الشارع المغاربي: لقد التقت أحداث كثيرة وسياقات متباعدة لإطلاق هبّة مقاومة جديدة في فلسطين ذكّرت العالم بأن آخر قضية كولونيالية لا تزال قائمة. صحيح أن نقل السفارة لم يلهب القدس ولا غيرها من العواصم العربية. صحيح أيضا أن إعلان تطبيع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب مع إسرائيل قد مرّ بسلام في ظاهره. ولكن الاحتقان يتراكم كالحطب ينتظر الشرار.
والصلف الإسرائيلي سخي حين يتعلق الأمر بإطلاق الشرار. لقد جاءت قضية حي الشيخ جرّاح لتؤكد ذلك. إذ أنها خطوة جديدة في طريق طويلة المدى لإتمام ما كانت الحركة الصهيونية قد بدأت العمل عليه حتى من قبل نكبة 1948 التي تزامنت ذكراها الثالثة والسبعون يوم 15 ماي مع بداية المواجهات الأخيرة. هنا لا بد أن نسأل: لماذا تؤدي حادثة تبدو بسيطة في حي من أحياء القدس الشرقية، وتتعلق بتهديد بعض العائلات العربية بمصادرة بيوتها من قبل سلطات الاحتلال، إلى ما لم تؤد إليه حوادث أكبر من حيث الأثر السياسي وأعمق من حيث الرمزية التاريخية، من قبيل نقل السفارة أو إعلان التطبيع؟
من فضائل طرح هذا السؤال أن من شأن الإجابة عنه تذكير بعض المثقفين العرب أن القضية الفلسطينية ليست فقط معركة إيديولوجية مجردة أو صراعا على الرمزيات. وذاك هو الانطباع الذي يغلب حين تشكّل المزايدات في إطار المعارك السياسية الداخلية الصغيرة أسلحة النضال الوحيدة، أو حين تقتصر ساحة النضال على صفحات الفايسبوك التي اكتشف الكثير من أصحابها في الأيام الأخيرة انحيازها للطرف الأقوى واستعداد القائمين عليها للتعتيم المعلن عن الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون.
إن للقضية الفلسطينية واقعا ملموسا يتجاوز الرمزيات والشعارات وصفحات الفايسبوك. وعنوانه أن الملايين من الناس يعيشون يوميا الظلم ويتجرعون شتى أشكال الإذلال. ورغم استعداد قياداتهم السياسية الرسمية إلى تقديم مختلف أشكال التنازلات، فإن الخصم يرفض كل حلول سياسية ممكنة، سواء قامت هذه الحلول على مبدأ الدولتين الذي أسس له مسار أوسلو، أو على مبدأ المساواة في المواطنة إذا كانت إسرائيل عازمة على حرمان الفلسطينيين من حقهم في إنشاء دولتهم.
لا بد أن نتذكّر أحيانا أن القضية الفلسطينية تتعلّق أيضا بالصراع اليومي ضدّ منظومة ميز عنصري. ولا مبالغة في تشبيهها بأبارتايد جنوب افريقيا. إذ أنها تجعل من غزة سجنا بسماء مفتوحة، ومن الضفة الغربية أرخبيلا مما يشبه “البانتوستونات” الصغيرة التي تديرها سلطة فلسطينية تلعب دور الشرطي الحامي لأمن المستوطنين والمتحكّم في الضغط الديمغرافي العربي الذي لا تتحمله إسرائيل. أما عرب الثمانية والأربعين، فإنهم يعيشون في ظل الدولة العبرية كمواطنين من الدرجة الثانية. وأما القدس، فإنها غنيمة للاستيطان. إذ تقع محاصرة أحيائها العربية في إطار خطة طويلة الأمد لتهويدها، أو على الأقل لتحويل تلك الأحياء إلى مجرد “غيتوهات” عربية تحيط بها الأحياء اليهودية.
