الشارع المغاربي: لم يكن للجزائر حضور في الساحة السياسية التونسية مثلما هي عليه الحال اليوم . فمنذ التطورات التي عرفتها البلاد ودخولها في ما يسمى بالحالة الاستثنائية بتفعيل رئيس الجمهورية قيس سعيد الفصل 80 من الدستور يوم 25 جويلية الماضي ، نزلت الجزائر بثقلها على اكثر من مستوى بقيادة وزير خارجيتها رمطان لعمامرة الذي كانت له 3 زيارات و3 لقاءات بالرئيس سعيد في اقل من شهر كان محملا فيها برسائل شفوية وكتابية من الرئيس عبد المجيد تبون زيادة على الاتصالات الهاتفية بين الرئيسين والحراك الجزائري الاقليمي الذي شمل خاصة القاهرة وانقرة.
دأبت الجزائر على توصيف مختلف الازمات التي عرفتها تونس امنية كانت او سياسية بأنها منطلق لمؤامرة تستهدف استقرارها. فالربط بين ما يحدث في تونس بمخططات « خبيثة» تستهدف الجزائر من ثوابت السياسة الدبلوماسية لـ»الجارة الكبرى» في علاقتها بتونس خلال عشرية ما بعد الثورة تُدرج فيها تونس كامتداد للأمن القومي الجزائري. ولا يبدو ان الامر مختلف اليوم مع ما نشهد من تحرك جزائري غير مسبوق تعددت القراءات بخصوصه .
سجل يوم امس الاثنين كانت لوزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة تصريحات لافتة أدلى بها مباشرة بعد لقاء جمعه برئيس الجمهورية قيس سعيد قال فيها ان الرئيس سعيد حمله بـ « أفكار هامة وبمعلومات دقيقة وبتحاليل في غاية الاهمية سيتقاسمها مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون فور وصوله الى بلاده» .
وتأتي هذه التصريحات بعد يومين من اعلان سعيد عن وجود مخطط لاغتياله مما اوحى بأن المعلومات الدقيقة التي يتحدث عنها لعمامرة تتعلق على الأرجح بهذا المخطط الذي لم تقدم رئاسة الجمهورية اية تفاصيل تذكر بخصوصه رغم الخطورة التي يكتسيها في ظرف دقيق تمر به البلاد ولم يحظ بأي تفاعل خارجي على عكس حادثة «الطرد المسموم» والاتصالات التي تلقاها سعيد من عديد الرؤساء والزعماء.
ولعمامرة يعرف جيدا الساحة السياسية التونسية وهو الذي كان وزيرا للخارجية خلال الازمة السياسية الحادة التي عاشت على وقعها تونس صائفة 2013 اثر اغتيال الشهيد محمد البراهمي. يُمكن القول ان الوضع اليوم شبيه الى حد ما بأحداث تلك الصائفة من ذلك تعليق أشغال المجلس التأسيسي اثر اعتصام المعارضة في ساحة باردو.
وقبل الغوص في الدور الجزائري وماهيته ، من المهم العودة الى سجل الحراك الجزائري في تونس منذ اعلان سعيد عن تفعيل الفصل 80 يوم 25 جويلية 2021 : يوم 26 جويلية 2021 :
الرئاسة الجزائرية تعلن ان الرئيس عبد المجيد تبون تلقى اتصالا هاتفيا من نظيره التونسي قالت انه تم خلاله تبادل مستجدات الوضع في تونس . مكالمة لم تعلن عنها في المقابل رئاسة الجمهورية التونسية.
يوم 27 جويلية 2021 : رمطان لعمامرة يصل الى تونس ليكون بذلك اول مسؤول يزور البلاد اثر تطورات 25 جويلية. الوزير كان محملا برسالة شفوية من تبون لنظيره التونسي .
يوم 30 جويلية 2021: مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وعبد المجيد تبون . بلاغ دائرة الاتصال في الرئاسة التركية اكد ان الرئيسين تباحثا العلاقات الثنائية والتطورات الأخيرة في تونس فيما قالت الرئاسة الجزائرية انه تم التطرق خلال المكالمة الى قضايا المنطقة.
يوم 1 اوت 2021 : رمطان لعمامرة يلتقي رئيس الجمهورية المصرية عبد الفتاح السياسي وتأكيد ثنائي على دعم الاجراءات التي اعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيد .
1 اوت 2021 : في نفس اليوم يصل لعمامرة الى تونس بشكل مفاجئ ويلتقي مجددا قيس سعيد ويسلمه ثاني رسالة شفوية من الرئيس تبون .واكد وفق بيان صادر عن الرئاسة التونسية انه « مبعوث خاص» للرئيس الجزائري وانه يؤدي مهمة لدى عدد من الدول الافريقية والعربية تحضيرا لاستحقاقات مهمة من بينها القمة العربية التي ستتراسها الجزائر.
