الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: حصل ما لا تحمد عقباه وهو ما نبه اليه الخبراء لسنوات، بعد دعوة وزير الاقتصاد والمالية يوم الخميس الفارط مسؤولي البنوك والمؤسسات المالية للتباحث ليس حول سبل دعم الاقتصاد الوطني وخصوصا المؤسسات الصغرى والمتوسطة المهدد جلها بالاندثار بل لطلب معونة مستعجلة تسحب من امانات وودائع حرفائهم من غير المقيمين، وهو ما يمنعه القانون، لتمويل نفقات اجور موظفي الدولة ودعم المواد الاساسية ومصاريف تسيير الادارة والتي ان تأخر صرفها بضعة ايام، فان كارثة حقيقية ستحل بالبلاد.
غير انه ما كل مرة تسلم الجرة، غداة الرفض القاطع لمسؤولي البنوك لطلب الوزير بعد ان استجابوا في مناسبتين لطلبين مشابهين املتهما الوزارة. وجاء الرفض بالتحديد من مديري البنوك الخاصة لاقتناعهم بأنهم غير مطالبين كمؤسسات ربحية بتحمل المآسي المنجرة عن “اخطاء” الدولة المتواصلة وتبعات عدم تفكير السلط المالية في مصير المؤسسات زمن الوباء بما تسبب في نضوب موارد الجباية وهو ما عجل بفشل الدولة التونسية اقتصاديا واجتماعيا في ظل شح كبير للتمويلات، داخليا وخارجيا.
رصاصة الرحمة
في سياق سريالي ورغم علمه الدقيق بوضعية خزينة الدولة التي لا يتجاوز رصيدها حاليا أي يوم الجمعة 5 فيفري الجاري 1769 مليون دينار – حسب موقع البنك المركزي – بما لا يكفي لتمويل اجور شهر فيفري الحالي ونفقات الدعم والتمويل وسائر نفقات الصرف (39874 دينار سنويا / 109 يوميا) – حسب وثيقة ميزانية 2021 ) – أي ان رصيد الخزينة يكفي لنحو 17 يوم انفاق خارج اعتمادات الاستثمار (1769 / 109)، أكّد وزير المالية علي الكعلي يوم 28 جانفي الفارط بكل ثقة في النفس أنّ جائحة كورونا ساهمت في تدهور الاقتصاد التونسي مستدركا بان العمل على الاستثمار – علما ان تونس خرجت من التصنيف في هذا المجال في افريقيا لعام 2020 -قادر على تحسين الاقتصاد ودعم ميزانية الدولة مشيرا بشكل يثير الاستغراب بحكم تضارب اقواله مع ارقام وزارته نفسها الى أنّ تمرير قانون المالية التكميلي 2020، ساهم في خلاص أجور الموظفين وخلاص الديون وساهم أيضا في خلاص أجور المقاولين ودعم الشركات العمومية.
كما اوضح أنّ تمرير قانون المالية لسنة 2021 ساهم في معرفة مصاريف الدولة وبيّن أنّ ذلك القانون يظلّ دائما في حاجة إلى تعديلات حسب أولويات الحكومة والتي تتمثل على حد تعبيره كسائر من سبقه من وزراء المالية منذ 2011 في تفعيل العديد من الإصلاحات. وكشف الوزير أنّ علاقة تونس بصندوق النقد الدولي توقّفت في شهر جوان 2020، عندما طالبت تونس بدعم استثنائي لمجابهة أزمة كورونا وتحصّلت على 730 مليون دولار (2.0 مليار دينار مبرزا انّ أولويات صندوق النقد الدولي شبيهة بأولويات تونس وهي مكافحة جائحة كورونا والرجوع إلى حالة عادية اقتصادية ودعم الاستثمار وتغيير منظومة الدعم وتحسين الشركات العمومية وإعادة هيكلتها وأكّد قائلا ” القوّة تكمُن في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أكثر من المبلغ الذي يقدّمه لتونس”.
وبعد تصريح الوزير بمدة وجيزة، اصدرت مصالح الوزارة مذكرة تنفيذ ميزانية الدولة التي جاءت معطياتها متضاربة بالكامل مع رؤية الكعلي، اذ كشفت ان عجز الميزانية تفاقم بنسبة 91 بالمائة، مع موفي نوفمبر 2020، ليبلغ 7.1 مليارات دينار تبعا لتراجع الموارد الذاتية للدولة بنسبة 6.7 بالمائة لتناهز 26.5 مليار دينار فحسب، مقابل ارتفاع إجمالي النفقات بنحو 6 بالمائة لتبلغ 40 مليار دينار. كما تطورت موارد الاقتراض والخزينة بنسبة 44 بالمائة لتمر الى 13.6 مليار دينار، سنة 2020.
وأشارت مذكرة وزارة المالية الى تطور قائم الدين العمومي بنسبة 9 بالمائة، مع موفي نوفمبر 2020، ليبلغ 91.7 مليار دينار وهو ما يعني انه لم يتم سد العجز على عكس تقييم وزير المالية بل على العكس من ذلك فانه تضاعف الى جانب بلوغ قيمة موارد الدولة مستوى جد متدن لا يسمح بضمان حاجات الانفاق الاساسية من اجور ودعم وتسديد لأقساط الدين العمومي الذي أصبح غير مستدام ولا يمكن لحجم الاقتصاد التونسي ان يتحمل عبئه باعتبار تجاوز قائمة اجمالي الناتج المحلي.
