الشارع المغاربي-حوار : نائلة الشقراوي: هو علم من أعلام الثقافة والتعليم، شخصية أدبية متنوعة التجارب. كتب الشعر ونظّر له، زيتوني التعليم. دعم علمه في ما بعد بالدراسة في جامعات لبنانية ومصرية، في رصيده جوائز متعددة وآثار ادبية ثرية، وتاريخ يدون اسمه بماء من ذهب. «الشارع المغاربي» التقى الشاعر الدكتور نور الدين صمود للحديث عن البدايات وعن الشعر وواقع الثقافة اليوم.
نور الدين صمود قامة شعرية تونسية كبيرة لو تلخص لنا أهم محطات مسيرتك الإبداعية؟
القامة الشعرية لا تختصر بل على من يريد التنويه بشاعر في مثل هذه القامة على حد قولك أن يَدعه يسترسل بما يناسب المقام… ليقف القارئ وليدون التاريخ مراحل المسيرة ويحكم عليها وسأكتفي هنا بذكر مؤلفاتي، «رحلة في العبير، 1969» ، «أغنيات عربية، 1980»، «نور على نور 1986».
من أشعاري للأطفال: «طيور وزهور 1979» و«حديقة الحيوان 1991» و«العروض المختصر» الصادر عن الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1972 اضافة الى «تبسيط العروض» و«زخارف عربية» و«دراسات في نقد الشعر» و«الطبري ومباحثه اللغوية» و«هزل وجد» و«تأثير القرآن في شعر المخضرمين».
نور الدين صمود الذي يعرفه المثقفون كأستاذ جامعي وُلد قبل وفاة الشابي بنحو سنتين وحفظ القرآن في الكُتّاب ودرس على ايادي أعلام الزيتونة علوم المنقول وعلوم المعقول بنفس الطريقة التي درس بها ابن خلدون منذ قرون، وأبو القاسم الشابي، في الثلث الأول من القرن العشرين.
نلت تكريمات وجوائز متعددة منها جائزة الجامعة اللبنانية، 1959 وجائزة لجنة التنسيق بالقيروان 1967 وجائزة الدولة التقديرية 1970 وجائزة أحسن نشيد وطني تلفزيوني 1976 وجائزة بلدية تونس 1977 وجائزة وزارة الشؤون الثقافية 1982 وجائزة أحسن نشيد لعيد الشباب 1990…
ماذا ميّز التعليم الزيتوني آنذاك ؟
ليس في التعليم الزيتوني تعليم إبتدائي.. فلم يكونوا يضيعون وقتا طويلا في تعلم الحروف الهجائية وما إليها بحيث يُدخلونهم في دراسة أدب البحث والمناظرة، والتفكير في مراحل دراساتهم الأولى.
من هي الشخصية الأدبية التي أثّرت في نور الدين صمود الشاعر؟
ليست لديّ شخصيات أدبية قارة مؤثرة بل كان إعجابي في البداية مُنـْـصـبّا على المشاهير ثم انتقل إلى المكتوب لا إلى الكاتب عندما يصبح للقارئ ذوق مستقل قادر على التمييز والحكم السليم. وقد قلت :
قد صحبت الكتابَ قبلَ الشبابِ
وأنا في الحياةِ غضّ الإهابِ
ظلَّ دوماً ملازمِي طولَ يومِي
وهْوَ في الليلِ أخلصُ الأصحابِ
كلما طالَ جَاءني بحديثٍ
يغسلُ القلبَ من ثنى الأوصابِ
وهْوَ عرشٌ يعلوهُ مَن كانَ ملكاً
للمعانِي أقلامُهُ كالحِرابِ واعتلينا ذا القوس بالشعرِ حتّى
أرعشَ الشعر كلّ قلبٍ مذابِ
ماذا أضافت لك تجربة الدراسة في لبنان ومصر؟
هذا سؤال قد يظن البعض أنه لا يحتاج إلى جواب سديد من طفل الأمس البعيد، ذي الرأي الخديج إذ أن انتقال ذلك الطفل من كُتاب القرية، بما فيه من سلبيات لا يعرفها إلا الأطفال وعلى رأسها عصا المؤدب والفلقة الملازمة لها، ولا شك أن كل هذه الأشياء، وغيرها كثير، قد أضافت ما أضافت لذلك الطفل الذي كُـنتـُه، وكذلك النقلة من تونس العاصمة إلى القاهرة عاصمة مصر بنيلها المتدفق من قلب إفريقيا نحو البحر الأبيض المتوسط منذ وجدت في الفضاء الكوني دون أن تـُحَلـّي مياهُهُ العذبة أو تخفف من ملوحة البحر رغم أن الماء الذي تبخر من البحر المالح، يعود إليه عذبا فراتا.
ولو لم يكن في مصر غير النهر الخالد والحضارة الفرعونية وجامعة القاهرة وعميدها أستاذ الأجيال الدكتور طه حسين لكانت جديرة بالسعي إليها، وقد يَسرت الأقدار السفر إلى قاهرة المُعِـزِّ لدين الله في أواخر سنة 1955 ومن حسن الحظ أو سوئه أن ينتقل شاعركم إلى الجامعة اللبنانية التي نال منها الإجازة وهكذا من الكُتاب إلى الزيتونة على جامعة القاهرة إلى لبنان في الأدب العربي وتاريخه، ويكون الفضل في الختام لجامعة الزيتونة في نيل دكتوراه المرحلة الثالثة ودكتوراه الدولة 1990.
