلة واهية هي التحكم في قروض الاستهلاك وارتفاع الأسعار.
كانت النتائج كارثية على المستهلكين وأصحاب المؤسسات ومناخ الاستثمار المنتج والتشغيل إذ انهار الدينار وارتفعت نسب الفائدة البنكية لتلامس 9 % في 2017 دون اعتبار الهوامش التي تصل، في هذا الصدد، إلى 7 % مما حول الساحة البنكية إلى سوق مرابين ومضاربين بالمعنى الفني والأخلاقي التام للمصطلح، كما ازدادت العمولات المصرفية بنسب عالية عند 65 % وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق منذ بداية ثمانينات القرن الماضي باعتبار أن نسبة التضخم قاربت 7 %. ولكنه من المعلوم أن أيّة سياسة تفقير عامة لأطياف المجتمع والتي طبقت بإتقان في تونس، زمن الشاهد والعباسي، تؤدي بالضرورة على غرار ما تشهد معظم دول اللوبيات والتخلف الاقتصادي تحقيق عدد ضئيل من أصحاب النفوذ وهم في الغالب مالكي البنوك وذوي المداخيل الريعية والمهربين والمضاربين مكاسب مالية وثروات طائلة.
وبالرجوع للإحصائيات المالية الصادرة عن هيئة السوق المالية، فقد بلغت نهاية سنة 2019 النواتج البنكية الصافية للبنوك المدرجة ببورصة تونس وعددها اثنا عشر بنكا 6294 مليون دينار مقابل 4874 مليون دينار العام السابق مما يعادل زيادة نسبتها 29 % وهي نسبة قياسية بكافة المقاييس ومتأتية بالأساس من ارتفاع نسبة الفائدة إلى نحو 7.81 % أواخر العام المنقضي مقابل زهاء 4 % سنة 2011 دون اعتبار هوامش الفوائض والتي تصل في ما يخص الإيجار المالي إلى 15.5 %.
كما شهدت النتائج الخام لأنشطة الاستغلال للبنوك تطورا كبيرا ساهم في تكوينها، بالاعتماد على نظرة محاسبية صرفة، للحرفاء من اسر ومؤسسات إلى درجة إحالة قسم واسع منهم على العجز المالي التام. وقد ارتفعت هذه النتائج الخام إلى 2480 مليون دينار نهاية 2019.
يذكر انه وحسب مذكرة أصدرتها بورصة تونس، فقد تطور رقم معاملات اكبر أربع شركات تأمين، مع موفي شهر سبتمبر 2019، لتجني هذه الشركات زهاء 589 مليون دينار مقابل 557 مليون دينار، خلال نفس الفترة من سنة 2018.
الخدعة الكبرى وإقراض مصارف الدولة
في جانب آخر، ترجع الأرباح القياسية للبنوك إلى إجبار القانون الأساسي للبنك المركزي لسنة 2016 الدولة على الاقتراض من البنوك بعد أن كان هو الذي يؤمن هذه العملية وأصبح البنك المركزي بذلك وفي سياق عدمي و”غير مفهوم” يقرض البنوك بنسب فائدة منخفضة وذلك في حدود 5 إلى 6 % لتقوم هذه الأخيرة بإقراض الدولة بنسب تلامس 10 %. وتبرز معطيات “التونسية للمقاصة” الواردة في مذكرتها بعنوان ديسمبر 2019 وهي المودع المركزي للأوراق المالية والمتصرف في منظومة الدفع والتسليم في تونس والتي ينظم عملها القانون 117/1994، بلوغ قائم قروض البنوك للدولة نحو 13777 مليون دينار، موفى ديسمبر الماضي مما انجر عنه دفع الدولة فوائض بنكية بقيمة 1608 مليون دينار طيلة الماضي.
وتفيد، في ذات السياق، معطيات مؤسسة “التونسية للمقاصة” أن مبلغ الاكتتابات أو بالأحرى الاقتراض في شكل رقاع خزينة قصيرة المدى يناهز بعنوان ديسمبر الماضي 436.2 مليون دينار ويصل في صيغة رقاع خزينة قابلة للتنظير لإمكانية تداولها بالبورصة إلى 13341.2 مليون دينار.
وتحيل جملة هذه المؤشرات إلى مفارقة منهجية يتطلب فهم أبعادها تحليلا دقيقا، إذ أن الاستنتاج الأول الذي يمكن الوصول إليه يتمثل في أن المؤسسات المالية أصبحت تخصص قسما جد مهم من تمويلاتها للدولة وذلك بالبداهة على حساب دورها الطبيعي المتمثل في تمويل المنشات الاقتصادية والاستهلاك.
كما أن ارتفاع نسب الفوائد يعني تحول طابع العملية إلى طابع ربحي بحت مما يشكل هدية ثمينة للبنوك على حساب كافة الأطراف الفاعلة اقتصاديا علما أن ضخامة مبلغ الإقراض تفيد باستهلاك شبه كامل لسيولة المؤسسات المالية والتي غدت منذ فترة تعاني من نقص في هذا الخصوص يساوي، في الظرف الراهن، وفي المعدل اليومي 10 مليارات دينار يتكفل بالتدخل لتوفيرها البنك المركزي. وهي مسألة تساهم بفعالية في التضخم النقدي وتشكل بالتالي السبب الرئيسي لارتفاع الأسعار في البلاد.