سيناريوهات المستقبل
يستخدم مصطلح الدولة الفاشلة لوصف الدولة التي فشلت حكومتها في القيام بمسؤولياتها. ولجعل التعريف أكثر دقة، فقد قام الصندوق الدولي لدعم السلام أواسط 2005 بوضع بعض الخصائص لوصف الدولة الفاشلة وهي تتمثل أساسا في عدم تقديم الدولة قدر معقول من الخدمات العامة من خلال تمكنها من تمويلها الى جانب العجز على التفاعل كعضو فعال في المجتمع الدولي في سياق ضعف حاد لمردود القطاع الخارجي.
ومن المؤسف أن يؤكد اليوم جُل المتابعين للشأن الوطني وطيف من أطراف دولية مختلفة أن هذه الخصائص تنطبق على تونس وذلك باعتبار عجز الدولة عن التحكم في مقدراتها الأساسية وأبرزها الثروات الباطنية وعدم تمكنها من انفاذ القانون في هذا الإطار سيما في الحوض المنجمي وتخليها بشكل أو بآخر عن دورها في ممارسة أهم احتكار لها وهو الجباية عن قصد او عن غير ارادة منها بالتعويل على الاقتراض المشط وفقدانها الكبير لسلطتها على مستوى تقديم الخدمات العامة.
ويتمثل السيناريو الاول للفترة القادمة أي مع نهاية الربع الاول من العام الحالي في فشل السلط المالية في إصدار مبلغ يفي بحاجاتها من رقاع الخزينة الموجهة أساسا إلى البنوك وشركات التأمين وهو سيناريو اخذت معالمه في التشكل بصفة فعلية ما يؤدي مباشرة إلى تواصل الضغوط على خزينة الدولة وحدوث انخرام كبير لتوازنات المالية العمومية مع انهيار مقومات الاستثمار وقسم من القطاعات الاقتصادية. كما انه من المنتظر، في ذات السياق، الا يكفي تمويل البنك المركزي للميزانية وهو ما ينجر عنه ارتفاع التضخم وتراجع سعر صرف الدينار في سياق يشبه كثيرا ما يحدث في قسم كبير من دول الشرق الاوسط وامريكا اللاتينية.
أما بالنسبة للجوء للتداين الخارجي، فقد غدا مؤكدا أن الحكومة التونسية ستعجز عن ارجاع علاقتها مع الهيئات المالية الدولية والخروج للسوق المالية لرفع 3 مليارات دولار اذ يتوقع الخبراء انه لا يمكن لتونس ان تعبئ، في هذا الإطار، أكثر من 300 مليون دولار على ثلاث سنوات وبنسبة فائدة عالية للغاية تساوي 11 بالمائة نظرا لتدهور ترقيمها الائتماني وتراجع جل المؤشرات الاقتصادية.
اما السيناريو الثاني فيتمحور حول اتخاذ قرار جيوسياسي مهم من قبل كبار الدائنين ويتمثل في جدولة ديون تونس سعيا لعدم تفليسها. ويعتبر قرار إعادة جدولة الديون قرارا مهينا من الناحية السيادية كقرار يتم بمقتضاه تغيير بنود الدين المتعلقة بسعر الفائدة، أو بآجال استحقاق الدفعات عبر تمديد فترة السداد أو بهما معا لكونه يكون مصحوبا بالضرورة بشروط تقشفية قاسية تكون لها تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة، ومرد ذلك أن أهم الدائنين الدوليين (البلدان المنضوية تحت لواء نادي باريس) يشترطون الموافقة المبدئية للمؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) على إعادة الجدولة. ومن المعروف أن هذه المؤسسات تلزم الدول المدينة بانتهاج سياسات اقتصادية انكماشية تقضي بخفض النفقات في الميزانية العامة ورفع الضرائب على الأفراد، مما يعمق مشكل المديونية بسبب تراجع النمو الناجم عن تدني مستويات الاستهلاك والاستثمار، وتترتب عليه كلفة اجتماعية وسياسية عالية، خاصة البطالة والفقر والاحتقان السياسي.
ويؤكد العديد من الخبراء على ضرورة التقاء القوى الوطنية الحية على مجموعة من المبادئ لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية وأولها حماية مؤسسات الدولة من الانهيار والدعم الجدي للمؤسسات الاقتصادية لأنّها الضامن الوحيد لإعادة انتعاش الاقتصاد.
ويقدم الخبراء في هذا الصدد عدة اقتراحات، أولها يتمثل في تعليق المصاريف الثانوية للدولة في إطار ضبط الأولويات عبر تأجيل تسديد ديون المؤسسات العمومية تجاه الدولة، وثانيا إصلاح وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية التي تعرف صعوبات، وذلك من طرف المسؤولين المباشرين لهذه المؤسسات.
كما يدعو الخبراء إلى الإسراع بتمتيع المؤسسات الخاصة بضمان الدولة للحصول على قروض، وكذلك اعادة النظر بصفة عاجلة في دور البنك المركزي في تنشيط الاقتصاد إما عبر شراء سندات الخزينة العامة من السوق أو من خلال التمويل المباشر عبر تقنين هذا الإجراء حفاظا على استقلالية البنك المركزي، وفتح خط تمويلي للمؤسسات الصغرى والمتوسطة وتفعيل حالة طوارئ اقتصادية.