الشارع المغاربي: “إن أسوأ ما أخشى أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة عودوا إلى القدماء”.
سلامة موسى
أخيرا حكم البلاد من تعاطف معهم جزء من التونسيين جهرة حينا ومن وراء الستار أحيانا أخرى مند أزيد من عشر سنين بعد اضطرابات مشروعة وشرعية ضد نظام نخره الفساد والاستبداد استثمرتها القوى الأجنبية ليعرف أغلب التونسيين بعد ذلك أنها لم تكن عفوية التوقيت لتمهد ” ثورة الياسمين ” لانطلاق ما عُرف بالربيع العربي الذي سيتبين لاحقا أنه لم يكن إلاّ خريفا إسلاميا أكمل مهمة تدمير أو إنهاك الدول الوطنية ذات الملامح الاشتراكية أو القومية أو المشوبة بالعلمانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. ولا شك أن التاريخ سيحفظ أن هؤلاء الإسلاميين هم من مد اليد للغرب الأطلسي للتنكيل ببلدانهم. فقد كانوا وقود خططه في السيطرة على هذا العالم العربي بانخراطهم في مشاريعه وخدمة أهدافه متوهمين انهم يستعيدون مجدا ضائعا وأحقية بالحكم باسم مرجعية دينية تحتاج إلى فضل بيان وتتخفّى وراء الديمقراطية مطية للحكم منذ خطط بريجنسكي الشهيرة فتنقلوا منذ أفغانستان من جبهة إلى جبهة. كما سيذكر التاريخ أن جزءا من الشباب التونسيين كانوا وقودا وحطبا في معارك جغراستراتيجية لا ناقة لتونس فيها ولا جمل أدخلت بلادنا في صراع لم ولن تخرج منها إلاّ مثخنة بالجراح: جراح من لا يستطيع أن يكون إلاّ هامشا لا معنى له متدثرا بالإسلام في لعبة الكبار على الثروة والنفط والتمكين للصهيونية.
وكانت كل هذه الأحداث فرصة ليفهم التونسيون أخطار الإسلام السياسي عندما يتولى مصائر البلاد والعباد دون أن يكون لا قادرا ولا مؤهلا على جميع الأصعدة ليتولى هذه المسؤولية الخطيرة التي أدت بالبلاد إلى ما يعرف الجميع اليوم ويحس بوطأته في البيت والشارع والسوق وصولا إلى أركان الحكم وإدارة شؤون ما تبقى من الدولة التي دفع التونسيون لإرسائها من دمائهم الزكية دون أن يطلبوا ثمن ذلك جزاء ولا شكورا سوى أن يروا أحفادهم يقطفون ثمرات ذلك الكفاح تعليما وصحة ورفعة بين الأمم .
لا شك أن هناك جماعات سياسية أخرى شاركت الإسلاميين في الحكم بتونس بكيفيات مختلفة بعضها مناولة وبعضها للحفاظ على امتيازات أو بحثا عن الغنائم أو لقصور نظر سياسي لا يدرك جوهر المشروع السياسي للإخوان على المستوى الإقليمي والنهضة على المستوى التونسي. ولكن حركة النهضة تبقى هي الوحيدة القوة الأكبر التي تحكمت في مفاصل الحكم وتتحمل القسط الأكبر في مسؤولية ما وصلنا إلى من خراب معمم وحان الأوان ليفهم التونسيون أية نهضة تحتاجها البلاد والتفريق بين النهضة الحقيقية والنهضة الزائفة.
فمعارضة النهضة ومتعلقاتها من الحركات الإسلامية الرديفة التي تناسلت من رحم حركة الإخوان المصرية منذ أكثر من تسعين عاما لا يجب أن يعود إلى نفور من ممارسات سياسية معينة ونتائجها الكارثية في تونس والبلاد العربية فهذا أمر لم يعد يجهله أحد سليم الطوية بل يجب أن يرجع أيضا وبالأساس إلى:
-1 أن النخبة السياسية النهضوية هي نخبة ماكيافيلية بمعنى أنها تفتقد إلى أية مرجعية ايتيقية تجعل من الفعل السياسي فعلا نبيلا غايته “خير المدينة” وإنما هي نخبة غارقة في الفعل السياسي في أسوا معانيه بما هو عمل لا يهدأ من أجل الحصول على السلطة وما اتصل بها من الأموال والمغانم والحفاظ عليها بأية سبيل. ولذلك تجد أن هذه النخبة في عملها السياسي ضعيفة الصلة بالمرجعيات الدينية والأخلاقية والضوابط الإيتيقية وتراها تنقلب من الموقف إلى نقيضه ومن التحالف إلى عكسه دون وخز ضمير أو أي حرج. ولذلك فقدت وتفقد كل يوم جزءا من رصيدها الذي اكتسبته من سنوات ما كانت تسميه نضالا ضد الاستبداد تطالب اليوم بجبر ضرره أو التعويض عنه حتى صارت هذه النخبة في ضمير التونسيين دليلا حيا على الانتهازية والنفاق وكل عناوين الشرور الأخرى. أما عوام الحركة فمعلوم أن الكثير منهم يعبرون سرا وعلانية عن غضبهم من هذه المسافة بين سلوك النخبة القيادية وممارستها السياسية التي لا يمكن تبريرها بأية مرجعية أخلاقية إسلامية تربوا عليها في الأدبيات التي كانت تغذي وعيهم السياسي والديني والأخلاقي لعقود طويلة زمن النقاء النضالي والطهر السياسي وهو أمر غير مستغرب ويمكن فهمه ما لم ينجب هذا الإسلام السياسي أية قيادات فكرية ذات وزن في مجال الفكر طوال قرن من الزمان حتى الآن. فالإسلام الذي تربوا عليه هو في صورته الحالية لم يخضع إلى أية ممارسة نقدية راديكالية بالمعنى الفلسفي للكلمة وبالتالي فكل بناء لأية ممارسة سياسية أو اقتصادية أو دينية على النصوص التي تربوا عليها هو أمر محكوم بالفشل ولا يمكن إلاّ أن يؤدي إلى مزيد الإغراق في تقديم بدائل وهمية في سياقات تاريخية جديدة تتطلب إجابات جديدة وبالتالي لا يمكن للنهضة أو غيرها أن تتخذ من ديانة هي في حالة تعثر تاريخي منطلقا لبعث حياة جديدة في أمّة متماوتة والإسلاميون في تونس لا يشذون عن هذا التوصيف.
