الشارع المغاربي-الواثق بالله شاكير: نظّم معهد تونس للتّرجمة يوم 23 ديسمبر الجاري لقاء لتقديم آخر إصداراته: كتاب “العقل المحكم إعادة التّفكير في الإصلاح وإصلاح التّفكير” للفيلسوف الفرنسي إدغار موران والذي نقله إلى العربية عالم الإجتماع التونسي المنصف ونّاس الذي شاءت الأقدار أن يرحل قبل تقديم مؤلّفه الأخير. وحضر اللّقاء الذي أدارته مديرة معهد تونس للتّرجمة الدّكتورة زهية جوير، كلّ من الأستاذ حسّان قصّار الذي تحدّث عن الفقيد وكرّمه قبل أن يقدّم زميله الأستاذ فرج معتوق الكتاب بحضور عائلة الفقيد وبعض زملائه وطلبته ومن عرفوا المنصف ونّاس أستاذا وزميلا وأبا وصديقا وآمنوا بأفكاره وشهدوا بدماثة أخلاقه.
تقديم الإصدار الجديد كان مختلفا لغياب صاحب الأثر هذه المرّة، لكنّ غيابه الجسديّ لم يمنع حضوره في أرواح الحضور وذاكرة كلّ من لبّى دعوة مركز تونس للتّرجمة الذي كان يعدّ لهذا اللّقاء أيّاما قبل أن تسرق المنية صاحب الإصدار عالم الإجتماع المنصف ونّاس.
العالِم الإستثناء
وكان اللّقاء فرصة لتكريم الفقيد الذي يعدّ استثناء على عدّة مستويات حيث يقول زميله الأستاذ حسّان قصّار:”ليس من السّهل الحديث عن عالم بحجم الدكتور المنصف ونّاس الذي جمع خصالا علمية وأخلاقية ندر اجتماعها لدى غيره”، فقد ترك ونّاس بصماته في مختلف المجالات التي خاض فيها واشتغل إنطلاقا من الجامعة إلى المجتمع والسّياسة وانطلقت مسيرته مبكّرا وكان في سنّ الثامنة عشرة حين كتب مقاله الأوّل في مجلّة الفكر قبل أن ينضمّ إلى هيئة تحرير مجلّة “الباحث” في سنوات العشرين وكتابه الأوّل صدر وهو في الثّلاثين. فالمنصف ونّاس ولد باحثا محبّا للعلم والمعرفة مقبلا عليها بنهم وشغف كبيرين وهو ما يفسّر غزارة إنتاجهوتميّزه وبروزه،حتّى أنّ البعض يلقّبه بعميد علم الإجتماع في المنطقة المغاربية.
ولم يكن المنصف ونّاس أستاذا عاديا فقد “جمع خصال مشايخ الزّيتونة وميزات أساتذة السّوربون وانفتح على مختلف الحضارات والمدارس” وتميّز بدماثة أخلاقه وطيبته وهو ما يجمع عليه زملاؤه وطلبته الذين يعتبرونه صديقا وأبا ناصحا حاملا لهموم الطّالب، يمدّ لهم يد المساعدة ويساندهم ويدعمهم باستمرار وبلا انقطاع حتّى أنّ كلماته الأخيرة قبل وفاته حسب أرملته:”أوصي زملائي خيرا بطلبتي”، فهو لم يكن أستاذا عاديا، كان يعتبرهم أبناءه وهو حامي مسيرتهم وموجّههم حتّى أنّه كان يتلقّى اتّصالاتهم في ساعات متأخّرة من اللّيل خلال فترة الإشراف على تأطيرهم وينقل مشاكلهم إلى أفراد عائلته ويسعى بكلّ الوسائل لإيجاد الحلول ومدّ يد العون لهم والعديد منهم يذكر أنّه كان يستقبلهم بالحلوى في الحصص الأولى وأثناء الإمتحانات.
وفي هذا الصّدد تقول الدكتورة فوزية ونّاس أرملة الفقيد:”سلوكه كان رفيعا مع الطّلبة، يتعامل معهم بأسلوب أفقيّ، لا يشعرهم بأنّه أستاذهم وكانوا يتّصلون به في ساعات متأخّرة وهو ما كان يزعجني أحيانا لكنّه كان يلتمس لهم الأعذار وينقل مشاكلهم إلى العائلة. وقد علّمني تأطير الطّلبة وجعلني مغرمة بعلم الإجتماع والسّياسة رغم توجّهي العلمي”.
كلّ هذه الخصال والميزات جعلت من المنصف ونّاس أستاذا إستثنائيا في كليّة 9 أفريل، أحبّه كلّ من عرفه ومن لم يعرفه بشكل مباشر وجعله يحظى باحترام أقرانه وطلبته وتقديرهم إضافة إلى كونه إنسانا مبدئيا وصاحب مواقف ثابتة وكان له دور طلائعي في الجامعة التّونسية وكان مهتمّا بالسّياسة وناشطا ضمن الطّليعة الطلاّبية العربية والاتّحاد العام التّونسي للشّغل حيث شغل منصب الكاتب العام للنّقابة الأساسية للتّعليم العالي بكلية 9 أفريل وكان عضوا بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وكان من بين المطالبين بتجريم التّطبيع وكان مناصرا للقضايا القومية مدافعا عن حقوق الشّعوب ومناهضا لكلّ أشكال العدوان والإحتلال.
