الشارع المغاربي: ليس من الغريب أو الطارئ على الفكر البشري الحديث عن تحوّلات جذريّة ترتبط بالإنسان وبعلاقاته ومنزلته في الكون ونظرته إليه، وإلى غيره، أو إلى العلاقات بين الدول والمجتمعات، بعد الأحداث الكبرى والعالميّة من قبيل الحربين العالميّتين الأولى والثانية، أو أزمة 1929، أو سقوط الامبراطوريّات من قبل. بل إنّنا إلى حدّ اليوم نؤرّخ لكلّ تلك العلاقات والتحوّلات بما قبل الحرب الأولى أو الثانية وما بعدها، أو بما قبل امبراطوريّة ما وما بعد سقوطها، إلخ. ويجد العالم نفسه اليوم في وضع صحّي يستعدّ فيه للحديث عمّا قبل كورونا وما بعدها.
إزاء مثل تلك الأحداث الكبرى تظهر مواقف وكتابات تبشّر بتغيّرات في العقل الإنساني، نحو علاقات إنسانيّة أكثر تضامنا وعدالة وحرصا على القيم الكونيّة وحقوق الإنسان الأساسيّة، في إطار يغلب عليه التفاؤل بمستقبل أفضل. وتكون الأزمة في كلّ ذلك نوعًا من البرهنة على الاختلال في العلاقات السائدة قبلها. وربّما يكون مثلاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر 1948 دليلا من الأدلّة الكثيرة على ما يمكن أن تنتج الكوارث والحروب من مراجعات. ولكن هل يكفي الإعلان عن النوايا النبيلة ليحصل تغيير حقيقيّ في الواقع؟ هل كان الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان كافيا لضمان تكريسها؟ الواقع الحالي الّذي نعاينه بعد أكثر من سبعين سنة يؤكّد أنّ ما طمح إليه أصحاب النوايا الطيّبة لم يتحقق. بل الأعجب من ذلك أنّ مثل تلك النوايا الطيّبة اصبحت آلة وشعارًا في يد غير المؤمنين بها، مثلما تشهد على ذلك الحروب والمآسي الإنسانيّة التي حدثت باسم نشر الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
هل الأمر مختلف اليوم مع كورونا؟ الحقيقة أنّنا نقرأ اليوم مقالات وكتابات كثيرة تلحّ على “ما يجب ان يكون” بعد نهاية الأزمة الصحيّة، أي التضامن الإنساني، وضرورة الابتعاد عن الهويّات المغلقة، وحتميّة القطع مع فظاعات الاقتصاد الرأسمالي المتوحّش إلى غير ذلك “ممّا يجب أن يكون”. غير أنّ “ما يجب أن يكون” ليس بالضرورة هو “ما سيكون” بل ربّما سيقع يكون عكسه تمامًا.
لا يدخل قولنا هنا في إطار التشاؤم واليأس بقدر ما هو استقراء لمؤشّرات يمكننا ملاحظتها يوميّا. صحيح أنّها مؤشّرات تبدو فرديّة أحيانا ونرى استنكارًا “فايسبوكيّا” لها. ولكنّنا إذا دقّقنا النظر نكاد نجد أنّها مشتركة. فما يلاحظ مثلا هو الحملة الافتراضيّة الكبرى المشهّرة بمحتكري المواد الأساسيّة، بكلّ ما يعني ذلك الاحتكار من استثمار في المآسي ودلالة على الأنانيّة. غير أنّ المشهّر الساخط على المحتكر يتصرّف هو نفسه بشكل أنانيّ باحثا عن خلاص فرديّ من جهة أخرى حين يطالب في مثل هذه الظروف بامتيازات ماليّة هو في غنى عنها وكان من الأولى أن يتنازل عنها لمن هو في حاجة إليها.
وممّا كشفت كورونا أيضا تغلل النزعة الجهويّة، إذ لا يمكن أن ننكر ما عرفت صفحات فايسبوك من انزواء على الجهة التي ينتسب إليها صاحب منشور ما، الى درجة الايحاء بأم جهته معزولة عن بقية جهات الوطن الواحد. بل قد يصل الأمر إلى نسبة الخلاص إلى جهة ما من جهات البلاد أكثر من البحث عن طريق موصلة إلى الخلاص الجماعي. وقد برز ذلك اثر ما أشيع من توصّل طبيب تونسي إلى لقاح لكورونا، ولكن مع الإلحاح على أنّه من ولاية معيّنة، بل من معتمديّة معيّنة ليُربط اللقاح بالجهة التي يتمّ الافتخار بها أكثر من الفرح بإشاعة التوصّل إلى علاج.
وبالمنطق نفسه، ولكن في الاتّجاه المعاكس، تعالت أصوات نادت بضرورة غلق جهات عن أخرى نلمس فيها أحيانا الكثير من الاحتراز من جهات انتشر فيها الفيروس لتبرز خطابات تكشف عن حرص، لا على محاصرة وباء كورونا وانتشاره وانّما على البحث عن خلاص أنانيّ إذ تفتقد تلك الأصوات كلّ نوع من أنواع التعاطف أو الخوف على المواطنين في جهات انتشر فيها الفيروس. ليصبح الوازع الأكبر الخوف على الذات أكثر من الخوف على المجتمع.