-2 هذه الحركات الإسلامية السياسية لم تنجب ولن تنجب مفكرين قادرين على إخراج الإسلام من مأزقه التاريخي ناهيك عن تدبير الدول في عالم معولم ومعقد لأنها كائنات مجترة اقصى ما يمكن أن تفعل هو أن تنجب جيشا إنشائيا قادرا على التجييش والتخدير وتنجب كائنات تتميز في الشرح والتلخيص والتحشية والتقعّر في الكلام أو في التبسيط المخل والإيهام بالتمكن من المعارف القديمة وتطبيقها على مشاكل العالم الحديث. ويكفي أن تقرأ لبعض رموز هذا التيار لتجد خليطا عجيبا من المماهاة بين الديمقراطية والشورى وبين صحيفة النبي المشهورة بدستور المدينة وحقوق المواطنة وغيرها من المضحكات التي تغرق الأجيال الجديدة غير المتمكنة من المعارف الدينية المعاصرة في صور من التنويم الكارثي. وهذا العجز في نظري هو عجز هيكلي وعليه فإن على هؤلاء المنتسبين لهذه الحركات الدينية السياسية والتونسيين منهم على وجه الخصوص أن يكفوا عن ممارسة السياسية باسم الدين وليتوقفوا عن ذلك لقرن آخر على الأقل في انتظار أن يظهر من هو أهل للقيام بتسويات لحساب التاريخ: تسويات مؤلمة تخضع نصوصها التأسيسية للمساءلة التاريخية النقدية وهي مساءلة لن تبقى منها سوى نواة صلبة صغيرة أخلاقية بل ايتيقية تحديدا هي الوحيدة القابلة للحياة والقادرة على تجديد خلاياه الأخرى.
إن أكبر خديعة يتعرض لها التونسيون اليوم هي تسمية حركة دينية رجعية سياسيا وعقيمة فكريا باسم النهضة. ولو عرفوا تاريخ هذه الكلمة وخطرها لما تجرؤوا على هذه التسمية. فالنهضة التي تعود إلى نصوص الماضي لتجد إجابات الحاضر والمستقبل هي خديعة ورحم الله سلامة موسى أول من وقف في وجه فوضي الاصطلاح فكتب “نحن في نهضة فيجب أن نفهم معاني النهضة ويجب أيضاً إلاّ نقف منها موقف المتفرجين، إذ علينا أن نعمل فيها ونعاونها ونعيش اتجاهاتها نحو المستقبل. النهضة ثراء وقوة وثقافة وصحة وشباب. ولكن قد يكون الثراء مؤلفاً من نقود زائفة كما قد تكون القوة والثقافة والصحة والشباب خداعاً وليس حقيقة”.
إن لا صلة للنهضة التونسية بالنهضة الحقيقية وما فيها من خصب في كل أشكال العبارة والعمارة والفن والدين والفلسفة والسياسة ولا هي حركة إصلاحية بما للإصلاح من مآثر على تجديد الدين من الداخل، هذا الإصلاح الذي خرجت من رحمه أوروبا الحديثة والنهضة الحقيقية تتجه إلى المستقبل وليس إلى الماضي.
إن أول الدروس التي يجب أن يعيها التونسيون لإصلاح ما فسد من أمر حياتهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع هو أن يفهم الدساترة الحقيقيون المنتمون لتراث حركة الإصلاح واليسار بكل أفرعه القومية والماركسية أن عليهم وضع اليد في اليد ونسيان ثارات الجاهلية لأن ما يجمع اليسار بالدساترة أكثر مما يفرقهم في هذه المرحلة وعلى أحدهما أن يقوم بالخطوة الأولى في هذا الاتجاه إنقاذا للوطن ممن ليس الوطن بالنسبة إليهم إلاّ…”حفنة من تراب عفن”.
إن الإسلام السياسي يتمدد ويقضم كل يوم جزءا من مستقبل البلد وحاضره وماضيه وهو يحتاج إلى الوقت اللازم للتمكين والإطباق وكان ذلك واضحا منذ البداية فالوقت هو إكسير الحياة بالنسبة اليه والأوكسجين الذي به يحيى ويفتقده التونسيون هذه الأيام وهو مستعد ليواصل قصة التوافق إلى حين لحظة الانقضاض الكامل والنهائي.. ويجب حرمانه من هذا الوقت بكل السبل…. فهل يفهم الجميع يسارا وقوميين ودساترة درس بورقيبة في ضرورة التفريق بين المهم والأهم ودرس لينين في ضرورة القيام بخطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء…. والفرصة النادرة التي قدمها لهم الشعب في ذكرى جمهوريته لكي يرجعوا المارد الإسلامي إلى قمقمه وحجمه الحقيقي ويكفّوا أذاه عن البلاد والعباد أم على قلوب أقفالها؟
إني أخاف على وطني ..
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 3 اوت 2021