ويقول المؤرّخ وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة باريس فرج معتوق:” كان لونّاس إحساس عال بالمسؤولية وكان مهذّبا وطريفا حيث كان يروي لنا النّكت في عديد المناسبات”.
كتاب “الفكر المحكم”
“الفكر المحكم” كان اختيار المنصف ونّاس لتعريب كتاب « la tête bien faite » لصاحبه الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي إدغار موران (1921) وهو آخر أعمال الرّاحل وصدر عن معهد تونس للتّرجمة أيّاما قليلة قبل وفاته. ويضمّ المؤلّف تسعة فصول تتطرّق إلى موضوع إصلاح قطاع التّربية والتّعليم الذي ينطلق في مرحلة أولى من الفكر حسب موران الذي يولي أهمية قصوى للعقل “المحكم” والمنطق والحجاج الدّقيق والدّعوة إلى التّخلّي عن التّراكم المعرفي الذي لا يحبّذه هذا العقل.
وبعد عرضه التحديات في الفصل الأول من الكتاب يدافع في الفصل الثاني عن العقل المؤهّل لتنظيم المعارف لإكسائها دلالة وفق عمل إنتقائي مرتّب ويتطرّق في بقيّة الفصول إلى عدّة مسائل على غرار مساهمة العلوم الإنسانية والطبيعية في دراسة ما أسماه المترجم “الوضع البشري” (الفصل الثالث) وكيفية العيش عن طريق مجابهة الرّيبة لدى النّاشئة (الفصل الرّابع) و”تعلّم وضع المواطن” وإبراز دور التّربية في ذلك (الفصل السّادس). ويتطرّق الكتاب في فصله السّابع إلى “المراحل الثلاث” للتّعليم وهي الإبتدائي والثّانوي والجامعي ويوجّه الكاتب في الفصل الثّامن الدّعوة إلى التفكير في خلق ترابط بين المعارف المفكّكة والمجزّأة و”إصلاح التّفكير” معتبرا أنه ستكون له فوائد عديدة في عديد المستويات ويدعو في النّهاية إلى مواجهة تحدّيات العصر في فصل “في ما وراء التّناقضات”.
ويعتبر إدغار موران المولود في سنوات العشرين بفرنسا (السّنوات المجنونة)، صاحب فكر التّعقد « la complexité » والنّظرة الشّمولية للعلوم والظواهر الإجتماعية ويتبنّى فكرة التّرابطية ويدعو لتجاوز الاختصاص الدّقيق والمعارف المجزّأة وقدّم هذا الكتاب كمشروع لإصلاح التّعليم في فرنسا لإيمانه بأنّ إصلاح المجتمع ينطلق من إصلاح التّعليم وهو ما يشاركه فيه المنصف ونّاس الذي عمل ليلا نهارا على ترجمة هذا المؤلّف المرهق على رأي الأستاذ فرج معتوق الذي أشرف على تدقيق نقله إلى العربية حيث يقول: “المنصف تعب كثيرا في سبيل ترجمة هذا الكتاب المزعج وتطلّب منه وقتا وجهدا كبيرين. فكلّما دخلت مكتبة الكلية وجدت المنصف يقرأ ويكتب” وهو ما أكّدته أرملة الفقيد التي قالت أنّ ولادة هذا الكتاب كانت عسيرة جدّا خاصّة أنّ المنصف ونّاس كان حريصا على دقّة التّرجمة والوفاء للأثر الأصليّ مع مراعاة خصوصية اللّغة العربية.
ويعتبر هذا الإصدار مرجعا مهمّا لكلّ أستاذ ومربّ ومختلف المتدخّلين في القطاع التّربوي والمشرفين على وضع سياساته، وهو ما أكّدته مديرة معهد تونس للتّرجة الدّكتورة زهية جوير التي قالت: “أتمنّى أن يقرأه كلّ معلّم وكلّ من يباشر التّعليم للوقوف على دور التعليم في صناعة العقل المحكم، وقد مهّد لنا المنصف ونّاس السّبيل لمعرفة الآليات ونحن نقرأ ترجمته للكتاب دون أن نشعر بأنّه كتب بلغة غير العربية رغم صعوبة كتابات إدغار موران” وأشارت إلى أنّ تعليمنا اليوم أضاع بوصلة صناعة العقول المحكمة ويعيش أزمة كبرى.
فإصلاح التّعليم كان من شواغل المنصف ونّاس حتى أيّامه الأخيرة ومن أولوياته للخروج من الأزمة التي تعيشها بلادنا منذ سنوات على عديد المستويات. وكانت للفقيد عديد الإصدارات والبحوث التي اهتمّت بدراسة سوسيولوجيا الدولة والمجتمع المدني والنّخب السياسية والثّقافية في تونس والخارج فونّاس لم يكن أستاذا متكلّسا إنّما خرج إلى المجتمع واهتمّ بقضاياه وتميّزت مختلف أعماله بالمقاربات الإجتماعية البنّاءة وهو ما يعكس توجّهاته الإصلاحية التي لن تتوقّف برحيله في الرّابع من نوفمبر 2020 بعد إصابته بالفيروس اللّعين، والأكيد أن كثيرا من طلبته سيواصلون المسير وسيحملون المشعل عن أستاذهم ومعلّمهم الذي يعتبرونه “رجلا بحجم الوطن” ورمزا للعطاء الذي لا ينضب ولا ينتهي وعلى رأي الإمام علي “فالنّاس أموات وأهل العلم أحياء”.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020