ويتمحور الاستنتاج الثاني حول أن الحكومة تدير الخزينة دون اعتبار ضرورة تكوين مدخرات قابلة للتداول على مدة لا ينبغي أن تقل عن تسعين يوما لمجابهة النفقات العامة بأريحية باعتبار حرصها على ضخها للبنوك. وأصبحت تلجا آليا إلى عدم خلاص ديون الدولة للمقاولين مثلا وتركهم فريسة سائغة للبنوك بعد حرمانهم من مستحقاتهم البالغة قيمتها 766 مليون دينار، حسب إفادة لوزارة المالية بما يوجههم حتما نحو غلق مشاريعهم.
وتؤكد جل تقييمات الخبراء والمتخصصين في مناهج السياسة النقدية والمتابعين للشأن الاقتصادي الوطني أن تحديد موقع السياسة النقدية يجب أن يتم بالاستناد إلى دورها في الديناميكية الاقتصادية الكلية والجزئية باعتبارها مجموعة الإجراءات التي تستخدم بغرض التأثير على العرض النقدي بطريقة ما من خلال تبني نصوص وترتيبات معينة للغرض في سياق التوسع أو الانكماش بغية تحقيق أهداف محددة بصفة عامة.
ومن المؤكد أن تونس عرفت أشكالا من المقاربات المجحفة والمتواطئة خدمة لأصحاب القرار المالي، في هذا الصدد، لا سيما خلال السنوات الثلاث الماضية شكلت أحد أهم أسباب الاختلال الاقتصادي الداخلي والخارجي، إلى جانب متغيرات متعددة مرتبطة بمشاكل مختلفة تفاقمت زمن الشاهد ومن بينها ضعف الاستثمار والفساد والبطالة والتضخم وانزلاق سعر صرف الدينار مقابل العملات العالمية المرجعية.
كما يتعين عدم تجاهل إشكالات تناسق السياستين النقدية والاقتصادية المطروح منذ 2016 وذلك من أجل تحقيق الاستقرار الداخلي، حيث لم تستخدم، في هذا الميدان، إحدى أهم الآليات لامتصاص فائض القوى الشرائية في سوق السلع والخدمات وذلك عن طريق استقطابه في شكل نواتج إيداع وادخار بصفة قصدية. وتجدر الإشارة إلى العجز المسجل أيضا في ما يهم التأثير على سعر صرف العملة الوطنية بالقدر الذي يقلل من حدة العجز في ميزان المدفوعات ولتحقيق التوسع الاقتصادي بتعزيز الإنتاج قصد مجابهة الاختلال بين التيارين النقدي والسلعي.
التدقيق في المالية العمومية لفترة الشاهد وشركائه، أولوية قصوى Audit des états financiers du pays
بغض النظر عن الاخلالات في إعداد ميزانيات الدولة منذ 2016 وقوانينها المالية التكميلية، فإن عنوان مرحلة الشاهد وشركائه كان الضحك على الذقون عبر تزييف المؤشرات والمعطيات الخاصة بحسابات الدولة على غرار الصناديق الخاصة للخزينة والمديونية وحسابات التشغيل ومسح السكان والسكنى وسجل الفقر وغيرها من المؤشرات .
وعلى هذا الأساس فانه من المطلوب لتبرئة ذمة الحكومة الجديدة والإفصاح عن أخطاء التصرف والمغالطات المتصلة بإدارة المال العام منذ 2016، ان تتوجه الرقابة في هذا المسار بشكل أفقي من خلال تكليف أربع هيئات عالية التخصص لمراقبة كل أنشطة الشاهد وهي هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وهيئة الرقابة العامة للمالية ودائرة المحاسبات والهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية.
كما أن تقارير هذه الهيئات يجب أن تمكّن من التمييز بين أخطاء التصرف في الأموال العمومية والأخطاء المقترفة ذات الخلفية الجنائية بإجراء تحقيقات معمقة عن طريق إطارات مختصة ذات خبرة عالية في الرقابة الإدارية والمالية يعضدها القضاء العدلي. ويعتبر التدقيق في مرحلة اتسمت باستشراء الفساد وإدراج تونس بكافة القائمات السوداء للتدفقات المالية المشبوهة ولتبييض الأموال وتمويل الإرهاب أمر لا مناص منه. ويعتبر النجاح ولو كان جزئيا في هذا الإطار، مرحلة مهمة لتعزيز الشفافية والعدالة في تدخلات المرفق العمومي تجاه المجموعة الوطنية وهو ما يعطي ديناميكية أكثر للاقتصاد الوطني بما يسمح بتجاوز الخسائر المباشرة وغير المباشرة للفساد والإفساد وتحسين مؤشرات تنافسية الاقتصاد الوطني.
كما انه من الضروري أن ترتكز هيكلة الرقابة على منهجية تمكن من التصرف في مخرجات عملياتها باعتماد المقاربة المبنية على تقييم المخاطر والتدقيق الداخلي الذي يسمح بمعاينة مدى تطابق الإجراءات الإدارية والمالية مع ما تم تطبيقه على ارض الواقع.
من جهة أخرى تقتضي المسالة نشر نتائج التقارير الرقابية وعمليات رصد الأخطاء المسجلة لاسيما في أبرز المؤسسات العمومية.
وفي خضم ما تشهد البلاد من أزمة مالية خانقة فانه من المتأكد عاجلا إجراء دراسة مستقلة تشمل فترة 2016 /2019 وتخص سياسة التداين العمومي وآثارها على التنمية المندمجة والتشغيل وآليات السياسة النقدية وذلك إلى جانب التدقيق في المالية العمومية بخصوص محاور الأجور ودعم المؤسسات العمومية والصفقات الكبرى ومنظومة الدعم والجباية.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ 3 مارس 2020