الشارع المغاربي – وكالات: عندما بلغ سن الثالثة والعشرين عام 1997 وصل الإسرائيلي دان جيرتلر إلى دولة الكونغو الديمقراطية التي كانت تسمى الزايير. وكانت البلاد غارقة في فوضى أمنية وسياسية غير مسبوقة بسبب الحرب الأهلية الدائرة في رواندا، والتي كانت الكونغو الديمقراطية مسرحًا لانعكاساتها. ففي تلك السنة غزا تحالف بين الجيشين الرواندي والأوغندي حكومة موبوتو، وتحالف مع شخصيات معارضة من بينها الرئيس السابق لوران كابيلا، الذي أعلن نفسه رئيسًا للبلاد بعد سيطرة قواته على العاصمة.
وحسب موقع “ساسة بوست” ينحدر جيرتلر من عائلة من تجّار الماس، إذ ورث هذه التجارة عن أبيه وجدّه، وفور إنهائه الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، انطلق ليكمل «بزنس العائلة»، وكانت وجهته الكونغو الديمقراطية. واستطاع دان جيرتلر أن ينسج علاقات قويّة مع الرئيس كابيلا الأب، ثم كابيلا الابن الذي ورث الرئاسة عن أبيه في سنة 2001 بعد مقتله من طرف أحد حرّاسه الشخصيين، ليسيطر جيرتلر خلال عقديْن على مناجم البلاد المعدنية.
وتذكر تقارير صحافية أن جيرتلر كان يوفّر للرئيس كابيلا صفقات أسلحة مقابل الحصول على احتكار سوق المعادن في البلاد. بل إن منظمات غير حكومية أفريقية أكدت أن الكونغو الديمقراطية خسرت في ظرف ثلاث سنوات فقط من التعامل مع جيرتلر، ما قيمته 1.3 مليار دولار بسبب «التسهيلات» التي يحصل عليها بشكل غير مشروع.
استطاع رجل الأعمال الإسرائيلي تكوين ثروة خياليّة تقدّرها مجلة «فوربس» بـ1.2 مليار دولار من خلال استثماراته في قطاعات المعادن والفلاحة والبنوك، بفضل علاقاته المشبوهة في هرم السلطة بالكونغو الديمقراطية مع مسؤولين متورّطين في جرائم حرب، أبرزهم الرئيس السابق جوزيف كابيلا.
وخلال عقدين من الزمن، استطاع جيرتلر حسب ما يؤكد موقع “ساسة بوست” نسج علاقات داخل الكونغو الديمقراطية، سمحت له بالحصول على صفقات ضخمة غير مشروعة لتصدير الماس والذهب والنفط، بالإضافة إلى معدن الكوبالت ومعادن نادرة أخرى؛ والتي وثّقتها هيئات حقوقية كونغولية وأفريقية؛ بالإضافة إلى منظمات بريطانية وأمريكية ودولية، وظهوره في «أوراق بنما» و«ملفات الجنّة».
أدوار مشبوهة
أدانت العديد من الجهات دان جيرتلر وسلّطت الضوء على أدواره المشبوهة في الكونغو الديمقراطية، أبرزها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى فرض تجميد أصوله في الولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 2017 أثناء عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وقد قال مراقبون إن قرار العقوبات هذا دفع رئيس الكونغو الديمقراطية إلى عدم الترشّح مرّة أخرى للرئاسة.
وقبل أيام قليلة من مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض، استطاع دان جيرتلر أن يحصل على رخصة سنوية لإلغاء تجميد الأموال التي أودعها في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهو ما سمح له غالبًا بنقل ثروته خارج الولايات المتحدة، قبل أن تُباشر إدارة الرئيس بايدن فرض العقوبات المالية عليه من جديد.
ونقل موقع “ساسة بوست” عن نشطاء كونغوليين أن العقوبات الاقتصادية الجديدة فُرضت على دان جيرتلر بسبب اتهاماته بالتورط في الفساد مع القيادة في الكونغو الديمقراطية، مما أتاح له السيطرة على مناجم الدولة الأفريقية واحتكار استخراج المعادن الثمينة التي تزخر بها البلاد. وحسب «أفريكا بانل» كلّف ذلك البلاد 1.3 مليار دولار على الأقلّ.
ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مصادر رسمية داخل كونغو الديمقراطية، أن من شأن إلغاء تلك العقوبات على رجل الأعمال الإسرائيلي أن يقوّض جهود مكافحة الفساد التي يقوم بها الرئيس الجديد المنتخب ديمقراطيًا، من أجل محو إرث الرئيس السابق جوزيف كابيلا، والذي كان حليف جيرتلر الرئيسي والمتورّط معه بشكل مباشر في قضايا فساد.
سيطرة على الثروات ودعم للدكتاتوريات
ويقول موقع “ساسة بوست”: “رجل الأعمال الإسرائيلي المتورّط مع طبقة «الكونغو الديمقراطية» الفاسدة في احتكار قطاع المناجم ينظر إلى نفسه بصورة مغايرة تمامًا عن تلك التي تصوّرها المنظمات الحقوقية. ففي الوقت الذي تشتكي المنظمات الحقوقية الكونغولية والعالمية من نفوذ جيرتلر لدى السياسيين من أجل السيطرة على ثروات البلاد، فإن هذا اليهودي «الملتزم» الذي لديه 11 طفلًا، والذي يقضي أغلب وقته في الكونغو الديمقراطية ليعود فقط يوم السبت المقدس إلى إسرائيل للعبادة، يرى أن مهمته في الكونغو الديمقراطية مختلفة تمامًا، إذ يعتبر نفسه «مُنقذًا» لهذه الدولة الأفريقية الفقيرة، بل صرّح بأنه «يستحق جائزة نوبل» مقابل مجهوداته في تطوير البلاد ودعم استقرارها”.
ويتابع الموقع “في الوقت الذي امتلأت جيوب جيلتلر بأموال الماس القادم من أفريقيا تبقى الكونغو الديمقراطية أحد أكثر بلدان العالم فقرًا، إذ يقبع أكثر من 72% من السكّان في فقر مدقع، حسب إحصائيات للبنك الدولي لسنة 2018. وقد سمحت علاقات جيرتلر المتشعبة برجال أعمال يهود له بتوسيع إمبراطوريته الاحتكارية لمعادن الكونغو الديمقراطية، إذ عرف كيف يستغلّ هذه المناجم التي غالبًا ما تتكون اليد العاملة بها من الأطفال، ويربطها بشركائه من رجال الأعمال اليهود ليصدّر هذه المعادن إلى العالم”.
ووفق “ساسة بوست” تمثل شركة «غلنكور» (Glencore) المثيرة للجدل أهم علاقات الرجل، باعتبارها أكبر شركة تعدين في العالم من حيث الأرباح، إذ تعدّ أكبر مورّد للزنك والكوبالت في العالم. وقد تأسست الشركة من طرف مارك ريتش، ذي الأصول اليهودية مثل دان جيرتلر، والذي يملك عدّة جنسيات؛ ومعروف بتبرّعاته السخيّة لإسرائيل؛ وقد نعته الصحف الإسرائيلية بشكل واسع بعد موته في سنة 2013.
ويضيف نفس المصدر أن مارك ريتش يعدّ شخصية محورية في الصفقات المشبوهة، بالخصوص مع الأنظمة المفروضة عليها عقوبات اقتصادية والتي تريد تسويق معادنها إلى العالم عبر قناة خلفية؛ اذ سبق لشركته المذكورة أن قدّمت خدمات لكل من نظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا، كما وصفته الصحافة الإسرائيلية بأنّه «الرجل الذي باع نفط إيران لإسرائيل»، وقد كان مارك ريتش في قائمة أكثر 10 شخصيات مطلوبة لدى «مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)» الأمريكي، إلا أنه تحصّل على عفو رئاسي من طرف الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في أواخر أيّامه بالبيت الأبيض؛ ولعلّ ذلك مرتبط بشدّة بتبرّعات مارك ريتش السخيّة لحملة كلينتون الرئاسية.
وتقع جمهورية الكونغو الديمقراطية في جنوب الصحراء الكبرى، وهي ثاني أكبر بلد أفريقي مساحة بعد الجزائر، وهي غنية جدًا بثرواتها الطبيعية وبمعادنها النادرة التي تسيل لعاب الكثير من القوى العالمية. وتزخر الكونغو الديمقراطية بـ80% من احتياطي العالم من معدن الكولتان، الذي يستخدم في صناعة المفاعلات النووية ومحركات الطائرات والأجهزة الإلكترونية المعقّدة والصواريخ وهو ما يجعلها عُرضة للتنافس الدولي الشرس على مناجمها وثرواتها الطبيعية.