1 اوت 2021 : اعلنت الرئاسة الجزائرية ان الرئيس تبون اجرى اتصالا هاتفيا مع نظيره التونسي وان الاخير أعلمه بأن بلاده «تسير في الطريق الصحيح لتكريس الديمقراطية والتعددية وستكون هناك قرارات هامة عن قريب».
4 اوت 2021: اتصال هاتفي بين وزير خارجية الجزائر ونظيره التونسي عثمان الجرندي قالت الخارجية الجزائرية انه يندرج في اطار سنة التشاور والتنسيق المتبادل .
9 اوت 2021: أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أن ما يحدث في تونس شأن داخلي، وأنها قادرة على حل مشاكلها بنفسها دون أي ضغط خارجي، مشددا على أن الجزائر ترفض أي ضغط على تونس أو تدخل في شؤونها الداخلية. وقال تبون في لقاء مع ممثلي وسائل الإعلام الجزائرية،» «تونس ماضية نحو الوصول إلى حل لمشاكلها الداخلية»، مرجعا سبب الأزمة لاختيارها نظاما لا يتماشى مع تركيبة العالم الثالث» كاشفا ان قيس سعيد اعلمه بأمور قال انه لا يمكنه البوح بها. 15 اوت 2021 : عبد المجيد تبون يلتقي وزير الخارجية التركي وبيان للرئاسة الجزائرية يؤكد تقارب وجهات النظر في عديد الملفات منها التطورات بتونس
23 اوت 2021 : أعلنت الرئاسة الجزائرية أن الرئيس عبد المجيد تبون اجرى اتصالا بنظيره التونسي قالت انه شدد خلاله على تضامن الجزائر مع تونس في هذه المرحلة. 23 اوت 2021: وزير الخارجية رمطان لعمامرة في زيارة ثالثة الى تونس منذ تطورات 25 جويلية 2021 حمل فيها رسالة كتابية من تبون لنظيره التونسي .
في الدور الجزائري كانت للجزائر عين رقيبة على تونس منذ ثورة 14 جانفي وليس من المبالغة القول ان السلطات الجزائرية « أوصت» تونس منذ ذلك التاريخ بتجنب تام لأية ايحاءات بان الثورة التونسية قابلة للتصدير. وليس ادل على هذا الحرص الجزائري حادثة غريبة جدت خلال زيارة رسمية لوفد تونسي رفيع المستوى الى واشنطن تحدث خلالها وزير الخارجية ( نتحفظ على ذكر اسمه) بإطناب عن التجربة التونسية ووصفها بالمثال. الإعلاميون المرافقون للوفد نقلوا حرفيا مداخلة الوزير التي كانت في احدى اعرق الجامعات الأمريكية قبل ان يٌفاجأوا بالوزير يطلب منهم « تغيير تصريحاته وتدقيقها عبر حذف كلمة مثال».
الوزير فوجىء بدوره بموقف الإعلاميين الذين تمسكوا بحرفيتهم في نقل تصريحاته ورفضوا تعديلها بما جعله يخرج عن تحفظه ويؤكد انه تلقى اتصالا من « مسؤول كبير في الجزائر» اعرب فيه عن امتعاضه مما تناقلت وسائل إعلام تونسية من تصريحات نُسبت اليه وتضمنت إشارات فُهم منها ان تونس تسعى لتصدير ثورتها إلى الخارج . الأمر لم يقف عند هذا الحد اذ كانت لنفس الوزير تصريحات مُوجهة قال فيها» نحن لا نريد تصدير دساتير او تصدير ثورات.. هدفنا تصدير منتجاتنا وخبراتنا وصورة نموذجية عن بلادنا» .
شكل هاجس تصدير الثورة التونسية احد أكثر المخاوف الجزائرية بعد الثورة خاصة مع تصدر « ثوريين» المشهد الحكومي وكذلك القرب الذي ميز علاقة الرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي بالمغرب . تقارب ردت عليه الجزائر بتمكين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من «حظوة خاصة» تجلت في استقباله من قبل الرئيس الجزائري انذاك عبد العزيز بوتفليقة في 4 مناسبات دون ان تكون له اية صفة رسمية في الدولة . وتحدثت وسائل اعلام جزائرية وعربية منها «الجزيرة» خلال تلك الفترة عن « علاقة قديمة مميزة تجمع الغنوشي ببوتفليقة تعود الى أيام وجودهما في المنفى الاجباري بالنسبة للغنوشي والاختياري بالنسبة لبوتفليقة في مدينة العين الاماراتية» .
وكان الغنوشي حتى انتخابات 2014 المخاطب الرسمي بالنسبة للجزائر التي ايدت بقوة اعتماد النظام البرلماني كنظام حكم وأيدت ما سمي بالتوافق بين «الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي».
