افتتاحية الشارع المغاربي: لدينا قَنَاعَة بأنّ كلّ مَنْ لم يسْتوْعب بأنّ “الصِرَاع” في تونس هو “صراع وجود” بين تصوّريْن متضادّيْن لِنَمَطِ الحياة، وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الآن، فَهو لم يَفْقَه شيئا ممّا حدث وما يَحْدث حاليا وما يُحَاكُ لاحِقا.
هناك مَنْ كَان ومَا زَال يشدّ بعيدا إلى الوراء، اعتقادا منه أنّه بإمكانه أن يُوقف عجلة الزمن في فترة مَا من الماضي السَحيق، وهناك من حاول مستميتا وما زال، أن يواكب عجلة الزمن في دَوَرَانِها ويَتَأقْلم مع المتغيّرات دُون أن يَخْرج من جُبّته التونسية. فكان المُنْعَرج مع اسْتقلال تونس، عندما تمّ حسْم الأمْر في اتجاه “تَحْدِيث” البلاد والعباد، لم يكن الأمر سهْلا بالمرّة، ولمْ يتقبّله البعْض من عَبَدَةِ الزمن البعيد، وتَرَسّخت لديْه “أسَاطِير” من الخلْط تلقفتها أجْيَال من بعده، بقي بعْضها ينْتظر متى تحين ساعة “الانتقام” وإرجاع الزمن إلى نِصَابِ حِلْمِه حسب ما يتوهّم. لذلك صبّ كلّ جهده من أجل تحميل دولة الاستقلال كلّ المسؤولية في هذا الخروج عن صفّ الزمن الماضي، وصبّ أكثر ما لديه من هُزَالٍ فِكْري ضَحِلٍ من أجل تحْميل الحبيب بورقيبة هذه الكَبِيرَة.
وانْبَرى بَعْضُهم لاحِقا من أجل تقْوِيض أُسُس “دولة بورقيبة”، توهّمًا منهم أنّها كذلك، بينما هي في الواقع،”دولة التونسيين”، واتجهوا حتى إلى مُصَادمة عنيفة أُولَى مع “الدوْلة” من أجل ترسيخ “النموذج المجتمعي البديل”، “المجتمع الرشيد” في دولة “الخلافة” الموْعودة!، كان ذلك بين سنتيْ 1986 – 1987، وفي ذات الوقت انْبَرَوْا في “حَمْلَة علاقات عامة” تسوّق أنّهم يؤمنون بالحقوق والحرّيات والديموقراطية، وازدادت وتيرة هذه الحملة بعد إزاحة الحبيب بورقيبة من الحكم، إلى أن وقعوا في “الفخ”، وتوجّهوا إلى المُصادمة الثانية، والتي عزموا فيها على إنهاء الحكم بكلّ الوسائل والطرق التي لا تخفى عنهم وعنّا، وكانوا يعتقدون واهمين بأنّ الشعب سينجرّ معهم للإطاحة بالحكم وتأسيس “الدولة الإسلامية”..فكانت “المَحْرَقة” لهم ولنا أيضا وإِنْ بِتَفاوتٍ، والتي تواصلت لسنوات طويلة، وهم يدركون كما ندرك مَنْ يتحمّل مسؤولية جرّهم إليها.
في الأثناء، “اتعظوا”، وحصلت قناعة لديهم بأنّ “المواجهة المباشرة” لا طائل منها، فاتجهوا نحو “مواجهة” فعّالة أكثر، لأنّها خفيّة وغير مُعْلنة، ولا يمكن تحميلهم مسؤوليتها، وفي نفس الوقت تحقق المطلوب وأكثر بالنظر إلى أنّها تقوّض “الدولة” بأكملها فتتطاير ولا يبقى منها شيئا دون خسائر تذكر لهم، وبالأخصّ دون أن يتفطّن أحد إلى ذلك، إنّه إعمال معاول الهدم في أُسُسِ هذه الدولة التاريخية واستهداف مشروعيتها التاريخية والمجتمعية تمهيدا لنزع غطاء الشرعية التاريخية عنها وإنهائها بجرّة وقت لا غير، فالكيان الذي لا أُسُس له سيسقط لا محالة.
بدأ التجسيم فعلا في هذا المخطّط “الخفيّ” في سنة 2009، وتمّ استغلال ظرفية 2011 كي يقع شنّ حملة شَعْوَاء لا مَثيل لها ضدّ دولة الاستقلال والعمل بإحْكَامٍ على اخْتِزَالِها حَصْرِيًا في الحبيب بورقيبة، وكأنّ تونس وقتها خَالِية من السكّان إلاّ منه، حملةٌ بدأت في أفريل 2011 وتواصلت بصفة غير منتظمة إلى الآن، تسْتَعِر وتَهِيج حسب “الأوامر الخفيّة” المُعْطاة وتخْفُت وتضْعف كثيرا حسب نفْس تلك “الأوامر”.