يخطئ هنا كل من يجد في نفسه حرجا من كلمة “التهويد”. فهي الكلمة التي لطالما استخدمتها سلطات الاحتلال نفسها، وذلك رغم ما فيها من عنصرية بيّنة. وهي تكفي لتذكّرنا أننا إزاء احتلال ذي صبغة استيطانية. وهو يتميّز عن الاحتلال العادي بأنه لا يهدف إلى استغلال الضحية بقدر ما يهدف إلى الخلاص منها. وهو ما يعني أن لا بديل عن المقاومة بشتى أصنافها، وذلك وفقا لظروف كل طرف على الميدان سواء أكان ذلك في غزة أو في القدس أو في الضفة الغربية أو في مناطق الثمانية والأربعين، أو حتى في الشتات.
لقد ازدادت الأوضاع سوءا في العقود الأخيرة. إذ شهدت إسرائيل ترهّلا لكل القوى السياسية التي يمكن أن تعتبر معتدلة، وذلك في ظل الصعود المتواصل لليمين المتطرف الذي أصبح يعتبر من القوى الحاسمة في تشكيل الحكومات في تل أبيب. وأمام الأزمات الداخلية المتواصلة التي يواجهها بنيامين ناتنياهو العاجز منذ سنتين عن تشكيل حكومة مستقرة، يكاد يكون الإمعان في إذلال الفلسطينيين المهرب الوحيد الباقي لديه اليوم من أجل الاستمرار في الحكم وإرضاء حلفائه الأكثر تطرفا. وقد استفاد بالفعل من مواجهات الأيام الأخيرة لتجنب تحالف كان سيقوم بين مختلف القوى السياسية الإسرائيلية المتناقضة من أجل غاية وحيدة، هي الإطاحة به. وهو يأمل الآن أن يؤدي تصلب مواقفه إلى تمهيد طريق الفوز في انتخابات أخرى قد تضطر إليها الدولة العبرية في الخريف المقبل.
ليس الوعي بهذه الرهانات الواقعية مدعاة لتجاهل ما تمثله فلسطين من رمزية للعرب والمسلمين، بل وللإنسانية كلها. ولكن التذكير ببعض عناصر المعادلة ينبّه إلى عبثية المواقف القصووية سواء أكانت قائمة على الرغبة في تصفية القضية الفلسطينية من خلال التطبيع العربي غير المشروط، أو كانت مؤدية إلى طريق مسدود من خلال تحويل القضية إلى صراع نظري بين الخير والشر. وكأن لسان حال العرب يقول للفلسطينيين: اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا، إنا هاهنا قاعدون. ولعلهم أحيانا ما يزيدون، فيقولون: اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا، إنا لأظهركم لطاعنون.
رغم أن صعوبة عناصر المعادلة التي ذكرنا قد تدفع بالبعض إلى شيء من اليأس والإحباط، فإنها تؤكد أيضا على أمر أساسي، ألا وهو أن المقاومة تبقى الحل الوحيد للفلسطينيين. وهم مضطرون لخوضها لا ما حالة. كما أنهم مضطرون لخوضها وحدهم تقريبا. ولذا، فلا بد أن يخوضوها وفق ظروفهم وإمكاناتهم وتنوع سياقاتهم، لا على أساس شهوات باقي العرب من حكومات عاجزة ونخب انتهازية. وعليهم أن يفهموا أن تعدد أشكال هذه المقاومة وطول نفسها هي أوراق القوة التي يملكون.
وللنجاح في هذه المقاومة، لا بد أيضا من الاعتراف بما هو واضح لا نقاش فيه. ذلك أن مسار أوسلو قد فشل. وإمعان السلطة الفلسطينية في الدعوة إلى إحيائه قد أصبح يهدد بتحويل الفلسطينيين إلى ضحية مستسلمة. والضحية المستسلمة يحتقرها الأقوياء ويتجاهلها الضعفاء.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 18 ماي 2021