هذا الخوف نفسه كشف عن أسوأ ما فينا أيضا : ألم نرَ هذه الأيّام معارضة لدفن بعض ضحايا كورونا بتعلّة أنّهم يمثّلون خطرًا وحتى هم في قبورهم على الرغم من تأكيد الأطبّاء والمختصّين أنّ ذلك غير صحيح ؟ فتمّ اللجوء إلى شيوخ الدين للاستعانة بفتاواهم في حين كان من المفروض أن يكون ذلك اختصاصا حصريّا للدولة وأجهزتها. ولطالما كرّرنا على مسامع بعضنا أحاديث حرمة الميّت وضرورة إكرامه، وذهب في أذهاننا أنّنا أكثر الملل احتراما لذلك، ولكن ها أنّ الواقع يكشف ان ذلك لم يكن سوى من قبيل الادّعاءات الزائفة.
كشف انتشار الكورونا أيضا عن ميل عجيب إلى تصديق الإشاعات مهما كانت مباينتها للمعقول. واللافت للنظر حقّا أنّ ذلك التصديق لا يقتصر على فئة اجتماعيّة دون أخرى. فنجد الكثير من أصحاب الشهائد العليا، بمختلف اختصاصاتهم، ينشرون أيّة إشاعة دون أيّ نوع من أنواع التثبّت ومهما كانت درجة معقوليّته. بالإضافة إلى ارتباط ذلك بانتشار واسع لنظرية المؤامرة التي تزداد رواجا في زمن الأزمات. فلا ينبغي أن ننسى أنّ الكثيرين روّجوا مثلا أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة هي مصدر الفيروس وأنّ ذلك يدخل في إطار الحرب البيولوجيّة، ولمّا انتشر الفيروس فيها تعالت الأصوات المقابلة لتحاول البرهنة على أنّ الصين هي من افتعلت الأمر ويطرح كلّ طرف أدلّته وحججه المعقولة وغير المعقولة، حتى نصل إلى ضروب من حرب المحاور على خلفيّة اختيارات الصين والولايات المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها.
من الخطير فعلا انتشار نزعات عنصريّة وتمييزيّة على أسس عرقيّة ودينيّة وثقافيّة مختلفة، سواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي.فلنتذكّر حين كان الفيروس منتشرًا في الصين فقط، تلك المنشورات الساخرة ممّا يأكل الصينيّون وممّا يرتبط بنظامهم الاجتماعي وثقافتهم الغذائيّة،وتقديم ذلك على أنّه مصدر الفيروس، في حين أن العلماء المختصين لم يتوصّلوا بعدُ إلى الوقوف بدقّة على أسباب الوباء.ومن أشكال التمييز أيضا ما سمعنا وشاهدنا من خطابات دينيّة تعتبر الوباء عقوبة إلهيّة للمخالفين في العقيدة والدين، ورحمة وابتلاء للمؤمنين، بكلّ مل تحمل مثل هذه الخطابات من عنصريّة دفينة لا تقيم للإنسان وزنا إذا كان مخالفًا دينيّا.
قد يبدو ما عبّرنا عنه ضربًا من التشاؤم المفرط، وكم نرجو أن نكون مخطئين، ولكن، وللأسف تذهب المؤشّرات الحاليّة زمن الأزمة عكس كلّ الآراء والنوايا الطيّبة التي تتحدّث عمّا يجب أن يكون وينبغي أن تتوجه نحوه الإنسانيّة.ولكنّ الأوضاع تبدو في الواقع سائرة في اتّجاه مغاير. فكلّ المؤشّرات الواقعيّة تدلّ على أنّ العالم سائر في اتّجاه معاكس تمَامًا للتضامن الإنساني وضرورة تكريس حقوق الإنسان الكونيّة والقطع مع الاقتصاد المتوحّش ونبذ الأنانيّة والمصالح الضيّقة والجهويّات والعرقيّات المقيتة. إنّ المؤشّرات الحاليّة تدلّ على ضروب من السير في أشكال أخرى من عولمة أفكار المؤامرة والتقوقع والانغلاق والاستغلال والشعوذة.
فهل يعني هذا الاستسلام لهذا الواقع؟ طبعًا لا. إنّ قدر المدافعين عن القيم الإنسانيّة سيبقى دائما السير في الطريق الصعب: طريق الدفاع عن الإنسان بقطع النظر عن انتمائه وعرقه ولونه وبلاده ودينه وجنسه وتوجّهه الجنسي. وقد أثبتت كورونا أنّها لا تميّز أحدًا على أحد، ولكن الإنسان كثيرا ما أثبت أنّه عاجز عن فهم ذلك.