ترفض تصنيفك بالشاعر الكلاسيكي، والتصنيف عادة يقوم به النقاد فإذا قمت أنت بدور الناقد فكيف تدلل على أنك شاعر مجدد؟
قلتُ أنا أرفض أن أصنـف شاعرا كلاسيكيا أّي أنّي أرفض أن يكون شعري كشعر شوقي وحافظ ومطران وبشارة الخوري وغيرهم من الكلاسيكيين في أصالتهم، وأن أقـُوم باجترار ما مضغه السابقون جيلا عن جيل دون خَلـْقٍ جديد فيكرر كل شاعر معاصر شاعرا سابقا، فلو تواصل الشعراء الجدد في تقليد القدماء ضاربين الصفح عن شعر أبناء عصرهم مجددون في تجديدهم والكلاسيكيون في تجذرهم لكان لنا أدب جديد حي ثابت على أصول يرتضيها المجددون والمحافظون.
كتبتَ الشعر العمودي والحر، أيهما أقرب إليك، ولماذا؟
القرب والبعد والسهولة والصعوبة حكم لا نرتضيه للشعر وللشاعر. فأما كون الحر أسهل لدى المبتدئين فهذا لا دخل له في التعيير أو التقييم فالشعر كما قال الحطيئة:
الشعر صعب وطويلٌ سُلَّمُهْ
إذا ارتقَى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه ْ
يريدُ أن يُعربه فيُعجمُهْ
فالشاعر الحق هو الذي يفضل الأجود ولا يهمه الشكل. وهذا الحكم يمكن تطبيقه على كل شيء.
وصفت الشابي بـ«الشجرة التي غطت الغابة». وقلت إن معرفة المشارقة بالشعر التونسي توقفت عند حدود الشابي (1909 /1934) فلمن يعود التقصير برأيك في عدم وصول تجارب شعرية هامة إلى مستوى شهرة الشابي؟
جوابنا هنا ذو حدين أولا فيه اعتراف بزعامة المجاهد الأكبر واعتراف، في الداخل والخارج، بعبقرية الشاعر الجنوبي أبو القاسم الشابي وفيه إجماع على نبوغ الشابي والحديث عنه يطول، فالشابي وبورقيبة مثلا غطيا على غيرهما في ميدانيهما كما هو معروف .
ما هو المشروع الفكري والثقافي الذي تمنى الشاعر والأكاديمي نور الدين صمود أن ينجزه ولم يتحقق؟
في نطاق ما حقق نور الدين بمجهوداته وأمواله أكثر من الكثير ولكنها لم تجد من يهديها سواء السبيل فامتلأت بها جيوب وحسابات الآخرين فلتقل العدالة لهذا وذاك: من أين لك هذا؟ وليت اللغة تسمح لنا أن نقول لبعض من لم ينالوا حقوقهم وحظوظهم: [من أين ليس لك هذا؟]
ولو وضعت قدما من تسألون في بداية الدرب السليم لحقق الكثير دول: العين بصيرة، واليد قصيرة ونحن نود أن يتفوق المنشود على الموجود لكن هذا الموجود لا يستطيع أن يحقق ذلك، وكل وزير جديد يلقي باللائمة على سلفه الموجود، وأن لا نكتفي بإحياِء التراث، ونوصي أحفادنا بأن يهتموا بالبحث عما دفنا من بعض تلك الرِّغاب ببعثها من الأجداث، وقد ساعدتني الأقدار على تحقيق بعضها ولكن كان جزاؤنا عليها جزاء سِنِمّار. هكذا شربوا عرقنا وأكلوا حقوقنا بحجج اصطنعوها، بيْدَ أننا ما زلنا نطالبهم بأن ينظروا إليها بعين القانون والعدل والقسطاس المستقيم.
عجزوا عن التعبير فطالبوا بـ«التغيير» هذا ما قُلتَه عن الذين يعادون العَروض.. فهل تتخذ موقفا سلبيا من قصيدة النثر ؟
هو كلام شبيه بما وقع للاعب سيرك (كلون) يمشي كل يوم أمام الجمهور فوق حبل فيصفق له الجمهور على أداء هذا الدور البارع، وذات سهرة كبرى غاب ذلك (الكلون) عن أداء ذلك المشهد وإذا بشخص عادي يمد على الأرض حبلا ويمشي عليه، ساخرا فأضحك الجمهور أضعاف ما أضحكهم المهرّج في عروضه السابقة، ولكن ذلك البديل لو كرر ذلك العمل لأطرد صفعا وركلا، إذ لا براعة في ما قام به أمام جمهور غفير، فالشعر فن لا يتقنه إلا ذوو البراعة والخبرة فيه.
ألا ترى َأن الشعر العربي في خطر خاصة مع بروز ظواهر شعرية يُقبل عليها الجيل القديم والجديد كالهايكو والنّانو والومضة والشذرة؟ وكيف نضمن تواصل الشعر العمودي والحر لأجيالنا القادمة حتى يصبح من التراث ؟ وهكذا يهتم بشعرنا الحاضر أبناء القرن القادم؟
لست من المناهضين للتجديد فما كان من التجديد صالحا سيثبت وينمو وما كان طالحا فمآله الموت الزؤام، والطريف في الموضوع أن سؤالك فيه خشية على مستقبل الشعر العمودي من خطر الحر عليه لسهولته، وعندي يقين بأن لا خطر على الشعر إلا مِن العاجزين عن التعبير السليم.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 1 جوان 2021