الشارع المغاربي – د. نوفل حنفى: عادة ما تعود السلطات السياسية في العالم من خلال جهازها الصحي الذي يقوده الأطباء والمختصون في البيولوجيا وعلم الجراثيم إلى بعض الخلفيات الايتيقية التي غالبا ما تكون غير معروفة بشكل دقيق عند اغلب الفاعلين الذين يجابهون جائحة كورونا، ذلك أن الحرب غير المعهودة على هذه الجائحة ليست مجرد حرب طبية قطاعية، مثلما قد يعتقد أصحاب النظرة الجزئية المبتورة للصحة والمرض، حتى أن رموز النسق الصحي في العالم وفى تونس على وجه الخصوص عادة ما يجدون أنفسهم يجابهون كورونا بالاعتماد على مصطلحات غير علمية وغير طبية.
يفقد الطبيب هويته القطاعية الطبية ويتقلص استعماله للمصطلحات الفنية الطبية التي لا يفهمها الشعب من اجل اللجوء إلى مصطلحات فلسفية إيتيقية مثل الانضباط والاحترام والمسؤولية والتضحية… خاصة وان السياق الموضوعي لمجابهة الكورونا يشير إلى ندرة الموارد المادية والطبية التي نحتاجها في محاربة هذه الجائحة في كل دول العالم المتقدم وخاصة في البلدان التي تعرف العديد من الصعوبات الاقتصادية الحادة مثل تونس، والتي يعرف نظامها الصحي العمومي العديد من المشاكل العميقة منذ سنوات والتي تتمظهر بشكل محدود في غلاء الأدوية وندرتها والنقص الفادح في المستشفيات المجهزة والآلات الطبية التي نحتاجها في إنقاذ المواطنين من خطورة الموت مثل الأسرة الطبية المجهزة وأجهزة التنفس الاصطناعي.
وعندما تتفاجئ السلطة السياسية بكل كوادرها الطبية بندرة الأجهزة الطبية المقاومة للجائحة والارتفاع الهائل والمربك للمصابين تجد نفسها في أحضان إيديولوجيا التضحية التي عادة ما تستند على نظرية فلسفية ايتيقية عفوية و هشة تدعى الدفاع على مبدأ المسؤولية والتضحية وتستعمل كل الأجهزة الاتصالية والإيديولوجية للسلطة السائدة من اجل إقناع المواطنين بما سميته “التضحية غير العادلة”، وذلك في تفاعل مع النص الهام الذي كتبه الأستاذ فتحي التريكى في جريدة “الشارع المغاربى” من اجل نقد السياسة الليبرالية المكثفة زمن الكورونا .
والغريب في الأمر أن اغلب المتابعين للحرب الكونية الأخيرة يبالغون في الحديث عن التضحية دون التساؤل عن الأسس الايتيقية التي تسندها، ذلك أن كلمة التضحية هي عبارة غامضة نتيجة تعدد دلالاتها واختلاف المقاربات الفلسفية التي تحاول فهمها خاصة في إطار الصراع الفلسفي الايتيقى الراهن بين التصور الديونطولوجى الواجبى للتضحية والتصور التليولوجى الغائي لها، غير أن السلطة السائدة في أمريكا وفرنسا وفى كثير من الأحيان في تونس تنزلق بشكل واع أو غير واع في إسناد سياستها الصحية بخلفية ايتيقية و براغماتية ونتائجية تجد المناخ الملائم لها خاصة في فترات الحرب والهلع والرعب، فليس ثمة أفضل من هذا الوقت لكي تستند السلطة السائدة على تصور غير عادل للتضحية تحاول فيه إقناع المواطنين بمنطق داخلي للتضحية يقوم على ميكانيزمات التعويض والتضحية ببعض البشر من اجل البعض الآخر داخل سياق ثقافى متأزم يتنامى فيه تصاعد التقوقع والانغلاق وطغيان التمايز الجهوى والعرقي والطبقي والمذهبي… ، وكأن ليس ثمة إمكانية لإنقاذ الإنسان من خطر جائحة كورونا إلا من خلال التضحية بحياة المسنين والفقراء وكل من حرمهم التاريخ والمجتمع من أن تكون لهم أجساد منيعة قادرة على مقاومة الجائحة الخطيرة، إضافة إلى كل الفقراء والمسنين والمهمشين في كل المدن الغربية المتطورة مثل نيويورك ولندن وباريس وسان دونى..