ودعائم هذه الحملة ثلاث: أُولاَها الأشرطة الوثائقية “الموجّهة” والتي “تخصّصت” فيها “قناة الجزيرة الوثائقية” منذ سنة 2009 إلى الآن، ثانيها مواقع التواصل الاجتماعي وتحديدا الفايسبوك الذي بات يعجّ بصفحات متعدّدة عديدة وحسابات وهمية كثيرة مهمّتها نشر “الإشاعة” و”الكذبة” والمبالغة في التحامل على أوسع نطاق ممكن، والانقضاض على كلّ من يردّ على هذه الحملة بِفَاحِش القوْل وهتْك عِرْضِه والكذب والبُهْتان، وتِرْدَاد ذلك بطرق عدّة ومُتَنَاسِقة في ما بينها، حتى يصدّقها المتلقي الذي لديه استعداد تلقائي للتصديق بالنظر إلى ضَحَالَة مستوى العديد من مُرْتَادِي هذه المواقع، وثالثها هيئة الحقيقة والكرامة سابقا مجسّدة خاصّة في رئيستها السابقة وبدرجة أقلّ بعض أعضائها.
هدف أذْرُع هذه الحملة هو وَحيد وأوْحد، لكن، كلّ دعامة لها طرقها الخاصّة في التعبير عنه وتلتقي الأذْرُع الثلاث في ذات النتيجة وهي: شيْطنة الرموز الوطنية وخاصّة هنا الحبيب بورقيبة فتارة، هو السَفَّاح ويداه مضرّجتان بدماء “الأبرياء”، وتارة، هو العميل والخائن الذي بَاع الأرْض والعِباد إلى فرنسا، و”تَسْوِيد” (نِسْبَةً إلى السَوَادِ) فترة الدولة الوطنية الحديثة فسنواتها هي الخراب ذاتها تمهيدا لمحاكمتها تاريخيا، والاستقلال أكذوبة كبرى، و”أبْلَسَة” كلّ من ينتسب إلى هذه الدولة وساهم في تشييدها، ومن ضمنها الاتحاد العام التونسي للشغل، لذا وجب شطْب هذه الفترة تماما من ذاكرة التونسيين، والعمل على نزع أيّ شعور بالفخر والاعتزاز لدى جانب كبير من التونسيين الذين تناقلوا عن آبائهم وأجدادهم “المَلْحَمة” الحقيقية التي قاموا بها من أجل تحرير الأرض وبناء الكيان التونسي المعاصر، وتعويضه لديهم بشعور ينتابهم من الخِزْيِ والعار.
ليس بخافٍ لدينا، أنّ هذه الحملة تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ”الدعاية” التي هي لصيقة بأنظمة استبدادية أوْ / وَشُمولية بغاية خلق رأي عام طيّع ومُطِيع يصدّق هذه الآلة التي أسميناها بــ :”الماكينة”، ولا نخفي سرّا أنّ هذه الدعاية “الهدّامة” قد نجحت في خطّتها وتمكّنت من خلق رأي عام مُوَالٍ لها ومُصَدِّق لِأكَاذيبها، بل، ومُردّد لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، وقد بلغ أوْج التصديق عندما أثارت هذه “الماكينة” شعارا باطلا أريد به باطلٌ وهو “وِينُو البترول” والملح…وألْصَقَتْه زُورًا وبُهْتَانًا بالحبيب بورقيبة الذي صوّرته “عَمِيلاً” باع ثروات تونس وأرضها إلى فرنسا كي تنهبها.
لكن، ما فات أصحاب “الأوامر الخفيّة” أنّ خطّتهم هذه عبثية بل عَدَمِية أصْلا، لأنّ هذا التوجّه بالذات، توجّه الدعاية التي تريد استنساخ تجارب دعايات الفاشية والنازية.. إنّما مصيره الفشل الذريع بل ويرتدّ على أصحابه بالوبال، صحيحٌ أنّ هذه الدعاية قد تنجح في تحقيق أهدافها خاصّة في أُكْذُوبة “الجهويات”، لكن إلى حينٍ.
في الأثناء، وهي تُوغِلُ في الهدم، لن تتمكّن من البناء، لأنّ كلّ أُسُس هذه الدعاية مخالفٌ وبالضِدّ على الوقائع التاريخية الدامِغَة، لذا، فمصيرها حتْما الانْدِثار تمامًا مثل الزَبَد سيذهب هَباءً مَنْثُورًا، وسيرْتدّ كلّ هذا الجُهْد المَحْمُوم الخَفِيّ العَبَثي على أصحابه، فَيَجُرُّهُمْ معه إلى هذا الزبد، وأمّا ما ينْفع تونس فسَيَبْقَى… وسَتبْقَى تونس…
نُشرت بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 23 جوان 2020