بعد القلق من تصدير الثورة ومن «الثوريين المغامرين» ، كانت للجزائر مخاوف امنية في تونس مع تتالي الهجمات الارهابية . وشكلت الجارة احد أهم الدعائم الاستخباراتية للحكومات المتعاقبة .
في هذا الصدد أكد مسؤول سابق رفيع المستوى لـ»الشارع المغاربي» دور الجزائر في هذا المجال ذاكرا مثالا يُلخص وفق تقديره طبيعة ذلك الدور وهو عملية هنشير التلة الارهابية التي جدت يوم 16 جويلية 2014 واسفرت عن استشهاد 15 جنديا . كشف المسؤول السابق انه كانت « للسلطات الجزائرية نبرة حادة تجاه رئيس أركان جيش البر وقتها امير لواء محمد صالح الحامدي والتي كانت وراء استقالته من منصبه وهي استقالة بمثابة الاقالة.
الهاجس الجزائري من الخطر الارهابي في تونس وما كانت الجزائر تعتبره» قلة خبرة الاجهزة التونسية في التعاطي مع هذا الخطر الداهم» دفعاها لتكون فاعلة بقوة في ادارة هذا الملف. من ذلك انها طرحت على تونس فكرة « مشروع قانون التوبة» الذي شبهته بميثاق السلم والمصالحة الذي طرحه بوتفليقة للاستفتاء سنة 2005 وطوت به الجزائر صفحة العشرية السوداء.
وعكس الأصوات التي ارتفعت رفضا لاية تدخلات خارجية منها بالخصوص الخليجية والأمريكية والفرنسية في تطورات 25 جويلية ، لم يثر الدور الجزائري أية تحفظات كانت من أي فاعل في تونس رغم تعاظمه بشكل لافت.
من جهة أخرى تنظر حركة النهضة الى هذا الدور باطمئنان وارتياح وترى انه الضامن لقطع الطريق أمام المحور الإماراتي السعودي. ولان ينفي مصدر من النهضة وجود « اية اتصالات بين الحركة وأية جهات جزائرية كانت» فانه لا ينفي لـ» الشارع المغاربي» ان» الدور الجزائري يبعث على الأمل في العودة إلى طريق العقلانية «من جارة يقول انها « خبرت اخراج الاسلاميين من الحكم ظلما وتعلم تداعيات ذلك على السلم الاجتماعي وعلى البنية الديمقراطية» .
واعتبر ان « الجزائر سترفض بشكل قاطع أي موطىء قدم لحلفاء اسرائيل في تونس» وانها» ستذهب في اتجاه تحصين سيادة القرار الوطني التونسي بعيدا عن تدخل فرنسي او سعودي امارتي» مشددا على ان ذلك يمثل» تسوية جيدة للنهضة التي يؤكد انها» منفتحة على تنازلات وعلى خروج من الحكم والتموقع في المعارضة وعلى ان تنتظر من الرئيس قيس سعيد خارطة طريق ورؤية واضحة للفترة القادمة شريطة ان « تكون في ظل الدستور» .
في الجزائر، يرى محللون ان بلادهم تتعامل مع تونس على أساس أنها امتداد لأمنها القومي وعلى ان استقرارها من استقرار الجزائر». ويعتبر رشدي شباحي في تصريح لـ» اندبندنت» ان التحركات الاخيرة المكثفة للجزائر جاءت للرد على « التحركات الدولية الداعمة لطرفي الصراع» في اشارة الى النهضة ورئيس الجمهورية قيس سعيد والتي قال انها اثارت حفيظة الجزائر وشكلت تحديا لدورها الإقليمي في المنطقة مع ما تشهد ليبيا من تطورات وتحسس للاستقرار .
بالتوازي مع ذلك تُطرح روايات حول وجود وساطة جزائرية تركية تتعلق بخروج أمن لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وتمكينه من « دور يحفظ ماء الوجه لترتيبات ما بعد 25 جويلية». الوساطة تحدثت عنها وسائل اعلام تركية ذكرت ان اردوغان نزل بثقله عبر تكثيف القنوات الدبلوماسية مع الجزائر التي تحظى بـ» الأسبقية الطبيعية والموضوعية والتاريخية « مقارنة ببقية الدول للعب دور في تونس. وهذا التكتيك التركي هو في قراءات أخرى ، اختباء وراء الجزائر بهدف إنقاذ الغنوشي والنهضة .
في المقابل تزداد المخاوف مما يخفي التحرك الجزائري الذي قد تكون وراءه معطيات ومعلومات حول مخاطر تهدد بشكل جدي استقرار بلاد اصبحت مفتوحة على كل السيناريوهات وباتت مختلف عواصم العالم تتعاطى معها كملف امني.
*نشر في أسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة يوم 24 أوت 2021