تميل السلطة السائدة إلى الاستغلال الايديولوجى للأخلاق من خلال الانحياز إلى نظرية براغماتية للتضحية وهو ما يفضح ديمقراطيتها الشكلية و كذبة حيادها الاكسيولوجى الذي طالما تبجحت به في صراعها مع الأنظمة التيوقراطية و الشمولية ، إذ تجبر السلطة السائدة كوادرها الطبية المتموقعة في الصفوف الأمامية لهذه الحرب الكونية على المقارنة المحرجة بين الأعداد الكبيرة للمهددين أو المصابين بالكورونا ومحدودية المستشفيات المجهزة والنقص الفادح للأجهزة الطبية الدقيقة وخاصة أجهزة التنفس الاصطناعي من اجل دفعهم إلى عدم احترام الكرامة الإنسانية والقبول بميكانيزمات التعويض التي تجعل بعض البشر مجرد وسيلة لخدمة البعض الآخر، فعندما يندر وجود الأجهزة المنقذة للحياة مثل جهاز التنفس الاصطناعي تلجأ السلطة الطبية إلى التضحية بالبعض من اجل البعض الآخر من خلال الاعتماد على ذريعة نقص الوسائل والمعدات الطبية والاعتماد على مفهوم ايديولوجى للتضحية يعتمد على قراءة سطحية للنظرية الأخلاقية النتائجية، وهى نظرية أخلاقية طالما اهتممت بها خلال العقد الأخير داخل بحوثي التي تتعلق بنظريات العدالة، إذ تتناسب هذه النظرية أكثر من غيرها مع سياق الفعل المباشر لأنها تحاول الظهور في شكل مقاربة دينامكية تتحرر من الجمود النظري للمقاربات الكانطية وما بعد كانطية ، فنجدها لا تركز على المبادئ الأخلاقية السامية والنوايا الطيبة بقدر ما تركز على مسؤولية الفعل الذي يقوم على غائية نفعية تنكب على تفضيل مصلحة الأغلبية على حساب مصلحة الأقلية، ولما كان الأمر كذلك فان الجهاز الايديولوجى للأنساق الصحية في العالم وفى تونس قد ينزلق في اغلب الأحيان في تبرير السياسة الصحية بالعودة إلى نظرية أخلاقية تعتمد على أولوية الكل على الجزء وعلى أسبقية المصلحة العامة على العدالة الاجتماعية.
تجبرنا تراجيديا الكورونا وعالم الهلع والغموض على التخلي عن الحرية والعدالة من اجل مصلحة الأقوى وكأنما ثمة عودة للمفهوم السفسطائي للعدالة داخل مأساة الكورونا، إذ تظهر بعض الذرائع الاخلاقوية التي تعول على فهم سطحي وايديولوجى لنظرية التطور الطبيعي والبقاء للأقوى من اجل تبرير غياب العدالة الاجتماعية داخل قطاع الصحة العمومية وداخل المجتمع بشكل عام، وهكذا تغيب العدالة داخل مأساة تقلص عدد الأجهزة الطبية الدقيقة المقاومة للجائحة بل أنها غائبة كذلك في مستوى عدم المساواة بين الجميع في القدرة على مقاومة الجائحة من حيث الغذاء والسكن والنظافة وإمكانية الحصول على الأقنعة الطبية الواقية من المرض، وفى هذا السياق الجرثومى الخطير تلجأ السلطة الرأسمالية المتوحشة إلى منطق التضحية غير العادلة من اجل تجميل جرائمها و الطبية والأخلاقية والسياسية، وتتجرأ السلطة السائدة في أمريكا على التضحية بأقلية من الفقراء السود في أحياء نيويورك البائسة من اجل مصلحة الأمة الأمريكية المهددة بالخطر، وقد ينزلق النسق الصحي في تونس بكوادره وأطباءه في ميكانيزمات التعويض وضرورة التضحية بالبعض من اجل البعض الآخر بل انه قد يحمل مسؤولية استفحال الكارثة إلى كل المواطنين اللذين لم يلتزموا بالحجر الصحي.
ثمة انكباب كبير على البعد الكمي لقطاع الصحة العمومية ، ونعنى بذلك الزيادة القصوى لمجموع المواطنين غير المهددين بجائحة الكورونا و تقليص عدد الوفيات واللذين فقدو حياتهم خلال هذه الجائحة، هناك ضرب من الغائية الشمولية التي تبرر إمكانية التضحية بالأقلية من اجل الأغلبية خاصة ونحن في حرب كونية وحشية لا يجد فيها البعض اى حرج في موت البعض من اجل البعض الآخر وقد يعتبر ذلك السبيل الضروري الوحيد لتواصل الحياة بحيث يجبرنا النسق الصحي الجائر على قبول هذه الميكانيزنات الايتيقية التي تعتمد على التعويض اى تعويض موت الأقلية” المسنين، من ليس لهم مناعة، السود، الفقراء، المهمشين” بحياة الأغلبية الساحقة من القوى العاملة التي تحتاجها المؤسسات العملاقة للأنظمة الرأسمالية المتوحشة والتي تنتظر انتهاء الأزمة من اجل استعادة ميسرتها المضفرة في نهب الفقراء والطبقات المتوسطة وفى الاعتماد على قوانين السوق .
لذلك فان سياق ندرة الأجهزة الطبية وأطباء الاختصاص وغياب تكافؤ الفرص بين الجميع في مقاومة الكورونا يمكن أن يكون سياقا موضوعيا مناسبا لرفض هذه الخلفية الايتيقية البراغماتية غير العادلة لكل انساق الصحة في العالم وخاصة في تونس والشروع في بناء نسق صحي عادل لا يعول فقط على تحسين الأداء ومراكمة النجاحات الكمية على أهميتها بل يجعل الخدمات الصحية الأساسية والخصوصية في متناول الجميع بصرف النظر عن الانتماء الاجتماعي والجهوى والعرقي والديني وكذلك النوعي في إطار الاهتمام بصحة كل الكائنات الحية داخل الطبيعة. فيجب أن يعلم الجميع انه ليس من العدل أن نضحي بالمسنين اللذين بذلوا جهودا مضنية من اجل الأجيال القادمة ومن اجل النهوض بعائلتهم وبوطنهم، وان كان ثمة تضحية فلا يجب أن لا تقتصر على البعض دون البعض الآخر وان نتدرب على التميز بين تضحية غير عادلة وتضحية عادلة وانه من غير المعقول أن تعول السلطة السائدة على تصور غير عادل للتضحية.فهناك تضحية آداتية غير جديرة بإنسانية الإنسان وبحيوانية الحيوان الذي أصبح في نظريات الايكولوجيا الجذرية يمتلك كرامة أخلاقية تجعله جديرا بالاحترام مثله مثل كل الكائنات الحية، فالتضحية العادلة الجديرة بالإنسان هي تلك التضحية التي لا تجعل الإنسان المريض أو المعرض للمرض مجرد وسيلة ناجعة من اجل مصلحة غريبة عنه عادة ما تنعتها ايديولوجيا السلطة الحاكمة بالمصلحة العامة، وان التضحية العادلة التي يجب أن تمثل النواة الايتيقية لكل نسق صحي في العالم هي التضحية التي تقوم على أولوية الكرامة الأخلاقية ، ولا اعني بذلك الكرامة الإنسانية حسب مفهومها المركزي الانسانى بل كرامة كل الكائنات الحية.